ربما لم يُقدّم في تاريخ السينما الأميركية فيلم يحمل كل هذا القدر من العلامات الإرشادية لكل مشاهد على حدة مثلما فعل “فورست غامب” 1994 أو (Forrest Gump)، وربما لم يمس أي فيلم من قبل تلك المساحة الخاصة بين المشاهد ونفسه بحنان مثلما فعل ” فورست غامب”، وربما لهذا السبب يحتل مخرج العمل روبرت زيمكس وفيلمه الأشهر هذه المكانة، ولعل تحقيقه لما يتجاوز 100 مليون دولار خلال 18 يوما هو مجرد رد للجميل من مشاهد يعيش في مجتمع شرس لا يرحم الضعيف ولا الغبي.
وقد حصل الفيلم على 6 جوائز أوسكار عام 1995، وأبعد فيلم “الخلاص من شاوشانك” 1994 أو (Shawshank Redemption) عن منصة التتويج رغم استحقاقه، لكن تلك الحميمية المدهشة التي تناول زيمكس بها موضوعه جعلته يقبض على قلب كل مشاهد للعمل بيده، فينظر المشاهد لتلك اليد بين خوف ورجاء، ومن ثم يستسلم.
وقف الفيلم بين المشاهد وبين نفسه، ويعقد صلحا بين الذين يصفهم المجتمع بمحدودي القدرات وبين أنفسهم، يحنو عليهم ويمنحهم الأمل في النجاح.
وقد حسمت معركة الجوائز والإيرادات مبكرا، وبقيت حقائق الفيلم التي لا تخلو من قدرة على الولادة من جديد، ولعل الكاتب المصري الراحل يحيى الطاهر عبد الله كان يقصد أفلاما مثل فورست غامب حين قال “الحقائق القديمة صالحة دائما لإثارة الدهشة”.
واقتبس فوريست غامب عن رواية بالاسم نفسه كتبها ونستون غروم، وصدرت عام 1986، لكن بطل الرواية لم يحقق تلك الحكمة والبطولة، بل تراوحت أفعاله بين الكوميديا وانعدام المنطق.
ويبدأ الفيلم بمشهد لـ” ريشة طائر” تستقر بين قدمي شخص، ثم تنطلق محلقة إلى أعلى، وتتبعها الكاميرا حتى تصل إلى عنان السماء، ثم تستقر الكاميرا على وجه الشاب ” فورست غامب” الذي جسده وفاز عنه بأوسكار أفضل ممثل “توم هانكس” الذي يروي قصته من خارج العمل، وينتهي الفيلم بالمشهد نفسه، مؤكدا على المعنى الذي عرضه صنّاعه.
ويعترف ” فورست غامب” أن به خطب ما يجعله يبدو -طبقا لمعايير المجتمع- أقل ذكاء، وأن ثمة مشكلة صحية في قدميه تجعله يرتدي دعامات تحد من حركته. ويؤكد أنه تعلم من أمه أن لا أحد أفضل منه، وأن الغبي “هو من يسلك سلوكا غبيا”.
يتعرض للتنمر في الطفولة، فيهرب وتساعده جيني وتتحول مقولتها له بهدف دفعه للهرب من المتنمرين إلى شعار لدى جيل التسعينيات “اجرِ يا فورست اجرِ”، ويتحول فورست إلى ” آلة” لا تتوقف عن العدو، هربا من المتنمرين وسعيا لتحقيق أحلامه وأحلام الآخرين.
الريش الأبيض
ويحقق فورست كل المعجزات التي لا يمكن قبولها منطقيا في ظل إمكاناته العقلية، فهو ينجح في دخول مدرسة للأسوياء، وينجح في الالتحاق بالكلية بسبب قدرته على الجري بسرعة، ويلتحق بالجامعة، ويصبح بطلا في كرة القدم الأميركية ويحصل على نوط الشجاعة من الكونغرس لمشاركته في حرب فيتنام، ويلتقي رئيسين أميركيين، أحدهما قتل (جون كينيدي)، وأجبر الثاني على الاستقالة بسبب فضيحة ووترغيت الشهيرة وهو ليندون جونسون، ويصبح فورست غامب مليونيرا، ونجما للعبة كرة الطاولة، ويحب ويتزوج وينجب طفلا رائعا.
وكان مشهد ” الريشة” التي طارت في الهواء يشير رمزيا إلى أن ذلك الشاب له من يرعاه. ويستعين زيمكس بمقولة “يظهر الريش حين تكون الملائكة بالقرب منك” كعلامة روحية قادمة من التنجيم الغربي، وتعني ببساطة أن الملائكة يودون التعبير عن وجودهم بالريش الأبيض الذي يرمز للحرية والانتقال من جانب إلى جانب، فالطيور تهاجر دائما حين يأتي الشتاء إلى أماكن أكثر دفئا.
