القاهرة – في ترقب وقلق واضحين، وقفت سيدة خمسينية تنتظر ابنتها التي تؤدي امتحان شهادة الثانوية العامة المصرية في إحدى مدارس محافظة الجيزة، في حين تحاول إحدى الأمهات الواقفات تهدئتها حتى تمر هذه “اللحظات العصيبة”.

حرارة شمس الظهيرة الحارقة زادت من توتر الأم هدى حامد، وتساقطت حبات العرق على جبينها وهي تشرح لسيدة أخرى كيف أنها أنفقت أغلب ميزانية أسرتها البسيطة على الدروس الخصوصية، وتأمل أن تتمكن ابنتها شيماء الطالبة بالقسم الأدبي من الالتحاق بكلية الإعلام.

 

حال ربة المنزل المصرية لا يختلف كثيرا عن حال أسر أكثر من 700 ألف طالب وطالبة بدؤوا خوض امتحانات الصف الثالث الثانوي يوم الاثنين الماضي.

وكعادة كل عام في مصر ومع بداية امتحانات الثانوية العامة -الشهادة المؤهلة لاستكمال التعليم العالي بالجامعات والمعاهد- يزداد القلق والرعب داخل البيوت المصرية، وتعلن حالة طوارئ لا تنتهي حتى ظهور نتيجة الامتحان، ليبدأ بعدها صراع من نوع آخر هو تنسيق القبول في الجامعات.

ولشهادة الثانوية العامة تاريخ طويل مع المصريين بدأ في القرن الـ19، وكانت وقتئذ مدخلا ملكيا للحصول على وظيفة حكومية، أو استكمال الدراسة في المدارس العليا (الكليات الجامعية لاحقا) وهو ما يمنح صاحبها مكانة مرموقة في المجتمع ويضمن له وظيفة ممتازة.

وعبر عقود تغير اسم شهادة الثانوية العامة وعدد سنواتها وقيمتها العلمية، لكن الثابت أنها ظلت أسطورة مرعبة يتوارثها المصريون، وصارت عبئا نفسيا يحطم الأعصاب وضغطا مادّيا يلتهم دخل آلاف الأسر البسيطة والمتوسطة.

 

المدارس التجهيزية

ترجع البداية التاريخية لشهادة الثانوية العامة في مصر إلى عهد محمد علي باشا (1805-1848) الذي أنشأ أولى المدارس التجهيزية (الثانوية) عام 1925 لإعداد وتجهيز الطلاب للالتحاق بالمدارس العليا (الكليات).

لم تستمر تجربة المدارس التجهيزية طويلا وأغلقت في عهد عباس حلمي الأول (1848-1854)، قبل أن تعود في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879) بمدرستي “الخديوية” بالقاهرة و”رأس التين” بالإسكندرية، وتبعتهما مدرسة “التوفيقية” في عهد الخديوي توفيق (1879-1892).

كانت مدة الدراسة في هذه المدارس 4 سنوات، ولكل مدرسة نظامها الخاص وامتحانها المنفرد.

امتحان موحد

شهد شهر يونيو/حزيران 1887 عقد أول امتحان وطني موحد للشهادة التجهيزية (الثانوية)، وعقد على مرحلتين: تحريرية وشفوية، وأطلق على هذا الامتحان بعد ذلك “الشهادة العمومية”.

وفي عام 1891 زادت مدة الدراسة بالمدارس الثانوية إلى 5 سنوات، قبل أن تقرر السلطات عام 1897 تقليص سنوات الدارسة إلى 3 سنوات فقط، بسبب حاجة الحكومة إلى المتعلمين لشغل الوظائف العامة.

عبر عقود تغير اسم شهادة الثانوية وعدد سنواتها وقيمتها العلمية لكنها ظلت أسطورة قلق يتوارثها المصريون (الجزيرة)

الكفاءة والبكالوريا

أدى تخفيض مدة الدراسة إلى تدهور مستوى التعليم الثانوي لتقرر وزارة حسين فخري باشا تعديل نظام الثانوية العامة عام 1905 لتعود مدة الدراسة 4 سنوات على مرحلتين: الأولى عامة لمدة سنتين يمنح الناجح فيها شهادة “الكفاءة” وتؤهل حاملها لشغل المناصب الحكومية الصغيرة أو مواصلة الدراسة في المرحلة التالية.

أما المرحلة الثانية ومدتها عامان أيضا، فشهدت لأول مرة دخول نظام الشعب في الثانوية، إذ قسمت إلى قسمين: الأدبي والعلمي، ويمنح الناجح فيها شهادة “البكالوريا”.

واستمر العمل بهذا النظام حتى عام 1928، حين شهدت المرحلة الأولى زيادة لتصبح 3 سنوات واستمرت المرحلة الثانية لمدة عامين.

الثقافة والتوجيهية

تزايد عدد المدارس الثانوية وطلابها في مصر حتى بلغ عدد الطلاب الذين تقدموا لامتحان الشهادة الثانوية (الكفاءة والبكالوريا) عام 1933 أكثر من 15 ألف طالب وطالبة، ينتمون إلى 140 مدرسة ثانوية بينها 30 مدرسة أميرية (حكومية) فقط.

وفي عام 1935 قررت وزارة أحمد نجيب الهلالي إعادة تنظيم الثانوية العامة وقسمت الدراسة إلى مرحلتين: الأولى دراسة عامة مدتها 4 سنوات يمنح الناجح فيها شهادة “الثقافة”، في حين يتخصص الطالب الراغب في متابعة الدراسة للالتحاق بالجامعة في السنة الخامسة في واحد من 3 أقسام (أدبي وعلمي ورياضة) ويحصل الناجح فيها على شهادة “التوجيهية”.

