في منتصف الحرب الباردة، كان مجال الطيران وغزو السماء والفضاء مسألة إستراتيجية مهمة من وجهة نظر عسكرية ومدنية بالنسبة للاتحاد السوفياتي السابق، وجعل ذلك أولوية الأولويات من أجل التقدم على المنافس الغربي، واعتمد في سبيل ذلك أساليب غير تقليدية تمثلت في التشابه المزعج بين الطائرة كونكورد الأنجلو فرنسية وأول طائرة سوفياتية أسرع من الصوت “توبوليف تو-144” (Tupolev Tu-144)، الملقبة بكونكوردسكي (Concordski) بسبب هذا التشابه.
بهذه المقدمة، بدأت صحيفة لوباريزيان (LeParisien) الفرنسية تقريرها الأول من سلسلة “قضايا التجسس الصناعي الكبرى”، وتستعرض فيه ما سمته “قضية كوندورسكي”، في إشارة إلى قضية التجسس التي استجوبت فيها إدارة الأمن الخارجي الفرنسية سيرغي بافلوف ممثل شركة إيروفلوت السوفياتية في فرنسا عام 1965، إذ وجدت بحوزته مخططات تفصيلية لمكابح ومعدات الهبوط وهيكل طائرة كونكورد التي تم تصميمها في أقصى درجات السرية في فرنسا وإنجلترا.
وأوضحت الصحيفة أن بافلوف -الذي فشل في التخلص من حقيبته، واكتشفت في شقته الباريسية أكوام من المستندات على جميع أنواع الأجهزة، بما فيها كونكورد- غادر فرنسا على عجل، وحكمت عليه الدولة الفرنسية غيابيا بالسجن 5 سنوات.
وبدأ اهتمام السوفيات بكونكورد مبكرا، كما يقول الطيار الفرنسي أندريه تركا -أول من حلق بكونكورد- في مذكراته التي بعنوان “كونكورد.. محاكمات ومعارك”، وأشار تركا -الذي توفي عام 2016- إلى أن ذلك الاهتمام تخطى عمليات البحث المفتوح في المجلات العلمية ووسائل الإعلام الرئيسية، وتُرجم إلى أعمال تجسس.
ويتذكر تركا زيارة قام بها وفد سوفياتي عام 1967 إلى ورش شركة “سود أفياسيون” مصمم كونكورد، وأنه “اضطر وقتها إلى طرد أعضاء الفريق الزائر، ومن بينهم نجل أندريه توبوليف لأنهم “التقطوا صورا دقيقة جدا لمنافذ الهواء لدينا”.
ويضيف تركا أنه في زيارة أخرى لوفد سوفياتي عام 1973 إلى مصنع “سنيكما” الذي صمم محركات كونكورد النفاثة، عُثر على سائق إحدى سيارات الوفد يتجول وحده داخل المبنى، واكتشف أنه عقيد في الجيش السوفياتي قام بتبديل زيه العسكري بسترة بسيطة، حتى يمر من دون أن يلاحظه أحد لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات.
وحلقت كونكوردسكي (السوفياتية) أول مرة في 31 ديسمبر/كانون الأول 1968، قبل شهرين من تحليق كونكورد؛ فأذهلت المهندسين الفرنسيين لأن التشابه كبير، لدرجة أنهم تساءلوا: “هل هي نسخة طبق الأصل؟” كما يقول كزافييه دريغيل المؤلف المشارك في كتاب “عشق كونكورد”.
وكانت كونكوردسكي كارثة اقتصادية بقدر ما كانت كارثة تكنولوجية -حسب دريغيل- بسبب حاجتها إلى الوقود الكثير، كما أنها تعرضت لعدة حوادث؛ أكثرها رمزية ما حدث في معرض باريس الجوي عام 1973.
وفي الواقع، لم تعمل كونكوردسكي في نقل الركاب إلا بضعة أشهر، في حين عبرت كونكورد المحيط الأطلسي مرتين في اليوم لمدة 27 عاما من دون وقوع حوادث، حتى ذلك اليوم الحزين في يوليو/تموز 2000 عندما تحطمت رحلة الخطوط الجوية الفرنسية 4590 أثناء إقلاعها من باريس في رحلة إلى نيويورك، لتتقاعد بعد ذلك كونكورد على نحو دائم.