وهكذا قرر المخرج روبرت زيمكس أن يقدم نبوءة رمزية لبطله فورست غامب ومن ثم يترجمها إلى وقائع يقبل خلالها البطل قدراته المحدودة بمعايير المجتمع ويستخدمها بدأب وإخلاص وصدق حتى تحقق معجزاته الخاصة وتجمع له أطراف الحظ من الحب والثروة والشهرة، إلى البطولة والسمعة الطيبة.
يقترب صناع العمل من الأحداث الدرامية الكبرى في السياسة والعسكرية الأميركية، حيث يتطرق إلى حرب فيتنام مستعرضا مجزرة فقد خلالها البطل صديقه وفقد القائد قدميه، وأغلب مقاتلي المجموعة معه، ومن ثم حين يتم تكريمه في واشنطن بعد نهاية الحرب، وفي وقت لا يتجاوز ثواني كان ينبغي أن يعلن عن رأيه في تلك الحرب، لكن شخصا بزي عسكري (في تمثيل واضح للسلطة) يطفئ الصوت، ويتم تغييب مقولته عن الحرب التي لا تزال حتى اليوم مثار جدل في الولايات المتحدة.
توأم
“هل أنتما توأم؟”، هذا السؤال قام الملازم أول دان تايلور -الذي جسده باقتدار الممثل جاري سينيسي- بعرضه على “فورست” و”بوبا” أو الممثل ميكيلتي ويليامسون حين جاء ردهما عليه في الوقت ذاته بالطريقة نفسها بأنهما من ولاية “ألاباما”، وجاء النفي من “فورست” بأن لا علاقة بينهما، لكن الملازم أكد أنه يفهم جيدا أن لا علاقة بينهما فأحدهما من أصول أفريقية والثاني أبيض. وهي لمحة ذكية في الحوار تهدف إلى تأكيد “توأمة” من نوع خاص بين الاثنين؛ فورست وبوبا. إنها تلك القدرات الذهنية المحدودة.
إذن، “فورست غامب” ليس “الغبي الوحيد”، هناك بوبا أيضا، الذي قتل في حرب فيتنام، ولم يكن “بوبا” يفهم في أي شيء سوى الجمبري، ولا يحلم سوى بامتلاك مركب لصيد الجمبري، وهو الحلم الذي حققه “فورست” نفسه.
معسكر الأذكياء
جيني كوران والتي جسدتها الممثلة روبين رايت فتاة ذكية كانت تحلم بالشهرة والمجد من خلال الغناء. هربت بطريقة مختلفة عن تلك التي هرب بها “فورست”. أساء لها والدها في طفولتها، فعاشت مع جدتها، وفرت إلى العاصمة بحثا عن حلمها وغاصت عميقا مع الجماعات الفوضوية والثائرة والباحثة عن هوية في الولايات المتحدة بستينيات القرن الماضي، وهناك تعرضت للمهانة والقهر بكل أشكاله جسديا ونفسيا.
وتبدو أذكى من “فورست”، لكن قدرها ساقها للضياع وفي كل مرة كان “فورست” الذي يحبها، ينقذها، وهكذا ظل ملاكها الحارس رغم هروبها الدائم منه، وفي النهاية استسلمت لقدرها وأنجبت له “فورست الصغير” الذكي، وماتت.
الملازم أول دان تايلور، قائد عسكري من عائلة لا تفوتها حرب ولا فرصة للموت بشرف في ساحة المعركة، يمتلك قدرات ذهنية جيدة، لكنه يصاب في المعركة وينقذه “فورست”، لكنه ينجو مبتور القدمين.
مرة أخرى يصاب الشخص “السوي” بإعاقة يفقد معها الأمل، وكأن الإعاقة في لغة الفيلم هي تلك الاختيارات الخاطئة، ويكاد الأمر ينتهي به إلى التشرد والإدمان لولا “فورست” الذي ينقذه للمرة الثانية من خلال تشغيله في “مركب الجمبري” التي كانت حلم صديقه الراحل “بوبا”.
إن معسكر الأذكياء -وفقا لصناع العمل- يتكون من أشخاص مغرورين بذلك الذكاء الذي يدفع بكل منهم إلى كارثة تسبب له إعاقة أو انهيار أو موت، وحينها يأتي المنقذ من المعسكر الآخر.