يشير الناقد والكاتب الأميركي دانيال منديلسون في كتابه “نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية” إلى أن أحد أهم أسباب حضور الناس لحفلات الشعر هو رغبتهم في أن يسمعوا شخصا يتحدث إليهم مباشرة، ويقول الروائي الإنجليزي جوليان بارنز “عندما تقدم قراءة شعرية، لا تقرأ بصورة آلية أبدا، الجمهور لا يريد أن يسمع الكلام الذي يطلق مثل الرصاص، بل يود أن يعرف ماذا تناولت في الإفطار”.
وربما في وجهة النظر تلك ما يؤهل بعض الكتابات والأفلام التي تستخدم أسلوب سرد سير ذاتية أن تنتشر أكثر “عربيا” في الفترات الأخيرة أكثر من أي وقتٍ مضى، والتي يمكن أن ينضم إليها الفيلم التسجيلي المصري “من وإلى مير” الذي عُرض مؤخرا في صالات السينما.
الفيلم عبارة عن حكاية شخصية للمخرجة ماجي مرجان التي تقرر أن تزور قرية “مير” في الصعيد، تلك القرية التي نشأ بها أجدادها، قبل أن تجبرهم الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية على تركها، لكنهم ظلوا مرتبطين بها. حينما تزور مير القرية تكتشف مكانا يريد أغلب سكانه أن يهجروه أيضا.
صوّرت ماجي مرجان فيلمها على فترتين متباعدتين؛ بدأت عام 2008، ثم عادت مرة أخرى عام 2021، لتفاجأ بوفاة الشاب روماني عن عمر 25 عاما لإصابته بتسمم في الدم، ليتأثر الكثير من المشاهدين بوفاة أحد أبطال الفيلم.
في سياق بحثي نشاهد حكايات متفرقة عن أهالي القرية التابعة لمحافظة أسيوط. تسجل المخرجة مع بعض أهالي القرية منهم روماني وعائلته البسيطة، وهو الأمر الذي يمنح العمل الفني معنى يقلل من مشكلاته الكثيرة.
سرد مشتت
يسير الخط السردي للفيلم في مسارات مشتتة نوعا ما. يريد أن يربط حكايات متفرقة دون أن ينغمس في أي منها. حكايات السيدات اللاتي يعشن بمعزل عن أزواجهن المغتربين في دول الخليج، إلى جانب حكاية الأطفال الثلاثة وكيف يفكرون في مستقبلهم داخل القرية، في خط لا يبدو أنه قد تم الإعداد جيدًا له وهو الانتحار داخل القرية الصغيرة.
ندخل مع كاميرا المخرجة إلى بيوت معدمة شديدة الفقر، لنشاهد كيف يعيش أصحابها الذين هم في الغالب سيدات وحيدات مع أطفالهن، لكن دون أن نتعمق في تلك الحياة تماما ولا نفهم كيف تسير أيامهم فعلا، كما لا يمكننا أن نفهم إقحام فكرة الانتحار في القرية دون التأسيس لها.
تدخل الكاميرا إلى القصر القديم الذي كانت عائلة المخرجة تستقبل فيه وجهاء الدولة قديما. وربما في رؤية كاميرا طائرة (من أعلى) لتلك البيوت ما يظهر أسبابا وجيهة لرغبة أبنائها للهروب، نرى تقسيما جذريا بين طبقة الوجهاء في مقابل أغلب أبناء القرية الفقراء تماما والذين لا يملكون سوى الانتظار للحصول على أي عقد عمل في الكويت.
يظل الأطفال الذين نشاهد أفكارهم ورغبتهم في الهروب هم الخط الأقوى الذي أنقذ الفيلم، وربما في رحيل أحدهم ما جعله يصبح أكثر تأثيرا، لكنه يظل فيلما قويا أشبه بفضفضة ذاتية مخلصة للمشاهد، وربما يمكن أن نفترض أن شتات الأحاديث ذلك يقوي موقفه أكثر مما يضعفه، ويجعلنا أكثر قربا مع قصص كثيرة جميعها وليدة الفقر والحاجة والمجتمع منعدم الفرص الذي يعيش خلاله هؤلاء مؤمنين صابرين قادرين على الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا.
أثناء الحديث الجانبي مع مخرجة الفيلم ماجي مرجان بعد عرضه، قالت إن بطلها العشوائي روماني، الذي لفت الأنظار إليه دون غيره، كان دائما يؤكد لها أن وزنه الزائد وحجمه الكبير سيجعلان الناس تنفر من فيلمها، كما كان يسألها عن سبب تصويرها في القرية وهو سؤال لم تكن المخرجة نفسها تملك إجابة له، وربما يشير ذلك إلى أن الفيلم مجرد أرق عقلي وفضفضة تصويرية للمشاهد أكثر من كونه مبنيا سينمائيا بإحكام.
مشهد تأسيسي
ثمة مشهد تأسيسي في “من وإلى مير”، تم الاهتمام بمونتاجه بشكل ظاهر أكثر من بقية مشاهد الفيلم مما يدعو للتأمل فعلا. تجلس المخرجة إلى جانب مرجان وصديقه وهو يدخن برفقة أبيه، ويحكي عن رغبتهما في السفر، تقترب الكاميرا أكثر من أي وقت مضى من وجه الأبطال، تقطع على طريقة تدخينه لـ “الشيشة” لتضفي بعض الطرافة، وتنتقل الكاميرا إلى فم صديقه وهو يلقي حكمة عن أن الأموال وحدها تعمي الناس عن عدم تعليمهم الذي لم يكن ذنبهم أساسا، ثم تنتقل إلى سيدات البيت اللاتي يجلسن في صمت للاستماع لرجل البيت وابنه الصغير دون حديث.
قطعات المونتاج الذكية في هذا المشهد تظهر جوهر الفيلم إجمالًا، لكنها تترك تساؤلا عن عدم الاهتمام بالتقطيع في باقي المشاهد، خاصة أن صناعة العمل استغرقت 12 عاما، كما كان يمكن للمخرجة أن تزيد زمن الفيلم ليتجاوز ستين دقيقة لتورط مشاهدها معها أكثر.
كل تلك الحكايات الشخصية أدت الغرض من تصويرها، لأنها كانت أكثر صدقا ومكاشفة رغم كل العيوب البصرية، وربما تقدم نظرة مختلفة للمجتمعات التي تغيرت في السنوات الأخيرة بإيقاع أسرع من ذي قبل، وربما يصلح الفيلم كجرس إنذار كبير سواء للسلطة أو لغيرها للبحث عن حلول أخرى للحفاظ على ما تبقى من الشباب والأفكار داخل بلد يخسر برحيلهم أكثر مما يكسب.
في لحظة حرجة شديدة التقلب على مستوى أوسع وأكثر شمولا في المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي كالتي نعيشها، تصبح الأحاديث الذاتية والقصص الشخصية المدركة تماما لصناع الفن والأدب هي الأكثر تأسيسا وشرحا للمشهد. ليست تلك التي تنغرس داخل الذات متجاهلة الجميع بدعوى التركيز مع النفس، لكن تلك التي تطرح التساؤل على الآخر وعلى نفسها، وتناقش الأفعال، لإيجاد حلول قد تجنّب الأجيال القادمة من الوقوع في الأخطاء نفسها.