فيلم كثيب: الجزء الثاني.. رؤية ملحمية لرواية تعيد إنتاج تفوق الرجل الأبيض
يأتي فيلم “كثيب: الجزء الثاني” (Dune: Part Two) ضمن جزء من موجة سينمائية هوليودية جديدة، يستعيد خلالها المخرجون سيطرتهم الإبداعية على أكبر الأفلام من حيث الميزانية والإيرادات.
فبعد استحواذ الأستوديوهات -وعلى رأسها ديزني- على كل القوى الإبداعية السينمائية خلال العقد الثاني من القرن الـ21 بسلاسل الأبطال الخارقين و”حرب النجوم” (Star Wars) وإعادة إنتاج أفلام الرسوم المتحركة القديمة، تحولت صناعة الأفلام على يد هذه الموجة السابقة إلى منتجات اقتصادية معلبة تستهدف جذب ذات المشاهدين المرة تلو الأخرى، حتى ملّ المشاهدون من الإعادة بعد تشبع السوق.
نجحت أفلام رائعة قدمها مخرجون مبدعون -مثل “أوبنهايمر” (Oppenheimer) لكريستوفر نولان، و”باربي” (Barbie) لغريتا غرويغ، و”جون ويك” (John Wick) لتشاد ستاهيلسكي- في كسر هذه الحلقة الرأسمالية من سيطرة الأستوديوهات، بأعمال نجحت لاختلافها عن الصيغ السينمائية التي تصر الأستوديوهات على إعادة إنتاجها بحثا عن نجاحات تجارية دون اهتمام بالجوانب الفنية، وفتحت الأبواب لموجة جديدة يأتي على رأسها في 2024 “كثيب: الجزء الثاني”.
“كثيب: الجزء الثاني” من إخراج دينيس فيلنوف اقتباسا عن ملحمة الكاتب فرانك هربرت التي نشرها في ستينيات القرن الماضي لتصبح إحدى أهم روايات الخيال العلمي على الإطلاق وأشهرها، ونقلها على الشاشة السيناريست جون سباهتس بمعاونة فيلنوف، في حين ألف الموسيقى التصويرية هانز زيمر، بينما يضم طاقم الممثلين كلا من تيموثي شالاميت وزنديا وريبيكا فيرغسون وخافيير بارديم، وعددا كبيرا من النجوم.
فك تعقيد الرواية
تدور أحداث فيلم “كثيب” بجزأيه الأول والثاني في المستقبل البعيد، وفيه يستطيع الإنسان التنقل بين المجرات المختلفة باستخدام مادة تُدعى “السبايس” والتي توجد فقط على كوكب “أراكس” وبسببها يتعرض هذا الكوكب وسكانه من “الفريمن” لاستغلال الإمبراطورية بالكامل، ويحتله عشيرة “الهاركونين” الذين يحكمونه بالحديد والنار حتى يأتي آل “أتريدس” لحكم الكوكب لوقت قصير قبل أن ينقلب عليهم “الهاركونين” بمعاونة الإمبراطور نفسه، ويقتلون الدوق “ليتو أتريدس” ويطاردون ابنه بطل الفيلم الشاب “بول أتريدس”.
ويحاول الفيلم فك تعقيد رواية فرانك هربرت التي ما زالت حتى اليوم تحير القراء بتأويلاتها المتعددة، وشخصياتها التي يصعب الحكم عليها بصورة أخلاقية في عالم تحكمه النبوءات لا يعرف القارئ والمتفرج وحتى الشخصيات ذاتها مدى حقيقتها من كذبها، وتاريخ طويل من الصراعات الأخلاقية وتوازنات القوى.
وتتجاوز الصراعات الخير والشر بشكلهما المجرّد، وتدخل إلى تلك الحدود الواهية بينهما داخل كل نفس بشرية، وذلك عبر شخصية “بول أتريدس” الذي تطارده نبوءة نشرتها عشيرة والدته نساء الـ”بيني غيسيرت” وهن جماعة تتحكم في أهم حكام العشائر والإمبراطور نفسه باستخدام سحرهن وقدرتهن على تفسير النبوءات، ونشرها في الوقت ذاته، لكنه يقاوم هذه النبوءة لما يشعر به أنها لن تجلب سوى الدم والحرب على الإمبراطورية بالكامل.
ويستكمل الجزء الثاني رحلة “بول” للانتقام بعد وفاة والده، حيث يتوحد مع “الفريمن” وقد جمعهم الهدف نفسه، وهو الانتقام من المتآمرين، لكن عليه قبل أي خطوة اتخاذ قرار مصيري؛ هل يتبع النبوءة التي تصر على أنه القائد الذي ينتظره “الفريمن” للتحرر من قبضة الإمبراطورية؟ أم ينضم لهم كفرد منهم بعدما يتعلم أساليبهم ولغة الصحراء التي يشعر من أول وهلة أنه ينتمي لها؟
وتظهر بجانب “بول” شخصية “شاني” فتاة “الفريمن” المقاتلة، والذي تجمع بينهما علاقة رومانسية، وفي ذات الوقت تمثل ضميره الحي، ووالدته الليدي “جيسيكا” التي تغذي النبوءات، وتتلاعب بعقول العامة من أهل “الفريمن”، و”ستيلغر” قائد “الفريمن” الذي يؤمن بأن “بول” القائد المختار لتحرير شعبه.
