جاء تكريم الممثل والمخرج العالمي ميل غيبسون في حفل “جوائز صناع الترفيه” (Joy Awards)، الذي أقيم في المملكة العربية السعودية مساء 22 يناير/كانون الثاني الماضي ضمن موسم الرياض، ليمثل مفاجأة من هيئة الترفيه لجمهورها.

كانت المفاجأة الأكثر إثارة للدهشة هي استمرار ميل غيبسون في عالم الأضواء وصموده في مهنته نجما لامعا، وهو ما يعد بمثابة معجزة للرجل الذي غُيّب عن الأستديوهات وعن الشاشة لستة أعوام، وظن الكل خلالها أنه قد تحول إلى مجرد ذكرى لممثل لامع سرعان ما انطفأ نجمه بعد أن كان ملء السمع والبصر.

 

كيف استطاع النجم المتدين الصمود أمام محاولات القضاء عليه والتحفز تجاهه، والتربص به، ومن ثم استرداد سمعته وجزء كبير من مكانته ممثلا ومخرجا، رغم قوة خصومه ووقوف هوليود بكل كبارها ضد وجوده؟

مولد نجم

ولد ميل غيبسون في نيويورك عام 1956 وهو السادس بين 11 أخا لأب وأم تعود أصولهما إلى أيرلندا، وانتقلت الأسرة إلى أستراليا في الستينيات عندما كان يبلغ 12 عاما، واستكمل تعليمه الثانوي هناك، ومن ثم درس في جامعة “نيو ساوث ويلز” (University of New South Wales) في مدينة سيدني، وبالتوازي مع دراسته بدأ بتقديم بعض العروض المسرحية، وصناعة أفلام بشكل مستقل.

تم اختيار غيبسون ليمثل دور البطولة في أفلام “ماكس المجنون” Mad Max) 1979) و”تيم” (Tim)، وشارك في البطولة بايبر لوري. اعتبر فيلم “ماكس المجنون” نقطة تحوّل في حياة الممثل الشاب، إذ أصبح معروفا في العالم كله، وحصل من خلال فيلم “تيم” على جائزة أفضل ممثل من معهد الأفلام الأسترالي.

تزوج غيبسون عام 1980 من روبين مور، وأنجب منها 7 أطفال، وظهر لأول مرة في السينما الأميركية عام 1984 من خلال فيلم “الهبة” (The Bounty)، الذي شارك في بطولته أنتوني هوبكنز.

وقدم عام 1987 أول أجزاء سلسلة “سلاح فتاك” (Lethal Weapon)، الذي لعب فيه دور “مارتن ريجز”.

وشهدت تسعينياته من القرن الماضي نضجا وتألقا، حيث قدم هاملت (1990)، ونال عنه بعض الثناء، لكن أشهر وأنجح أدواره جاء في عام 1995 من خلال فيلم “قلب شجاع” (Brave Heart)، ليمنحه دور “السير ويليام والاس” جائزتي أوسكار لأفضل فيلم وأفضل مخرج.

آلام المسيح

عُرف عن عدد قليل من نجوم هوليود تمسكهم بمعتقداتهم الدينية والالتزام بتعاليم دينهم، وميل غيبسون واحد من هؤلاء، فهو كاثوليكي متدين، ولم يكن تقديمه فيلم “آلام المسيح” 2004 (Passion of The Christ) إلا جزءا من رؤيته لتدينه والتزامه به، لكن الفيلم حقق أرباحا تجاوزت 600 مليون دولار وأنتج بتكلفة لم تتجاوز 30 مليون دولار، أثار جدلا ولغطا وحروبا لم تنته حتى اليوم.

يعالج الفيلم الذي أنتجه وأخرجه ميل غيبسون، الساعات الأخيرة من حياة المسيح، ويصوّر التعذيب الذي تعرض له -طبقا للمعتقد المسيحي- وهو مصلوب، وبعنف ووحشية، وبينما رأى البعض أنه ضروري لتصوير القصة بدقة، رأى آخرون أنه عنف مبالغ فيه وغير مبرر.

تبدأ القصة في بستان زيتون، حيث ذهب المسيح للصلاة بعد العشاء الأخير. يتم القبض عليه بعد أن يخونه يهوذا الإسخريوطي، وتتم إعادته إلى داخل أسوار مدينة القدس. هناك يواجه قادة الفريسيين (مجموعة من اليهود كانوا يتبعون مذهبا دينيا متشددا في الحفاظ على شريعة موسى) باتهامات بالتجديف، وتبدأ قصة محاكمته وتعذيبه.

