منذ فجر التاريخ عالجت الفنون التشكيلية واحدة من أكثر إشكاليات الوجود ثقلا على النفس البشرية؛ ألا وهي الموت. يظهر على سبيل المثال لا الحصر في “كتاب الموتى” الفرعوني عدد هائل من الرسومات والنصوص التي من شأنها مساعدة المتوفى في العبور للعالم الآخر.
تنص إحدى المخطوطات التي يضمها الكتاب على أن الموت ليس سوى جسر لعبور الروح، وأن الميت سيقف على ميزان يزن قلبه بما فيه من خير وشر، وأن ثقل الخير وغلبته على الشر هو السبيل الوحيد للوصول إلى الخلود. ومع ذلك، إذا كان وزن الشر في قلب الميت هو الغالب فسوف يُلقى به لإله خُرافي يُدعى عمعموت الذي ينتظر بجانب الميزان، وتلك هي نهاية الروح الشريرة للأبد.
ظاهرة “معالجة الموت” كانت تحدث من زاوية روحانية بالرغم من انتشارها في الثقافات القديمة، بيد أنها ظهرت في الثقافات الأحدث منها بأسلوب فلسفي خاصة في فترات الاضطرابات الكبرى مثل الحروب الدينية والأوبئة والمجاعات. فقد صار وحشا يفترس بلا رحمة مُخلّفا وراءه أسئلة فلسفية وأزمات وجودية.
الموت والفن في العصور الوسطى
يمكن فهم مخاوف ثقافات العصور الوسطى -مثلا- من الموت من خلال فحص الأشكال التي تم بها التعبير عن تلك المخاوف. فقد صار هناك تصوير للموت بشكل أكثر حدة. مثال ذلك، المنحوتة العاجية التي عُثر عليها على الحدود بين شمال فرنسا وجنوب هولندا “حبة المسبحة الوردية مع العشاق ورأس الموت” (Rosary Terminal Bead with Lovers and Death’s Head) المعروضة حاليا في متحف المتروبوليتان.
وهي عبارة عن رأس حبيبين شابين ومن خلفهما جمجمة ترمز للموت ككيان مُجسّد. وهو تجسيد متناقض للموت الذي يتربص بحبيبين شابين يجمعهما من الأسفل سبحة واحدة يتدلى منها حجر كريم وردي.
إذن، يتربص الموت بالحب والحياة. فما الذي يمكن فعله أمام القدر الحتمي الذي ينتظر كل البشر؟!
في القرن الـ16 (الفترة التي تعود لها تلك المنحوتة) لم يجد الفنان المجهول الذي نحت التمثال إجابة على الأرجح. وربما لهذا السبب يجتمع الحبيبان مع الموت في مسبحة واحدة. ربما الإيمان والدين قد يُشكلان عزاء في وجه الموت.
في العصر الحديث
اختلف الأمر في العصر الحديث رغم كل شيء. فقد ألقى الموت بظلاله مرارا وتكرارا على الإنسان فتركه مفجوعا بموت ملايين البشر بفعل الحروب الأهلية والعالمية والأوبئة والمجاعات الكبرى.
نرى مثلا في لوحة “بجانب فراش الموت” (By death bed) للرسام النرويجي إدفارد مونش -والمرسومة في أواخر القرن الـ19، عام 1897- تصويرا مختلفا للموت الناجم عن تفشي وباء السل.
جدير بالذكر، أن النصف الثاني من القرن الـ19 شهد تحولا نحو الموضوعات الأكثر جدلا، ليس فقط فلسفيا، بل ونفسيا، في ظل المجاعات والأوبئة والحروب، وهو ما أفضى في النهاية إلى تغير أسلوب التعبير والتشكيل نفسه.
فبعد أن كان الجسد الأبيض العاجي والموضوعات اللاهوتية أو الرومانسية موضوعات مفضلة للرسامين الأوروبيين في القرون السابقة؛ تحولت المآسي الاجتماعية إلى موضوع أكثر قيمة وقدرة على التعبير عما يختلج النفس البشرية.
