“فوت علينا بكرة”.. عندما تسخر السينما المصرية من البيروقراطية الحكومية
موظفون غائبون، ومكاتب خاوية، وملفات مكدسة، وآخرون مشغولون بأشياء كثيرة ليس من بينها العمل، طلبات لا تنتهي بين طوابع وأختام وتوقيعات، لكل منها رحلة طويلة، وختامها عبارة “فوت علينا بكرة يا سيد”.
بهذه المشاهد المتكررة، قدم صانعو السينما المصرية والدراما رؤيتهم لمعاناة المصريين مع الروتين والبيروقراطية في الدوائر الحكومية.
وأصبحت العبارة الشهيرة “فوت علينا بكرة”، رمزا لتعطيل مصالح المواطنين في المؤسسات الحكومية، وتعبيرا عن تعنت الموظفين وتمسّكهم بالروتين والبيروقراطية إلى أقصى درجة.
وبينما ينتقد مسؤولون ما يعتبرونه مبالغة في تصوير البيروقراطية والروتين، يقول صانعو السينما إنهم ينقلون صورة واقعية لمعاناة المواطن والموظف نفسه أحيانا.
أفلام كثيرة قدّمت صورة للبيروقراطية الحكومية وتعنت الموظفين، نرصد بعضها في السطور التالية.
الوزير جاي
استطاع الكاتب الراحل أحمد رجب رسم صورة كوميدية ساخرة لظاهرة البيروقراطية والروتين في المصالح الحكومية وتكدير المواطنين بطلبات لا تنتهي، في فيلمه “الوزير جاي” الذي أخرجه إبراهيم الشقنقيري عام 1986، واتسم بالجرأة في معالجة القضية على الرغم من كونه إنتاجا تلفزيونيا رسميا.
يسلط الفيلم الضوء على تقاعس الموظفين عن أداء مهامهم، فهم يغادرون المصلحة الحكومية لقضاء أعمال أخرى، بينما يكلفون موظفا سابقا -يسعى إلى الحصول على معاشه- بإنجاز أعمالهم.
تتعطل مصالح المواطنين بسبب غياب موظف يتضح أنه توفي، وعلى الرغم من مشاركة مسؤولي المصلحة في جنازته، فإنهم يتمسكون بالروتين الذي يمنع تعيين بديل، وذلك لغياب الأوراق الرسمية التي تثبت وفاته، ويوقعون عليه عقوبات إدارية.
وتبلغ ذروة الكوميديا المأساوية حين تصل أخبار الفساد وتعطيل مصالح المواطنين إلى الوزير المسؤول، الذي أدلى بأكثر من 9 آلاف تصريح للصحف، فيقرر زيارة المصلحة. وبدلا من إصلاح حال المصلحة، يقرر مسؤولوها خداع الوزير واستئجار ممثلين مغمورين (كومبارس) لأداء أدوار الموظفين والمواطنين.
وخلال الزيارة، يجد الوزير معاملة راقية للمواطن الذي يناديه الموظف بلقب “بيه”، ويقدم له المشروبات الساخنة والباردة، بينما تكتسي غرف المصلحة بلافتات تحمل عبارة “أيها الموظف.. المواطن يدفع مرتبك بتمامه، فهو سيدك وأنت خدامه”.
وفي لحظة اندماج من الممثل المواطن، يقوم بصفع الممثل الموظف، ليغضب الوزير ويطلب تسليمه للشرطة، وهنا لا يجد الكومبارس أمامه إلا الاعتراف للوزير بالخدعة كلها، ليتهمه المسؤولون بأنه “دسيسة وعميل”.
4 في مهمة رسمية
قدّم الفنان الراحل أحمد زكي في فيلم “4 في مهمة رسمية” (1987) للمخرج علي عبد الخالق، معاناة موظف شاب مع البيروقراطية والروتين، تمنعه من تحقيق أحلامه في السفر خارج البلاد.
تتجلى البيروقراطية منذ اللحظات الأولى للفيلم، عندما يقيم بيت المال مزادا لبيع تركة “قرداتي” كان قد توفي، وهي: حمار ومعزى وأنثى شمبانزي مدربة، وبينما يزايد المصريون بالجنيهات والقروش، يعرض أحد الأجانب 6 آلاف دولار (10 آلاف جنيه في ذلك الوقت). لكن المسؤول يرفض البيع، لأن المزايد الأجنبي لا يمتلك بطاقة ضريبية، ويتحجج بأنه قد يهرّب الحيوانات إلى الخارج.
يكلف الموظف الشاب أنور عبد المولى (أحمد زكي) بتسليم التركة إلى “بيت المال” في القاهرة، ويعتقد أنه قادر على الانتهاء من مهمته في ساعات معدودة للحاق بموعد سفره، لكن معاناة أنور مع التركة امتدت أياما، بين موظفين غائبين، وروتين لا ينتهي من أوراق رسمية وأختام ولجان.
وجود الموظف على مكتبه لا يعني أن العمل يسير بطبيعته، فهذا موظف يترك طابور المواطنين أمامه ويجادل أحدهم في مباراة لكرة القدم، والآخر يطلب من أنور البحث بنفسه في أكوام مكدسة من الملفات للحصول على الأوراق المطلوبة.
وحين يرى الموظف الشاب بارقة أمل في وزير حكومي يعمل على محاربة الروتين والبيروقراطية، يذهب إليه شاكيا، فيعده الوزير بمساعدته، قبل أن يكتشف أنه أصبح خارج الوزارة في التعديل الوزاري الجديد، وهي إشارة إلى أن محاربي الروتين والبيروقراطية لا مكان لهم في النظام الحكومي.
