على وقع كثير من المواقف التي رصدها التاريخ لكبار الفنانين، وسماتهم الشخصية التي تحمل ما يمكن وصفها بالاضطرابات النفسية، قد يكون من الجيد النظر في تاريخ اضطراب الشخصية النرجسية الذي عادة ما يصيب الفنانين على اختلاف مجالاتهم: رسم وتمثيل وغناء أو غير ذلك.
فحسب عالم النفس الأميركي روبرت راسكين، الذي أجرى دراسة بعنوان “العلاقة بين النرجسية والإبداع”، فإن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مبدعين أو لديهم مواهب فنية فذة تسيطر عليهم عادة سمات الشخصية النرجسية.
تاريخ وصفات
تعود تسمية النرجسية إلى الأساطير الإغريقية وخرافات الآلهة، إذ كان نرجس أو نرسيس صيادا شديد الوسامة والجمال من نسل الآلهة، كما كان مغرورًا ومعتدًا بنفسه لدرجة أنه كان يتكبّر على كل من يحبه أيضا. لاحظت الإلهة نمسيس غروره وكبرياءه، فقررت أن تعاقبه بأن أخذته إلى بحيرة حيث رأى انعكاس صورته على صفحة الماء، فوقع على الفور في حب نفسه. وقد وصل إعجابه بصورته إلى أنه عجز عن ترك البحيرة وبقي يحدق في صورته إلى أن مات.
ويتميز تفكير الشخصية النرجسية، وفقًا للدورية الأميركية لعلم النفس، بالخيال الجامح الذي عادة ما يكون منصبًا على تخيل الشخص لنفسه في مواضع نجاح باهرة أو علاقات عاطفية استثنائية لأنه يتمتع بالجمال والذكاء والقوة الكافية ويستحق كل ما هو مميز. هذا النمط من التصور المبالغ فيه للذات يدفعه بالتبعية للظن بأنه شخصية متميزة ولا يجب أن يتعامل إلا مع المتميزين، وعليه فإن تعاطف النرجسيين مع الآخرين يكون محدودًا إن لم يكن منعدمًا، حتى إنهم لا يتورعون أحيانا عن استغلال غيرهم بدافع تلك الصورة شديدة الكمال عن النفس.
تمثيلات نرسيس
رسم الفنان الإيطالي الشهير كارافاجيو لوحة “نرسيس” (Narcissus) عام 1599م، ويظهر فيها شاب وسيمٌ يرتدي ثوبًا أنيقا من الديباج، يميل بكلتا يديه على الماء ويظهر عليه اهتمام شديد بصورته المنعكسة في الماء تمامًا، كما تذكر الأسطورة، إذ يكاد يحتضن نفسه وهو منصب على البركة متكئًا بكلتا يديه. يسيطر على اللوحة ألوان قاتمة تخلق جوًا من الكآبة، وشخصية نرسيس محاطة بالظلام في دائرة مغلقة تنعكس على الماء.
أمعن كارافاجيو في إظهار غرور نرسيس بأن أعطاه تشابهًا ملحوظا مع الملاك في لوحته “الرحلة إلى مصر” (Rest on the Flight into Egypt). كما ألبسه سترة مصنوعة من مادة ثياب المجدلية نفسها في لوحته “المجدلية التائبة” (The Penitent Magdalene). وعلى هذا النحو يوضح كارافاجيو أن النرجسي يرى نفسه ندًا للشخصيات المُقدسة.
ويقول الناقد الأدبي توماسو ستيجلياني إن “أسطورة نرسيس توضح بما لا يدع مجالا للشك النهاية التعيسة لأولئك الذين يحبون أنفسهم كثيرًا”.
النرجسية بين المبدعين
أورد المؤرخ الفني آيان جيبسون في كتابه “سيرة سلفادور دالي الذاتية” أن السريالي الشهير كان نرجسيًا إلى درجة مُخزية. فقد اعتبر جيبسون أن أكثر أفعال دالي خزيًا لم تكن فقط طائفيته الشديدة، بل إنه كان يستمتع بإيذاء والديه نفسيًا، معتبرا أنه كان يستحق أفضل أبوين في العالم. ويذكر جيبسون أن دالي أرسل صورة تذكارية للوحته “القلب المقدس” (The Sacred Heart) إلى والديه وقد كتب عليها “أحيانًا أبصق على صورة أمي”.
وهو ما دفع والده لأن يكتب، في عام 1930، خطابًا مؤلمًا إلى صديق دالي، المخرج السينمائي لويس بوويل، يتوسل إليه أن يحاول منع دالي من الاقتراب منهما (يقصد نفسه ووالدته)، وقد كتب في ذاك الخطاب ما نصه “لا يحق لابني أن يسمم حياتي على هذا النحو، إنه يدمر صحة والدته”.
على المنوال نفسه، عاش ومات الرسام العالمي بابلو بيكاسو. ففي مطلع القرن الـ21، كانت مارينا بيكاسو، إحدى حفيدات بابلو بيكاسو، أول فرد من أفراد العائلة يظهر للعلن حجم الألم والمعاناة التي شهدتها العائلة بسبب غرور الرسام الذي عُرف هو الآخر باضطراب الشخصية النرجسية. فقد كان بيكاسو لا يتورع عن فعل أي شيء يشعره بالسعادة والراحة مهما كان ذاك الشيء مؤذيًا لأقرب الأقربين له.
تقول مارينا بيكاسو “لم ينجح أحد في عائلتي في الهروب من قبضة هذه العبقرية الخانقة. لقد احتاج إلى الدم للتوقيع على كل لوحة من لوحاته: دم أبي وأخي ووالدتي ووجدتي ودمي. كان بحاجة إلى دماء أولئك الذين يحبونه”.