وعليه، ظهرت مدارس ولوحات تبحث عن معنى وعزاء في وجه آلة الموت التي تحصد آلاف الأرواح يوميا، وهذا ما حدث مع مونش.
“المرض والجنون والموت هم الملائكة السود الذين كانوا يحرسون مهدي ويتبعونني منذ ذلك طوال حياتي”.
إدفارد مونش.
قضت والدة مونش نحبها وهو طفل بسبب السل. وكانت عائلته نفسها ذات إرث طويل من الاضطرابات العقلية والأمراض النفسية.
وقد روى هو نفسه أنه في ليلة عيد ميلاده الـ13، كان يرقد في سريره والدم يسيل من فمه، والحمى تشتعل في عروقه، والخوف يصرخ في أعماقه. وصوت داخلي يقول له “الآن الآن، في لحظة واحدة، ستقابل خالقك وسيحكم عليك إلى الأبد”.
ونرى في لوحته “بجوار سرير الموت” الوجوه ذابلة كأنها وجوه أشباح، فلا يوجد أفواه للأشخاص المرسومين، بعضهم مغمض العينين، والميت على سريره لا يظهر منه شيء سوى أنه مغطى بغطاء يميل للصفرة. واللونان الأسود والأحمر يسيطران على العمل، ولا سبيل لتقفي معنى تلك الألوان على وجه الخصوص بالنسبة للرسّام، غير أنها جزء من حالة الكآبة التي تسيطر على العمل.
بين الفقد والعزاء
تروي الطبيبة النفسية الأميركية “إليزابيث كوبلر رووس” في كتابها “الموت آخر مراحل النضوج” (Death the final stage of growth)، أننا نعيش في مجتمع يُنكر الموت ويرتعب من ذكره، بالرغم من أنه قدر لا مفر منه، في حين أن التصالح مع محدودية وجودنا يساعدنا على اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة.
“الأكثر جمالا فيمن عرفناهم هم أولئك الذين عانوا الهزيمة، عاشوا المعاناة، عرفوا الكفاح وعرفوا الخسارة، ووجدوا طريقهم للخروج من أعماق كل هذا. هؤلاء الأشخاص لديهم تقدير وحساسية وفهم للحياة التي تملؤهم رحمة ووداعة واهتمام مُحبّ عميق. الناس الجميلون لا يأتون من العدم”.
إليزابيث كوبلر رووس.
وقد وجد الكثيرون في الفن ليس فقط نوعا من العزاء، بل وجدوا أيضا نوعا من المواساة. فالفن عمل كوسيلة لإبقاء المتوفى حاضرا بين الأحياء.
كما أن الفن هو عمل معالج يعبر عن الإشكاليات الفلسفية والأسئلة الوجودية التي صاحبت تروما الفقد. ويعدّ الفن وعاء يمكن أن يحتوي حرفيا على روح الميت.
وفي حالة مونش، كان الفن سبيله للتعبير عن لوعة الفقد. وفي حالات أخرى مثل جدارية غيرونيكا لبيكاسو؛ كان الفن وسيلة لتخليد أرواح من قضوا نحبهم في الحرب الأهلية الإسبانية.
وهكذا هو الحال. لا يفرق الموت بين أعراق أو معتقدات أو جنسيات أو توجهات سياسية. الموت هو المصير الحتمي لأي إنسان مهما بدى مرعبا ومخيفا.
وبقدر ما كانت الأعمال الفنية المتعلقة بالموت مبعثرة بغزارة في جميع أنحاء العالم على مر التاريخ، يوضح النظر فيها على اختلافها كيف أن البشر يتمكنون من تشريح ما هو غير ملموس من أجل البقاء على قيد الحياة في فترات الحزن والاضطراب.