الإرهاب والكباب
لم يجد صانعو فيلم “الإرهاب والكباب” أفضل من مبنى مجمع التحرير العملاق، رمز البيروقراطية الحكومية الأبرز في مصر، لتجسيد معاناة المواطنين مع الروتين وتعطيل مصالحهم.
المواطن المصري (عادل إمام) يذهب إلى المجمع لنقل أولاده من مدرسة إلى أخرى، لكنه يصطدم بالبيروقراطية الحكومية، حيث الموظف المسؤول غائب، بين دورة تدريبية والبحث عن حمام آدمي لقضاء حاجته، بينما ينشغل بقية الموظفين بأشياء كثيرة، ليس من بينها العمل، ليتورّط المواطن في حمل السلاح، وتعامله الحكومة على أنه “إرهابي”.
وفي الفيلم الذي عرض عام 1992، وهو من تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، تتكرّر مشاهد الأمواج البشرية المتلاحمة داخل المبنى العريق، لتوضح حجم معاناة المواطنين المستمرة لأيام وربما شهور لإنهاء معاملاتهم الحكومية الرسمية التي تعرقلها البيروقراطية والروتين الإداري.
ويُظهر الحوار أن شكاوى المواطنين وطلباتهم -على بساطتها- لا تتحقق بسبب تقاعس الموظفين وإهمال المسؤولين الحكوميين، على الرغم من شعارات خدمة المواطن التي تمتلئ بها جدران غرف الموظفين.
مستر كاراتيه
“مش عايزة المعاش ده يغور.. مش عايزة أموت في الشارع واتبهدل”، في يأس وحسرة تردد الأرملة العجوز (زوزو نبيل) في فيلم “مستر كاراتيه” (1993) هذه الكلمات، لتعبر عن معاناتها مع البيروقراطية الحكومية، ورحلتها الفاشلة للحصول على حقها في معاش زوجها الراحل الذي خدم الحكومة 37 عاما.
يقرر الشاب البسيط صلاح (أحمد زكي) مساعدتها، ويصطحبها إلى داخل المصلحة الحكومية، في مشاهد سريعة قصيرة تلخص حال المواطنين مع البيروقراطية والروتين وتعقيدات النظام الإداري.
المصاعد معطلة أمام المواطنين كما تشير اللافتات، فتضطر العجوز إلى صعود 6 طوابق على أقدامها، ويتضح أن المصاعد سليمة لكنها مخصصة للمسؤولين، لأنها صارت قديمة ومتهالكة لا تحتمل ضغط المواطنين، وفق تبرير المسؤول الكبير.
المكاتب خالية من موظفيها، بينما الأوراق والدفاتر التي تمثل مصالح المواطنين يعبث بها الهواء، وعلى مكتب الموظفة الغائبة، وبين أكوام الأوراق المكدّسة تستقر أدوات حياكة، دليلا على ما تقوم به الموظفة من أعمال لا تمت إلى طبيعة وظيفتها بصلة.
في غياب الموظفين، يقتحم صلاح مكتب المدير العام ويقدّم نفسه كشخصية مهمة، ليهب المدير لمساعدته وسماع شكوى السيدة المسنة، فهو ليس مواطنا عاديا.
حديث العجوز يكشف الروتين القاتل الذي يبرره المدير بأنها “التعليمات والإجراءات”، فالسيدة التي ذهبت إلى المصلحة أكثر من 6 مرات مطلوب منها شهادة تثبت أنها على قيد الحياة يوقع عليها اثنان من الموظفين.
وعلى الرغم من حصول السيدة على الشهادة، تحجج الموظفون بأن “ختم النسر” (رمز البيروقراطية المصرية العتيقة) غير واضح، لكن المدير وأمام من يعتقد أنه مسؤول مهم، يقرر الموافقة على أوراق السيدة العجوز، لتنتهي مأساتها بينما تستمر معاناة المواطنين العاديين.
عسل أسود
قدّم فيلم “عسل أسود” (2010) البيروقراطية في صورة الموظف الفاسد المرتشي (عبد الله مشرف) الذي يخير المواطن “مصري” (أحمد حلمي) بين دفع الرشوة وإنجاز طلبه فورا، أو الانتظار في صف طويل وتلبية طلبات روتينية عدة.
يرفض مصري دفع الرشوة، ويطمئنه صديقه سعيد (إدوارد) بأن كل طلب يمكن إنجازه خلال 5 دقائق بالحاسوب، لكن طلبات الموظف لا تنتهي. وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة جعلت استخراج الوثائق أسرع، فإن تعنت الموظف جعل منها رحلة بلا نهاية.
ولكن الفيلم، في المقابل، قدم صورة الموظف النزيه، تأكيداً على اقتران الإيجابيات والسلبيات في مصر، وهي الرسالة التي يقول صانعو الفيلم إنها وراء اختيار اسم “عسل أسود”.
من السينما إلى الدراما
ولم يتوقف تصوير مصاعب البيروقراطية عند الأفلام السينمائية، ولكن قدمت بعض الأعمال الدرامية مشاهد تعبر عن هذه المعاناة، ومن بينها مسلسل “الوصية” (2018) لأحمد أمين، الذي يضطر إلى التبرع بقرنيته لأحد الموظفين للحصول على توقيعه، ويشترى طوابع بآلاف الجنيهات.
كما قدم البرنامج الكوميدي “ساترداي نايت لايف” بالعربي مقطعا كوميديا عن مواجهة البيروقراطية التي تحتاج إلى ساحر لتلبية طلبات الموظفة المتعنتة، وعلى الرغم من ذلك لا يستطيع إنجاز مصلحته.