جنود إسرائيليون يحتلون زوايا الكادر، رجل يتلفت حوله بقلق، مفتشا عن سيارة أجرة، تلك هي اللحظات الأولى من فيلم المخرج الفلسطيني محمد المغني “برتقالة من يافا” -الحائز الجائزة الكبرى في مهرجان كليرمون السينمائي للأفلام القصيرة في فرنسا- وهي تومض بما يهدد مصير ذلك الرجل.
لم يكن محمد (بطل الفيلم) سوى صورة مستوحاة من مخرجه الذي خاض -على حد تعبيره- تجربة مشابهة، في محاولة منه للذهاب إلى يافا للقاء والدته، ليسدل الزمن ستارة دون أن يطوي تلك الحكاية، ويستعيد محمد ما راوده من انفعال آنذاك وما رغب في التعبير عنه في فيلمه، وشاطرنا شذرات منه في حوارنا معه في الجزيرة نت.
يخلق الحاجز معنى أعمق من كونه ماديا جاثما بثقله على الواقع الفلسطيني وسينماه بسعيه لاختراق نفسية أبطاله، وإرغامهم على الرضوخ وتعجيزهم، بفرض سطوته على حياتهم، ليحاولوا مراوغته بالحيل، باعتناق أكذوبة صغيرة كمحمد أو بالقبض على مصابيح تنير عتمة الليل، يشهرها أب لأطفاله البعيدين على الجانب الآخر من الجدار ليلة تلو أخرى كدلالة حب في فيلم “200 متر” لمخرجه أمين نايفة أو بعاشق -في فيلم “عمر”- يحاول تخطي الحاجز لرؤية محبوبته.
بظهور الجنود الإسرائيليين عند تلك الحواجز، يفرد محمد حيزا من فيلمه “برتقالة من يافا” من دون ترجمة، متعمدا توحد المتلقي مع مشاعر البطل المتوترة أمام حاجز من نوع آخر، وهو حاجز لغوي يستعصي على التأويل، يستحضر المخرج هناك ما ألمّ به مرارا عند تلك الحواجز الإسرائيلية عند تحادثهم بالعبرية بقوله: “داخلني دوما إحساس بالريبة، لم أفقه ما يدور بينهم، تُركت بين شكوك متنامية وحدس يخبرني بأن ثمة مشكلة، وعليّ التوصل إليها باستنتاجي الخاص”.
تتصاعد الهواجس والتوترات بالاقتراب من الحاجز، حتى تحين لحظة انفجارها، باحتقان البطلين داخل السيارة، في لحظة قصد بها محمد المغني تصوير عوالم أخرى ضيقة ضاقت ذرعا بذلك الحصار الذي لم تجد له بدا، مدفوعا بالضغوطات في مجاز رآه مخرجها تجسيدا لأحد أساليب الاحتلال الوضيعة في فرض ظروف بقوة السلاح ومعاينة تعاطي الفلسطينيين معها.
أن تعقد صلحا مؤقتا مع العالم
حدق محمد المغني في مشاهد كتلك كثيرا، حام حولها في صغره في حي الشجاعية في غزة -حسبما يروي- إلى أن وقع في شباك حب السينما والقصص التي ظل يصغي إليها بانتباه من أقربائه، ودارت في معظمها حول الحي أو غزة، كانت طريقتهم في سرد الحكايات تثير بداخله فضولا جامحا للمعرفة، وربما ربط بين الأفلام التي شاهدها والروايات التي تشربها والشخوص التي أحاطت به من كل جانب، ليحمل الكاميرا في الـ16 مصورا فيلمه القصير مع صديق الطفولة يوسف المشهراوي، مستذكرا معنا “كل ما أتمناه الآن العودة إلى غزة والعمل مرة أخرى مع يوسف. بجعبتي عديد من الأفكار، لكن على الحرب أن تنتهي أولاً”، ثم ينهي بعدها دراسة البكالوريوس والماجستير من المدرسة الوطنية للأفلام في وودج بولندا.
وتمثلت الصعاب التي واجهته في أثناء تصوير الفيلم في رام الله، كما يقول، “اضطررنا لبناء حاجز إسرائيلي كامل مطابق لحاجز حزما القريب من القدس، لتكون أحداث الفيلم مطابقة للواقع أقصى الإمكان، وأود أن أذكر أن الفنان عامر أبو مطر من رام الله هو من قام ببناء الحاجز في فترة وجيزة، مواجها مشاق لا عدد لها”.
وأضاف محمد للجزيرة نت: “أما عن الصعوبات الأخرى التي اختبرناها خلال التصوير، فهي متعلقة بأمن فريق العمل، وهو ما لا يغيب في معظم الإنتاجات السينمائية الفلسطينية، كما تعلمون، نظرا لثقل وضخامة معدات التصوير وصعوبة التنقل بها والجهد والوقت الذي يتطلبه نصبها، أضف إلى أننا في كثير من الأحيان يجب علينا الانتهاء في أسرع وقت، فإعادة مشهد بعينه قد تشكل خطرا على حياة الفريق، ناهيك عن المعدات السينمائية وتوفيرها، حيث نفتقر إلى بعض المعدات في فلسطين، مما اضطرنا إلى جلبها من بولندا، ليتم احتجازها في مطار بن غوريون لمدة أسبوعين”.
أيقن محمد -منذ البداية قبل صناعة الفيلم- مدى سطوة السينما كونها أداة بوسعها إقحام متلقيها في تجربة مفعمة بالمشاعر، يستشف فيها ما يدور بخلد شخصياتها، ليؤول به الحال متعلقا بها، تماما كما افتتن محمد بصناعة أفلام روائية ووثائقية قصيرة قبل انكفائه في الآونة الأخيرة على العمل على أول فيلم طويل له “ابن الشوارع” عقب خوضه رحلة فريدة دنت من 6 أعوام مع أبطال الحكاية.
يوجزها محمد بالآتي: “طفل فلسطيني يدعى خضر، يحيا في مخيم شاتيلا في لبنان تسعى عائلته جاهدة على مدار 6 سنوات لإصدار بطاقة هوية له تمنحه الحق في التعليم والرعاية الصحية والتنقل خارج المخيم، بحثا عن مستقبل لخضر”.
وأوضح المخرج محمد المغني “كفلسطينيين نحمل على عاتقنا مسؤولية تجاه وطننا، وما رأيته، وما زلت أبصره من نتائج في الرأي العام بعد هذه الحرب بفضل أشخاص كمعتز عزايزة، بيسان، وبلستيا، الذين نشروا بشكل يومي عن جرائم الجيش الإسرائيلي، ألهمني بثقة أكبر في سردية قصصنا ومدى تأثيرها على الجمهور، إذ يتحتم أن يكون هناك من يروي حكاياتنا ويوصل الرسالة، لنكون أرشيفا شاهدا على التاريخ وما نمر به”.
لا يطمح محمد في هذا الصدد إلا في إيصال رؤيته لأكبر جمهور ممكن، حتى “يرى العالم حكاياتنا، ويلمس ما بداخل البيوت الفلسطينية من بهجة وحزن وأمال وخوف، إذ تختلف السينما عن الأخبار اليومية بأسرها لمتلقيها، واستقطابهم ليكترثوا بعوالمها والتورط عاطفيا معها”.
هكذا تمسي محض برتقالة، هُربت خلسة من يافا في فيلم المغني القصير الأخير، استعارة للتحايل ولو معنويا على تلك الحواجز، ثمرة محرمة حبلى بمسحة تعزية، يتناولها البطل بنهم ويعقد من أجلها صلحا ولو لبرهة مع العالم.