وفي عام 1951 أعاد وزير المعارف وقتئذ طه حسين تنظيم المرحلة الثانوية بتقسيم سنوات الدراسة الخمس إلى 3 مراحل:

السنة الأولى والثانية: القسم الإعدادي، السنة الثالثة والرابعة: شهادة الثقافة، السنة الخامسة: شهادة التوجيهية.

 

الثانوية العامة

بعد انتهاء الحكم الملكي وإعلان الجمهورية قسمت المرحلة الثانوية إلى قسمين فقط: الإعدادية ومدتها سنتان، والثانوية 3 سنوات (الأولى عامة، والثانية والثالثة تتشعب فيهما الدراسة إلى علمي وأدبي).

وفى عام 1956 فصلت المرحلة الإعدادية لتصبح مرحلة مستقلة مدتها 3 سنوات، وظلت المرحلة الثانوية 3 سنوات.

وفي عام 1981 أصبح التخصص منذ السنة الأولى للدراسة الثانوية، ولكن هذا النظام لم يستمر طويلا وألغي عام 1988 ليصبح الصفان الأول والثاني دراسة عامة، أما الصف الثالث فهو عام التخصص ويمنح الناجح فيه شهادة إتمام الدراسة الثانوية.

مواد اختيارية و”تحسين”

طرأ تعديل كبير على نظام الثانوية العامة في تسعينيات القرن الـ20 فقد أدخل نظام المواد الاختيارية ومواد المستوى الرفيع، وفي عام 1994 أصبحت شهادة الثانوية حصيلة امتحانات السنتين الثانية والثالثة، ومنح الطالب حق التقدم لامتحان المادة نفسها أكثر من مرة مع الحصول على الدرجة الأعلى تحت مسمى “التحسين”.

وأدى نظام “التحسين” إلى حصول بعض الطلاب على مجموع يتجاوز 100%، ولكن سرعان ما ألغي هذا النظام، وإن ظلت الثانوية العامة تُدرس بنظام العامين وبنظام الشعبتين حتى تم تعديله عام 2012 لتقتصر الشهادة على عام واحد هو الصف الثالث.

وفي عام 2020 أعلنت وزارة التربية والتعليم عزمها إعادة نظام الثانوية التراكمية وتحسين المجموع، ولكنها تراجعت، وقامت في أبريل/نيسان 2021 بسحب القانون المقدم بذلك إلى مجلس النواب بعد الاعتراضات الكبيرة عليه.

رعب عبر العصور

“تأخذ الامتحانات في مصر صورة مرعبة ويحسّ الناس آثارها السيئة تتغلغل في كل نواحي التعليم”، هذه العبارة التي استهلّ بها العالم التربوى والسيكولوجى المصرى إسماعيل القباني مقاله المنشور في مجلة الثقافة عام 1939 عن مشكلة الامتحانات في مصر تلخص حالة الرعب التي تمثلها امتحانات الثانوية العامة للأسر المصرية عبر عقود.

العبء النفسي والصحي للامتحانات التي يصفها القباني بالشبح ازداد عبر السنين، وصارت أخبار انتحار الطلاب مألوفة مع إعلان نتيجة الثانوية العامة. ويأمل أهالي طلاب الثانوية العامة ألا تتكرر تلك المشاهد في امتحانات هذا العام.

سوق التعليم السوداء

وأضافت الثانوية العامة عبئا ماديا جديدا على الأسر المصرية بخاصة فيما يتعلق بالدروس الخصوصية التي يصفها الخبراء بالسوق السوداء للتعليم والتي تضاعف إنفاق المصريين عليها بشدة في السنوات الأخيرة.

وقدّر بحث الدخل والإنفاق (2019-2020) الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) إجمالي إنفاق المصريين على التعليم بنحو ​482.2 مليار جنيه (نحو 25 مليار دولار)، بينها أكثر من 136.4 مليار جنيه (أكثر من 7 ملايين دولار) تنفق على الدروس الخصوصية سنويا، رغم المحاولات التي تعلن عنها السلطات لتحجيم هذه الظاهرة.

ويرى الباحث الاقتصادي عبد الخالق فاروق في كتابه “اقتصاديات الفساد في مصر” أن ظـاهـرة الـدروس الخصوصيـة تمثـل أحـد جوانب فساد النظام الاجتماعي والتعليمي المصري التي استفحلت منـذ عـهـد الرئيس أنور السادات.

وأوضح أن انفجار معدلات التضخم وارتفاع الأسعار أجبر آلاف المعلمين على وسيلتين لتعويض التدهور السريع والخطير في مستويات معيشتهم: الأولى الهجرة إلى الدول العربية للعمل هناك، والثانية “تعاطي داء الدروس الخصوصية”، حسب وصفه، ليصبح النظام التعليمي المصرى كلـه رهينة لتلك الحالة.

ورأى فاروق أن تعديل نظام الثانوية العامة في التسعينيات وتقسيمها إلى عامين دراسيين بدلا من عام واحد كان أحد أسباب زيادة أعباء الدروس الخصوصية.

ورغم إلغاء هذا النظام فإن توجه الأسر المصرية للدروس الخصوصية لم يتراجع، وهو ما دفع وزير التعليم المصري طارق شوقي إلى اعتبار الظاهرة “عادة مصرية” ومرضا لم يتم الشفاء منه رغم إتاحة الوزارة كل مصادر التعليم للطلاب في المدارس الحكومية من قنوات تلفزيونية تعليمية ومنصات رقمية ومواقع إلكترونية، حسب قوله.

المصدر : الإعلام المصري + الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *