هل ينبغي أن يثق الإنسان في ذاكرته؟ تتحدث الطبيبة النفسية جوليا شو في كتابها “وهم الذاكرة” (The Memory Illusion) عن حالات تلاعب الذاكرة بالإنسان، سواء في المواقف غير المؤذية -مثل الذهاب إلى غرفة ونسيان سبب المجيء- أو المواقف المحرجة عند نسيان اسم شخص التقيناه مرات عديدة، وصولًا إلى أخطاء أكثر خطورة تسببها الذاكرة المعطوبة.
تستعرض الطبيبة النفسية أسباب التغوّل على ذكريات الآخرين وإقناع أنفسنا بأنها ذكرياتنا، أو كيف يمكن غرس ذكريات كاذبة في أذهاننا عن عمد. ويتعمق بحث شو أيضا في التداعيات القانونية للذكريات الكاذبة استنادًا إلى أبحاث أخرى بارزة مثل تلك التي أجرتها عالمة النفس الأميركية إليزابيث لوفتس، والأكثر أهمية من ذلك أن البحث يضفي الحكمة على كيفية تحسيننا ذاكرتنا عبر الانتباه إلى إمكانية أن تخطئ.
الذاكرة وثقة الآخر
ثمة شيء مميز في مسلسل “طائر أسود” (Black Bird)؛ إذ إنه يستند إلى قصة حقيقية ينبغي مشاهدتها على منصة “آبل تي في+”.
والمسلسل مقتبس من مذكرات جيمس كين بعنوان “مع الشيطان: بطل سقط، وقاتل متسلسل، وصفقة خطيرة للخلاص” (In With the Devil: A Fallen Hero, a Serial Killer, and a Dangerous Bargain for Redemption)، وهي قصة حقيقية مشوقة عززتها كتابة المؤلف والسيناريست دنيس ليهان، مما يجعلك تتساءل: هل يمكن أن تكسب ثقة أحد القتلة أساسًا بشكل واقعي كإنسان يعيش على خيانة الآخرين واللعب على مساحات الثقة في الذاكرة عمومًا؟
تدور أحداث مسلسل “طائر أسود” حول كين، وهو تاجر مخدرات جذاب ونجل رجل شرطة استمر في الخدمة فترة طويلة، ويؤدي دوره الممثل الأميركي الراحل راي ليوتا في آخر أدواره. بعد اعتقاله والحكم عليه بالسجن 10 سنوات، يتلقى كين عرضًا غير متوقع من مكتب التحقيقات الفدرالي، إذ من الممكن أن يسمح له بالخروج من السجن في حال تمكن من إقامة صداقة مع قاتل متسلسل مشتبه فيه والحصول على اعتراف منه.
يعد المسلسل -الذي يتميز بحوار بارع وأداء مذهل لجميع ممثلي العمل- مثالا رائعا للتساؤلات الفلسفية التي يخلقها مدى واقعيته، وما يثيره عالم الخيال فيه، واعتماده على فكرة الثقة.
بداية ملهمة وتأسيس مذهل
النقطة الأكثر قوة في “طائر أسود” هي تأسيسه للشخصية الرئيسية التي سينطلق المسلسل منها؛ بطل وحيد شديد النجاح، يمكنه الحصول على كل ما يريد، وهو شاب ثري جدا جمع ثروته من تجارة المخدرات والسلاح ويعيش حياة ليلية صاخبة، ويسخّر كل شيء في الحياة من أجل سعادته الشخصية فقط.
يجهّز المكتب الفدرالي خطة محكمة للقبض عليه فجأة، ويقنعه أحد رجال الشرطة السابقون بأن عليه الاعتراف الكامل بكل جرائمه حتى يضمن تخفيف العقوبة إلى 5 سنوات على الأكثر، ويقضي منها 4 سنوات فقط لحسن السلوك.
يفاجأ بعدما عوقب بالسجن 10 سنوات أن الشرطة خدعته، فيشعر بالخذلان بعد تعرضه لخيانة لم يسبق أن عاشها.
تتحول نظرته إلى العالم جذريًا بعد تعرضه لخيانة ستدفعه لقضاء 5 سنوات إضافية من عمره خلف القضبان بعدما وضع ثقته في أشخاص طالما أحبهم، لكنه سينجح في عمل استثمارات داخل السجن من أجل الحصول على أفضل مأكل وجلسة يبيع من خلالها كل شيء غير مباح. وتلاحظ السلطات تصرفاته شديدة الذكاء، فيقع اختيار المكتب الفدرالي عليه لتجنيده ليكون جاسوسا لصالحهم على واحد من أكبر السجناء لتجارة المخدرات والسلاح.
خط رفيع يفصل بين مساحات المشاعر التي يصطنعها الإنسان لإنقاذ نفسه والتي يتورط فيها من دون رغبته. كيف تميز الذاكرة التي لم تعد تأمن شيئا في ما يمكن أن ترتكن إليه وما يمكن أن تنبذه؟
“طائر أسود” نفسه تسمية لطائر نشأ في بلاد أفريقية، وأمكنه التأقلم هناك في أستراليا بشكل أساسي من دون أن يصنع أزمات أو يشكك فيه أحد، وهذا ما فعله البطل الذي سينجح في خلق صداقة حقيقية مع رجل لم يسبق أن وثق في أحد.
ربما لم تعتمد كافة أحداث المسلسل على القصة الحقيقية المقتبس منها، لكن ذلك أكسب القصة المزيد من مساحات التعاطف مع رجل شبه أسطوري ساعده القدر في النجاح؛ أن تكسب ثقة مجرم خارج عن القانون يعني الكثير على المستوى الإنساني قبل السياسي أو الاجتماعي، أو حتى الفني الذي يطرحه مسلسل “طائر أسود” لمنطقة يجد الإنسان فيها نفسه بحاجة إلى من يثق فيهم ويشاركهم هموم حياته مهما تعاظمت شروره.