لا يستطيع أي شخص أن يتهم المخرج الأميركي كوينتين تارانتينو (Quentin Tarantino) بالكذب في أفلامه، لأنه أعلن منذ البداية أنه لا يلتزم بالحقائق التاريخية، فقتل هتلر وأنشأ كتيبة من الجنود اليهود للانتقام من الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية في فيلم “الأوغاد الخونة” 2009 أو “inglourious basterds”، وفي “جانغو الحر” (2012) أو “Django Unchained” يحرر تارانتينو الأفارقة المستعبدين من قبل الأميركيين قبل الحرب الأهلية بعامين، بينما ظل الأمر مثار صراعات ومفاوضات حتى سنوات قريبة طبقا للتاريخ.
يستخدم تارانتينو التاريخ باعتباره ملهما بقصص يمكنها أن تصبح مسلية وجميلة داخل سياقات أفلامه، لذلك لم يكن غريبا أيضا أن يمزج بين الأسطورة الألمانية “برومهيلدا وسيغفريد” وقصة بطل فيلم “جانغو الحر”، وأن يمزج شخصية “جانغو” بطل العمل التي قدمها الممثل جيمي فوكس (Jamie Foxx) بالعديد من الأبطال الأفارقة الذين استعبدوا و ناضلوا للفوز بحريتهم، وليس غريبا أيضا أن يأتي بطبيب أسنان ألماني أبيض ليحرر الأفارقة من استعباد الأميركي الأبيض لهم.
وتمتد فكرة تحرير الشخص الأبيض لغيره من الأجناس في السينما الأميركية عبر مجموعة كبيرة من الأفلام لعل أشهرها “الساموراي الأخير” 2003 أو”The last samurai” الذي يرث خلاله شخص أبيض قيم الساموراي ويتولى قيادتهم في الحرب حتى النصر، وهي الفكرة ذاتها التي جاءت أكثر وضوحا واتساعا في سلسلة “سلاحف النينجا” أو “Teenage Mutant Ninja Turtle” التي قدمت في أكثر من مسلسل ثم فيلما عام 2014، وفيها ترث الأرض الأميركية الحكمة الصينية والقدرة على التخفي، وفنون عصر النهضة، لتقدمها إلى 4 سلاحف تتولى حماية البشرية برفقة الصحفية الأميركية الشقراء” نيسان”، ويأتي العمل تأكيدا على وراثة أميركا لأفضل ما في التراث الإنساني، وصناعة الطفرة المعرفية، للفوز بالقوة والحكمة والزعامة.
يقدم تارانتينو في “جانغو الحر” شخصية “جانغو” الشهيرة القادمة من عالم سينما رعاة البقر (الكاوبوي) عبر 31 فيلما سابقا، لكن نسخة تارانتينو ذات أصول أفريقية، بينما جانغو القديم كان أبيض من أصول غربية، أما الفيلم نفسه، فهو يلامس أفلام ” الكاوبوي” الأميركية، ليجد المشاهد فيه العمدة والمارشال والدماء التي يعشقها تارانتينو والجثث المتناثرة وسرعة الضغط على الزناد كمعيار للقوة، لكن العمل يبقى على طريقة تارانتينو الذي يكاد يسخر من تراث هذا النوع من الأفلام رغم استخدامه المماثل للكاميرا في الكثير من المشاهد.
تتلخص قصة الفيلم في طبيب الأسنان ذي الأصل الألماني ” كنغ شولتز” -ويقوم بدوره الممثل النمساوي الألماني “كريستوف والتز” – الذي ترك المهنة وقرر كسب العيش عن طريق قتل وتسليم المطلوبين للقانون، ويحتاج الرجل للوصول إلى أفريقي مستعبد يدعى” جانغو” ويصل إليه، ويشتريه، ومن ثم يعقد معه صفقة تتضمن تحريره ومنحه مبلغا ماليا مقابل قتل 3 من المطلوبين للحكومة الأميركية، كان عبدا لهم من قبل.
ويتم تنفيذ الصفقة، ويعرف صائد الجوائز ذي الأصل الألماني قصة “جانغو” المتزوج من امرأة جميلة تم بيعها لواحد من الإقطاعيين الكبار، ويعرض عليه أن يعمل معه حتى حلول الصيف ومن ثم يذهبان لتحرير “برومهيلدا”، وتقوم بدورها الممثلة الأميركية من أصل أفريقي كيري واشنطن” Kerry Washington”، وهناك يجدان مالكا متغطرسا يستمتع بتعذيب وقتل عبيده، ونتيجة للجدل يقوم الدكتور كنغ بقتله، فيلقى مصيره على يد خدمه، ويستسلم جانغو ويستعبد مرة ثانية، لكنه يخوض معركة دموية يفوز من خلالها بحريته وزوجته.
يستدعي الفيلم الفكرة القديمة المشكوك فيها عن التحضر الأوروبي مقابل التوحش الأميركي، ومن ثم تحرير الأوروبي لعبيد أميركا، وفي السياق نفسه يبرز السمات الألمانية للشخصية المعنية وهي “الدكتور كنغ شولتز”، والذي يدفع في النهاية حياته ثمنا لحرية “برومهيلدا” التي تتحدث الألمانية و ينتمي اسمها إلى أسطورة ألمانية مشهورة تحكي عن الأميرة برومهيلدا التي أحبت سيغفريد لكن والدها لا يوافق على زواجها منه، فيحبسها فوق جبل ويشعل النار حولها، ويضع تنينا لحراستها، لكن حبيبها “سيغفريد” يستطيع أن يتجاوز النار ويهزم التنين ويحرر حبيبته.