ارتفعت منذ بدء عرض الفيلم أصوات تؤكد عدم دقة الرواية التاريخية التي لم تلتزم بالرواية التوراتية لقصة المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد اعتبرها هؤلاء معادية للسامية، وتؤدي إلى استمرار الصورة النمطية المعروفة عن اليهود باعتبارهم من تسببوا في قتل المسيح.

ورغم الانتقادات الشديدة، فإن النقاد لم يخفوا إعجابهم بالتصوير السينمائي والموسيقى واللغة البصرية القوية في العمل.

وبينما حقق الفيلم مكاسب مادية كبيرة، جاء ليمثل منعطفا حادا في مسيرة ميل غيبسون، إذ تعرض لانتقادات تتجاوز العمل الذي قدّمه وتطعن فيه شخصيا، بدءا من اتهامات بمعاداة السامية إلى اتهامه بالتلاعب بمشاعر ملايين المسيحيين حول العالم والترويج للعنف.

دراما متوقعة

بدا أن الصورة التي كان عليها الممثل الأميركي الأسترالي تتجه نحو التغيّر الكامل، وقد حدث بالفعل أن تم القبض عليه في عام 2006 لقيادته وهو في حالة سكر في لوس أنجلوس. وأثناء الاعتقال، ادعى الضابط الذي اعتقله أن غيبسون أدلى بتصريحات معادية للسامية، مما أدى إلى جدل واستنكار واسع النطاق، ودخل في برنامج إعادة تأهيل لتعاطي الخمر.

وبعد الحادث مباشرة، وفي يوليو/تموز 2006، كتب آري إيمانويل، رئيس شركة وليام موريس إنديفور للترفيه “دبليو إن إي” (WME)، مقال رأي في “هافينغتون بوست” (The Huffington Post) حث فيه هوليود على إدارة ظهرها لغيبسون، حيث قال “يحتاج الأشخاص في مجتمع الترفيه، سواء كانوا يهودا أو غير يهود، إلى إثبات أنهم يفهمون مدى الخطر في هذا من خلال نبذ ميل غيبسون ورفض العمل معه، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بأرباحهم”.

وبدا أن ذلك المقال كان إشارة واضحة للتوقف تماما عن الاستعانة أو التعاون بأي شكل مع غيبسون، وهو ما حدث فعلا من قبل هوليود.

وفي عام 2010، تم الإعلان عن تسجيلات يتحدث خلالها غيبسون بعنصرية خلال اتصال هاتفي مع صديقته، وتسببت التسجيلات في عاصفة إعلامية، وأدت إلى نبذه من قبل هوليود والجمهور.

كانت الأزمة أن الصديقة التي ارتبط بها بعد طلاقه من زوجته في عام 2011 تنازعه على حضانة طفلتهما الصغيرة، وزعم غيبسون أنها هددته بتلك التسجيلات، وقد انتهت القضية قبل النطق بالحكم وتم التوصل إلى حل أرضى الطرفين.

تراجع ميل غيبسون بضع خطوات ليعيد تنظيم صفوفه، كما لو كان “ويليام والاس” في فيلم “قلب شجاع”، وبعد أن انتهى من فيلم “باباراتزي” عام 2004، وبعد أن أنهى تصوير حلقات “أشرار تماما” في بداية عام 2005، اختفى من أستديوهات هوليود.

ذهول وصمود

أنهى الممثل والمخرج ميل غيبسون أزمته مع صديقته، وانطلق كحصان جامح منذ عام 2010 ليقدم أعماله، التي لم تكن تُستقبل بالحماس الذي يليق به ولا بتاريخه، ولكنه بالتدريج خلال الأعوام العشرة السابقة استطاع أن يستعيد مكانته.

قدم في العام 2010 فيلم “حافة الظلام” (Edge of Darkness)، واستمر بتقديم عمل واحد سنويا. وفي عام 2016، أخرج ولعب دور البطولة في فيلم “Hacksaw Ridge” الذي نال استحسان النقاد والعديد من الترشيحات لجوائز، وهو ما أسهم في استرداد جزء من مكانة غيبسون، وبالتدريج قدم في 2021 فيلمين، ثم انطلق ليقدم 4 أفلام في 2022، كان آخرها “على الخط” (On the Line).

يرى كثيرون أن ميل غيبسون أُسقط عمدا عبر التربص به واستدراجه، لكنه قرر الوقوف على قدميه والصمود في مواجهة أكبر إمبراطورية سينمائية في التاريخ، ليعيد غزوها اعتمادا على موهبة فريدة وإرادة حديدية وقدرة مدهشة على الصمود.

المصدر : الجزيرة + وكالات

About Post Author