ورغم محاولة المخرج فلينوف تقديم عمل ملحمي شامل يعتمد على الرواية قدر الإمكان، فإنه لم يجد بديلا عن تجاهل الكثير من جوانب العمل التي تقتضي أن يمتد لـ10 ساعات لحصرها في فيلم واحد، مثل عداء أهل المستقبل للحواسيب والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي دفعهم لاستخدام “الأسبايس” لتوسيع المدارك البشرية لتصبح بديلا عن هذه الأجهزة الإلكترونية، وهي رؤية تقدمية للغاية بالنظر إلى وقت نشر الرواية، وتمس الحاضر في الوقت ذاته في ظل المخاوف المستعرة تجاه هذه التكنولوجيا التي تبدو كما لو أنها ستحل محل البشر بين عشية وضحاها.
فكر استعماري في قالب فني هائل
رواية “كثيب” ومن بعدها الفيلم، تشتبك في الأساس مع “الإمبريالية” وهي أيديولوجية تقوم على توسيع نطاق حكم بعض الدول على حساب أخرى بغية السيطرة على المزيد من الموارد، ويكون ذلك غالبا من خلال استخدام القوة الغاشمة واللجوء إلى القوة الناعمة في بعض الأحيان.
ولدينا في الفيلم الإمبراطورية وأذرعها الممثلة في “الهاركونين” و”آل أتريدس” والتي تتحكم في كوكب “أراكس” وسكانه لما يحتويه من كنز يتمثل في مادة “الأسبايس”، ويمكن ببساطة إحالة هذا المجاز إلى أي قارة قامت القوى الاستعمارية البيضاء باستغلالها للحصول على كنوزها، سواء كانت تلك القارة أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية.
إلى هنا يبدو مسعى “بول” للتخلص من هذا الاستعمار الفضائي بالتعاون مع “الفريمن” مسعى نبيلا، لكن بالنظر إلى طبيعة “بول” نفسه كشخص ينتمي من حيث المولد والنشأة والجنس لكل من “آل أتريدس” و”الهاركونين” فهو يعمل على استدامة الاستعمار والإمبريالية، ولكن بصورة مختلفة وتحت اسم آخر.
يؤسس توحد “الفريمن” تحت قيادة “بول” كذلك لأن الشعوب الأدنى يجب أن تخضع لرجل “أبيض” أو “ذو دماء ملكية زرقاء” للحصول على حريتها.
وبينما يمثل جنود الإمبراطور وجيش “الهاركونين” القوة العسكرية الغاشمة في يد السلطة الاستعمارية، فإن نبوءة “البني غيسيريت” التي تمهد لحكم “بول” هي القوى الناعمة التي يستخدمها الاستعمار للتحكم في عقول العوام، عبر الرسائل المبطنة التي تشعرهم دوما أنهم أقل من المحتل، تلك الرسائل التي مازالت سارية حتى الآن في بعض الدول التي تحررت حتى من الاستعمار، ولكن ترى الغرب هو الأفضل والمستحق على الدوام.
يضع المخرج الكندي دينيس فيلنوف هذه الأفكار ذات الطابع المقيت في قالب سينمائي بارع الجمال، وفيلم يمكن اعتباره من أهم أعمال الخيال العلمي في القرن الـ21، وربما أفضلهم حتى الآن، عمل ملحمي بالفعل من نواحي التصوير والموسيقى التصويرية والمونتاج.
أبرز المخرج ومدير التصوير غريغ فريزر سحر الصحراء وإضاءتها، ويظهر ذلك في مشاهد عديدة على رأسها اللقطات التي تجمع بين “شاني” و”بول” والذي استغل فيها ما يدعى “الساعة الذهبية” -وهي الفترة القصيرة بعد شروق الشمس وقبل غروبها مباشرة- ليتم تصويرها على عدة أيام لإبراز الدفء في هذه العلاقة، في حين مشاهد أخرى تم تصويرها بالأبيض والأسود، وتم استخدام المؤثرات البصرية لتصميم وحش “شي هولو” العملاق الذي يمثل رعب الصحراء وسر أصالة “الفريمن” في آن واحد، ويقدم الفيلم على الجانب الآخر أداءات تمثيلية ممتازة من كل أبطاله، خصوصًا تيموثي تشالاميت وزنديا وربيكيا فيرغسون.
“كثيب” بجزأيه فيلم ملحمي، سيبقى على مر الأجيال، ويؤسس الآن لقاعدة جماهيرية واسعة بالفعل تنتظر على أحر من الجمر الجزء الثالث الذي سيتناول الرواية الثانية من هذه السلسلة الروائية، فيلم سيثير إعجاب البعض وغيظهم في آن واحد، ويجبرهم على الاستمتاع بهذه الرؤية البصرية الممتازة لرواية تعيد إنتاج أفكار بالية مثل الإمبريالية والاستعمارية، وتفوق الرجل الأبيض.