ويكرر “جانغو” قصة الأسطورة في الفيلم، لأن “برومهيلدا” عوقبت من قبل مالكها بحبسها في “الغرفة الساخنة”، وهي غرفة معدنية تكتسب حرارة الشمس فتصبح لا تحتمل، وينقذها “جانغو” منها، وينتصر على التنين الذي يتجلى في الإقطاعي ” كالفين” وأعوانه.
اكتشاف متأخر
يقدم الممثل الألماني النمساوي كريستوف والتز أداء مميزا في الفيلم، وقد استحق عنه عددا من الجوائز بينها جائزة الأوسكار، لكن قصة الممثل الكبير تكاد تكون أكثر إدهاشا من أدائه الرائع، فقد عمل بالتمثيل 30 عاما لم يعرف خلالها خارج ألمانيا كثيرا، لكن ما إن اكتشفه تارانتينو وقدمه في دور الكولونيل هانز لاندا في فيلم “أوغاد خونة” حتى أصبح ملء السمع والبصر، ومن ثم فاز بجائزة الأوسكار عن دور الدكتور كنغ شولتز في “جانغو الحر”.
ولعل جزءا كبيرا من تلك العبقرية في الأداء تعود إلى طريقة كتابة الدور، الذي كتب خصيصا لـ”والتز”، وبالتالي لم يكن تارانتينو الذي يؤمن به كممثل عبقري في حاجة إلى الكثير من الإرشاد ليصل إلى هذا المستوى.
يهوى المخرج الأميركي فكرة الانتقام بإسالة الكثير من الدماء وبعثرة الجثث، ولعلها الثيمة الأكثر ذكاء لدى تارانتينو، إذ يمتلك وعيا متجاوزا رغم اكتفائه بشهادة الدراسة الثانوية، ومن خلال هذا الوعي يدرك أن كل مشاهد يجلس في صالة العرض أو أمام الشاشة لديه رغبة شريرة ولو كانت صغيرة في الانتقام، فيشبع هذه الرغبة في كل أفلامه تقريبا.
ظلام القهر
يبدأ الفيلم في منطقة ما بولاية تكساس الأميركية قبل الحرب الأهلية بعامين، حيث نشاهد عبيدا مقيدين يسيرون على أقدامهم ويسبقهم شخصان على فرسيهما، بينما يتسلل فوق عربة يجرها حصان شخص آخر من الاتجاه المعاكس، يبدو طبيعيا في مشهد يدور في تلك الحقبة أن يكون المشهد نصف مظلم، لكن تلك الظلمة التي ظهرت عكست مدى الظلم الواقع على الأفارقة المستعبدين بدا متسقا تماما مع ذلك الرعب والتشكك والإرهاق الظاهر على ملامحهم.
هو مشهد موحش يوضح ذلك القهر ويمهد للانتقام الذي بدأ فورا، حيث يرفض السيدان الأبيضان بيع العبد “جانغو” فيردي الدكتور “كنغ” أحدهم ويتسبب في كسر ساق الثاني وينهي الصفقة كما أراد، ويبدو ذلك التناقض المضحك والغريب بين إيقاع حركة السيدين المتوتر والعصبي مقابل هدوء وأريحية “الدكتور كنغ” بينما كان قد أردى شخصا لتوه، ويظهر التناقض جليا مرة أخرى حين تبدأ الإضاءة في احتلال المساحة الأكبر من الكادر السينمائي بفضل خروج “جانغو” من ربق العبودية إلى فضاء الحرية.
في طريقه إلى استعادة حياته كشخص حر، يتعلم “جانغو” كيف يطلق النار بدقة، ويتدرب على ذلك باصطياد الفارين من العدالة، فيكسب الدكتور” كنغ” المال. يسأل الرجل عما سيفعله “جانغو” بعد تنفيذ الاتفاق بينهما فيؤكد أنه سوف يبحث عن زوجته “برومهيلدا”.
يدور الحوار في منطقة جبلية، تحيط بهما الجدران الجبلية المتعرجة من كل الجهات حتى أنها تمتد لتحجب جزءا من السماء، وبقدر ما كان اختيار المكان للتصوير موحيا بدفء المساحة الإنسانية التي نشأت بين الشخصين، فإن هناك شيئا مجهولا أوحت به تلك الجدران العالية في المشهد.
لا يفوت مخرج عظيم مثل تارانتينو أن يقضي على عدد كبير من جماعة “كو كلوكس كلان” الإرهابية البيضاء في الولايات المتحدة، وأن يظهرهم كأغبياء جهلة لا يستطيعون تقدير حجم الأمور ولا يحركهم سوى هدف وحيد وهو قتل ذلك الأسود الذي يبدو حرا، وهو المشهد المظلم الثاني في الفيلم والذي أضاءته نيران الانفجار الذي قضى على عدد كبير من الجماعة.
في مزرعة كالفين كاندي -يقوم بدوره الممثل الشهير ليوناردو دي كابريو- بولاية تينيسي، كانت الأميرة الأسطورية الألمانية طبقا للدكتور “كنغ” والزوجة المحبوبة طبقا لـ”جانغو” تعذب، ويحرسها عبيد المنازل، وهنا تأتي الإدانة المتعلقة بالأميركيين من أصول أفريقية، حيث يصور الممثل “صامويل جاكسون” بشكل مدهش شخصية “ستيفن” العبد الذي يبدو أسود، لكنه في الحقيقة أكثر بياضا من سيده الذي يؤمن إيمانا تاما بفروق تشريحية وبيولوجية بين الأبيض والأسود تصنع من الأسود عبدا ومن الأبيض سيدا.
ويقدم تارانتينو مذبحته الجماعية في الفيلم والتي يُقتل خلالها المحرر الأبيض الدكتور كنغ ويؤسر “جانغو” ويستعبد مرة أخرى، قبل أن ينتقم منهم جميعا ويسترد حريته وزوجته.