ميديا بارت: استخبارات المصادر المفتوحة.. فن الحرب الأوكراني الجديد
إذا كانت حرب الخليج كرّست القدرة المطلقة للتلفزيون، فإن حرب أوكرانيا تؤكد ظهور استخبارات المصادر المفتوحة، فقد رصد جيفري لويس، الأستاذ في معهد “ميدلبري” للدراسات الدولية بالولايات المتحدة، أول آليات روسية تخرج من قواعدها، عندما كان يراقب المنطقة ضمن مشروع مع طلابه، ليعلن دخول الجيش الروسي على تويتر قبل وصوله إلى الأراضي الأوكرانية، ولتبقى متابعة تقدم القتال في الوقت الحقيقي على الشبكات الاجتماعية ممكنة بعد 7 أشهر من بدء الحرب.
وقال موقع “ميديا بارت” (Mediapart) الفرنسي إن الأجهزة الأميركية حذرت على مدى أسابيع طويلة، في خريف 2021، من اقتراب إطلاق “العملية الخاصة” الروسية التي كان من المتوقع أن تقطع فيها رأس الحكومة الأوكرانية في 72 ساعة، وذلك استنادا إلى زيادة في الإشارات التي تنبئ عن نشاط مكثف للجيش الروسي في منطقة بيلغورود بالقرب من الحدود الأوكرانية.
الذكاء المفتوح المصادر
ونبّه الموقع إلى إنتاج آلاف الصور الفوتوغرافية والشهادات والتسجيلات يوميا من قبل الصحفيين على الأرض، وحتى من قبل المدنيين والجنود والقادة السياسيين، إضافة إلى الأوامر العسكرية من كلا الجانبين. يقول كيفين ليمونير المحاضر في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية “الحرب في أوكرانيا هي أول نزاع شديد الحدّة يحدث في منطقة يكون فيها معدل انتشار الإنترنت جيدا نسبيا وقد تجنب فيها الطرفان البنى التحتية الرقمية بوجه عام، بل تم تحميل الجنود على كلا الجانبين بأجهزة استشعار تشمل الهواتف الذكية، وذلك يعني أن كتلة الآثار الرقمية الناتجة عن الصراع فلكية. وبالجمع بين هذه البيانات المتاحة مجانًا وتحليلها، يمكننا إنتاج معلومات لم يكن من المفترض نشرها على الإطلاق، وهذا ما يسمى بالذكاء المفتوح المصادر”.
وأشار الموقع، في مقال للمصور المحترف لوران جيسلين، إلى أن ممارسات تحقيقية وتحليلية كانت محصورة لدى الأجهزة الأمنية على مدى عشرات السنين قد انتشرت داخل مجتمعات الهواة والمهنيين، لتظهر حسابات يتابعها مئات الآلاف من المشتركين، وبهذا المعنى “يبدو أن الأجهزة الحكومية فقدت احتكار الاستخبارات”، كما تؤكد الباحثة صوفي بيرو في العدد الأخير من مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy)، موضحة أن “الناشطين أثبتوا على تويتر أنهم عملاء استخبارات يتتبعون تحركات القوات، ويجمعون الأدلة على جرائم الحرب ويحاربون المعلومات المضللة في العلن، بعيدا عن سرّية التقارير”.
وهكذا أصبح موقع “أوريكس” (Oryx) مصدرا أساسيا لوسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم -كما يقول الموقع- لأنه يتتبع الخسائر المؤكدة بصريا للجيوش الروسية والأوكرانية، حيث يجمع الصور ومقاطع الفيديو، كما تتخصص بعض الحسابات -كما يقول الموقع- في تتبع الرحلات الجوية وتحليل أنواع الذخيرة المستخدمة وفك تشفير المحادثات الصوتية.
وبتجميع ملاحظات الأقمار الصناعية وتحديد مواقع الحرائق والقصف ومقاطع الفيديو القتالية، من الممكن توفير خرائط موثوقة نسبيا لتقدم الخطوط الأمامية على أساس يومي، وذلك ما رفع جزئيا ضباب الحرب الذي نصبه المتحاربون، ومن وجهة نظر منهجية -كما ترى صوفي بيرو- لا يوجد فرق بين الاستخبارات ذات المصادر المفتوحة والذكاء المستند إلى مصادر مغلقة.
وبعد عرض نجاحات بعض المنظمات التي تعتمد على المصادر المفتوحة في تحقيقاتها، تساءل الموقع الفرنسي: هل يمكن أن تضع الاستخبارات ذات المصادر المفتوحة نفسها في خدمة العدالة، بعد أن نجحت تحقيقات صحفية عدة في تحديد مرتكبي جرائم الحرب المزعومين، وفنّدت دعاية موسكو وغير ذلك؟
وفي هذا السياق، يرى باتريك لوبيز تيريس، المدير السابق للتحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، أن من الضروري لتحقيق العدالة وقبل بدء أي إجراءات قانونية، جمع أكبر قدر من الأدلة، بما في ذلك البيانات الرقمية ذات المصدر المفتوح.
وبالفعل يعترف بروتوكول بيركلي، الذي صيغ عام 2020 من قبل مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ومركز حقوق الإنسان في جامعة كاليفورنيا، باستخدام البيانات الرقمية العامة، بما فيها الصور ومقاطع الفيديو والمعلومات الأخرى المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ كدليل في التحقيقات الجنائية وفي مجال حقوق الإنسان الدولية.
سلاح جديد للحرب
من جهة أخرى، هناك نتائج عسكرية ملموسة لتضاعف الآثار الرقمية التي خلفها الصراع، كما يقول الموقع. فقد نشر صحفي روسي عن غير قصد صورة تكشف عنوان مقر مجموعة مرتزقة فاغنر في بلدة بوباسنا بشرق أوكرانيا، فأدى ذلك إلى تدمير المبنى بعد بضعة أيام بقصف أوكراني، فضلا عن حوادث أخرى.
وبالإضافة إلى تطبيقاتها القضائية والعسكرية، أصبحت استخبارات المصادر المفتوحة أداة اتصال هائلة، يستثمر فيها جميع الأطراف لدعم الروح المعنوية لمقاتليهم وحلفائهم، كما تُنشر عبرها صور القصف التي صوّرتها طائرات مسيّرة من قبل الجيشين، وتعرض العديد من الوحدات بفخر قائمة الصيد الخاصة بها على الشبكات الاجتماعية.
وهكذا اندلعت حروب المعلومات الحقيقية في الأشهر الأخيرة، يتم فيها التعرف وتحديد الموقع الجغرافي للصور التي تثير الجدل، مثل صورة بثها موال للروس على أنها تُظهر تدمير مروحيات الكرملين لمركبة إنزال أوكرانية، إلا أن حسابا أوكرانيا حدد البارجة المعنية على أنها بقايا جسر بناه الفيرماخت فوق النهر في الحرب العالمية الثانية.
وخلص الموقع إلى أن المرحلة التي نمر بها اليوم تشبه مرحلة ازدهار القرصنة في التسعينيات، ولكن أفضل خبراء الاستخبارات المفتوحة المصادر سيجدون طريقهم “لتقديم يد المساعدة” لبلدانهم، وسيقوم مالكو بعض الحسابات الأكثر متابعة بإنشاء شركات، وستصبح البيئة مؤسسية تدريجيا.