الأديب المصري الراحل يحيى حقي (مواقع التواصل)

الأديب المصري الراحل يحيى حقي (مواقع التواصل)

عشرات من المقابر في القاهرة التاريخية تم وصمها بالعلامة (x) الحمراء رمز الإزالة، استجابة لقرارات التطوير، وتشمل هذه الإزالات عشرات المقابر لشخصيات عامة، ومن بينها مقبرة شيخ الأزهر الأسبق مصطفى المراغي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وبطل معركة الفلوجة خلال حرب فلسطين سنة 1948، سيد طه الملقب بالضبع الأسود، ومقبرة الكاتب الكبير يحيى حقي.

في عام 1940، نشر أحد رواد الحركة الأدبية في القرن العشرين في مصر مجموعته القصصية “قنديل أم هاشم”، وفي آخر المجموعة قصة بعنوان “بيني وبينك” وصف فيها الكاتب الشاب حقي صورة لمدينتين، القاهرة القديمة والقاهرة الحديثة، قائلا: “أجوس بعدك خلال القاهرة، فأعود من أحيائها الأوروبية بقلب فاتر كليل، وطعم بين المر والحلو، كفقير يرتد عن زيارة ابنه الغني العاق، وإن عز على قلب أبيه”.

 

وقبل أيام جاء الإنذار الأخير لهدم مقبرة الكاتب الكبير يحيى حقي خلال 5 أيام، وبعدها تأتي الجرافات لتسوي كل شيء بالأرض، استجابة لمشروع لتطوير القاهرة.

القاهرة التي يصفها يحيى حقي بـ”الابن الغني العاق” أحبها -رغم ذلك- من كل قلبه، وهي المدينة الكبيرة التي عشقها حقي وكتب فيها أعظم أعماله وأروعها بداية من “قنديل أم هاشم” لآخر مقالة خطتها يده قبل عزوفه عن الكتابة قبل الرحيل بأكثر من 15 عاما، إضافة لترجمته دراسة الباحث والمؤلف البريطاني ديزموند ستيوارت عن القاهرة، وعيشه حيرة شبابها.

ذكرى حزينة

وفي التاسع من ديسمبر/كانون الأول الحالي، وبعد 4 أيام من قرار الإزالة، ستهل الذكرى الـ30 لرحيل الأديب الكبير، الذي يعد واحدًا من أهم من كتبوا بالعربية في العصر الحديث، وبدل الاحتفال بذكراه وتعريف الأجيال بالدور الثقافي المهم الذي شغله، يبدو أنه لا صوت يعلو فوق صوت الجرافات.

يحدث هذا في الوقت الذي تتحول فيه مقابر الشخصيات العامة في العالم إلى متاحف ومزارات؛ لا حساب لأديب عربي مهما كانت مكانته ومهما طالت قامته أو قدم للبلد من إنجازات وخدمات ربما لا تقدر بثمن أمام قرار إداري يطيح بالأحياء والأموات معا.

 

هذا ما جرى لعشرات المقابر التي تتم إزالتها بعد وضع علامة الإزالة (x) باللون الأحمر، كحكم بإعدام المقبرة.

وهذا ما جرى مع مقبرة الكاتب الكبير حقي، صاحب القنديل وما لا يقل عن 30 مؤلفا، حيث تم إبلاغ أفراد عائلة الكاتب الكبير بضرورة سرعة نقل رفات الموتى خلال أيام، تمهيدا لهدمها لأنها تقع ضمن أماكن مطلوب إزالتها لزوم خطة تطوير القاهرة.

استغاثة

أمام هذا القرار تخوض الكاتبة نهى حقي، ابنة الأستاذ يحيى حقي، معركة في جميع الاتجاهات، في محاولة غير مضمونة لإنقاذ مقبرته من الإزالة، وإخراج رفاته من مثواها الأخير.

الاستغاثة بدأتها نهى حقي عبر صفحتها على فيسبوك وقالت “أبي في ذمة الله، لا يملك الاستغاثة، الوجيعة كبيرة، والشكوى لم تعد لها قيمة، أنا زعلانة جدا لقرار نقل مقبرة والدي الحبيب الغالي، ومقبرة الأسرة أيضا من جوار السيدة نفيسة الحبيبة الغالية على قلب والدي، الذي أوصى بأن يدفن بجوارها، إلا أن قرار الإزالة أزال كل الرجاء”.

وتضيف نهى حقي “هذه السطور استغاثة أخيرة ومحاولة أمل لعل كلامي يوصل رجاء، بالنيابة عن أبي الذي لا يملك الاستغاثة”.

 

وقالت للجزيرة نت: “حتى الآن لم أتسلم إنذارا رسميا بنقل المقبرة، وكأن الأمر يتم في تكتم بعيدًا عن العيون، وكل الأوامر تتم شفهيا من خلال التربي (حارس المقبرة)، وتطالب بمعاملة بالمثل لما حدث مع مقبرة الدكتور طه حسين، بتعديل المخطط، أما نقل رفات أفراد العائلة إلى مقابر في العاشر من رمضان، فهذا أمر مرفوض”.

ضريح الدكتور طه حسين عميد الدب العربي بمنطقة البساتين بالقاهرة (الجزيرة)

وتتساءل نهى حقي “كيف يكون التكريم للأستاذ يحيى حقي من وزارة الثقافة بأن يكون شخصية العام بمعرض الكتاب، وكيف تكون الإزالة لمقبرته من الهيئة الهندسية، أو هيئة المجتمعات العمرانية، أليست الجهتان تتبعان الدولة في النهاية، فكيف يكون التكريم والإهانة في الوقت نفسه”.

وتضيف “لا أطالب بتكريم أبي يحيى حقي بوسام أو نيشان، فقد كُرّم من كل رؤساء مصر خلال حياته، بل أطالب باحترام رفاته ووصيته التي أوصى بأن يكون دفنه بمقابر العائلة بجوار السيدة نفيسة”.

صرخات من قريب

وكتب الكاتب الصحفي محمد شعير “أنقذوا مقبرة يحيى حقي”، 30 عاما خلد فيها رائد القصة القصيرة في مقبرته بالسيدة نفيسة، منذ رحيله في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 1992، وبدلا من إحياء ذكراه الـ30 بالورود، تبدل الوضع برسم علامة حمراء على المقبرة، تمهيدا لهدمها.

وعقب أنور الهواري -رئيس تحرير جريدة الوفد الأسبق- “كفوا عن ترويع الأموات والأحياء، توقفوا عن تخريب روح البلد وضمير الشعب، توقفوا عن تدمير ما بقي في مصر من فضائل، توقفوا عن هدم مقابر من لهم معنى من عظماء البلد، يحيى حقي من عظماء ونوابغ مصر والعرب في القرن العشرين، ولا ألف سنة حتى يظهر مثله من جديد.. سيبوا (اتركوا) الرجل يرقد في مقبرته في سلام وأمان”.

كبير المظاليم

وفي مجلة الهلال فبراير/شباط 1985 بمناسبة بلوغ الكاتب والأديب الكبير يحيى حقي سن الـ80، كتب الكاتب الصحفي يوسف القعيد: “لم يكن يحيى حقي أول المظاليم في أدبنا، ومن المؤكد أنه لن يكون آخر المظاليم، ومن الصعب تحديد من ظلمه ولا لصالح من ظلمه”.

ولكن الحقيقة البسيطة تقول: “إن هذا الرجل من مظاليم زماننا العكر، ظلمه النقد الأدبي وظروف الحياة، وإيقاع  الواقع الثقافي المصري”، وأخذ القعيد يعدد أشكال الظلم التي تعرض لها الكاتب الكبير يحيى حقي في حياته.

 

ولكن يبدو أنه لم يكن من مظاليم الأحياء فقط، بل كان أيضا من مظاليم الموتى، فلم يكد الرجل يرحل عن الدنيا في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 1992، موصيا بأن يكون قبره مجاورا لمقام السيدة نفيسة، وبعد مرور 30 عاما على رحيله، يفاجأ محبوه بقرار نقل المقبرة.

دفاعا عن الهوية

في السياق، تقوم جليلة القاضي -أستاذة التخطيط العمراني بجامعة باريس، ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية (IRD)- بخوض العديد من المعارك لأكثر من 35 عاما، لمنع هدم أي مقابر داخل حيز القاهرة التاريخية، وترى جهودها امتدادا لثقافة المصريين القدماء الذين أولوا اهتماما للحفاظ على مقابرهم، كما تراها تعبيرا عن هوية مصر في كافة مراحل تطورها عبر التاريخ.

ومن جهتها، استنكرت جليلة القاضي تلك القرارات غير المسؤولة، وقالت “أذكّر كل المسؤولين بتصريح الرئيس السيسي بعدم المساس بمدافن الأعيان والشخصيات العامة”، وأضاف السيسي “وكل المصريين الشغيلة الذين خدموا هذا البلد”.

وتساءلت الدكتورة جليلة “من الذي يتخذ قرار الإزالة؟ الأمر لا يقتصر على الكاتب الكبير يحيى حقي فقط كشخصية عامة ذات شأن في العالم العربي، هناك أيضا أحواش (مقابر) الشيخ مصطفى المراغي، والشاعر الكبير حافظ إبراهيم، وبطل معارك 1948 في فلسطين سيد طه بطل معركة الفلوجة، الملقب بالضبع الأسود، غير المئات من أحواش الناس الشغيلة، تنتهك حرمة مدافنهم، فمن الذي يتخذ القرار؟ الرئيس، أم الهيئة الهندسية، ولماذا لا تلتزم الهيئة بأوامر الرئيس ووعده للناس”.

وتناشد الدكتورة جليلة المسؤولين “ارفعوا أيديكم عن مدافننا ورفات أجدادنا، اتركوا لنا شيئا نتنسم فيه هويتنا، أمامكم الصحاري شاسعة، وهناك عشرات الحلول البديلة داخل العمران القائم، كفى إزالة وخرابا لتراثنا، ارحموا أمواتنا”.

معرض لمقاومة النسيان والفناء

وفي إطار حملة “إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية” التي أطلقها بعض المثقفين وأساتذة الجامعات عام 2020، عندما أزال محور الفردوس مدافن المصريين وأعيانهم، وانضم للحملة عدد من الفنانين التشكيليين، نظم “فنانون من أجل توثيق تراث جبانات القاهرة” معرضًا للوحات مجموعة الفنانين تحت عنوان “علامة إزالة” شعارها باللون الأحمر ( x )، واستمر المعرض من الأول حتى الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري.

 

وكتبت الدكتورة جليلة القاضي -في دعوتها لهذا المعرض- “ستظل هذه العلامة الحمراء سيئة السمعة، التي دنست مدافننا، عارا على من اتخذ القرار ومن وضعها، عارا على فترة شهدت استباحة تراثنا، الذي عبر أكثر من ألف عام دون أن يتعرض لمثل هذه الانتهاكات، حتى في أكثر فترات تاريخنا استعبادا وقهرا وظلاما”.

وتضيف القاضي أن “هذا المعرض وسيلة لرفض هذه العلامة المشينة، وسيلة لمقاومة النسيان والفناء، وسيلة للحفاظ على تراثنا وتوريثه للأجيال القادمة”.

المصدر : الجزيرة

About Post Author