كيف يحيي المسلمون رمضان بمساجدهم في الولايات المتحدة الأميركية؟
واشنطن- “روح الجالية” هو الوصف الذي أطلقه الإمام جمال محمد سعيد، إمام ومدير مؤسسة الجامع في مدينة شيكاغو بولاية إيلينوي، على المسجد في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يبرز المسجد على امتداد الولايات، رغم اختلاف المذاهب، بوصفه ركنا أساسيا في حياة المسلمين، وتزداد مركزيته الروحانية والتربوية في شهر رمضان.
وخلافا للمساجد في الدول العربية والإسلامية، لا تُدار المساجد عبر جهة مركزية كوزارة الأوقاف، ولا تُتخذ فيها القرارات بصيغة هرمية من الدولة لعموم الناس، بل تكون إدارتها من أبناء كل جالية متمركزة في إحدى المناطق بالولايات الأميركية المختلفة.
وتشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من 3 آلاف مسجد موزعة على مختلف الولايات، كما أن أعداد المساجد تزداد عاما بعد آخر، مع اتساع حضور المسلمين وانتشارهم، لذا فلكل مسجد قصة وحكاية، ولغالبية المسلمين سهم يشتركون فيه لضمان الاستمرارية وتطوير المساجد المحيطة بهم، في ظل التحديات القِيمية والدينية التي تُفرض عليهم، إثر معيشتهم في بلاد تختلف معهم في الدين والثقافة واللغة.
موائد الإفطار
“السلام عليكم، رمضان مبارك، يبدو أن الجو سيكون ملائما لإقامة إفطار جماعي يوم الأربعاء في المركز الإسلامي بولاية كنساس الأميركية، لذا، سنقيم إفطارا يتشارك فيه الجميع، أحضروا الأطباق التي تحبونها”.
هذا نص أرسلته إدارة المركز الإسلامي لأبناء الجالية المسلمة لإقامة مأدبة إفطار جماعي في شهر رمضان، فنشاط كهذا، لا يُقام مرة واحدة في رمضان، بل يتكرر بحسب إدارة المسجد واستعداد أبناء الجالية ورغبتهم.
قبل أذان المغرب بنصف ساعة تقريبا، يبدأ الأهالي بالتوافد، تُفتح أبواب السيارات، ويخرج الأطفال راكضين، وتبدو على وجوههم الحماسة للقاء أقرانهم، بينما تخرج أمٌّ محمَّلة بوجبة طاب لها إعدادها، ويأتي أب ومعه إبريق من الشاي أو القهوة.
أما هناك، وفي داخل الخيمة التي تستضيف الإفطار، طاولة ممتدة مهيّأة لوضع الطعام فوقها، بينما يتواجد المتطوعون في وقت أبكر لتحضير المقاعد والطاولات المخصصة لتناول الطعام، ومن ثم الاستعداد لسكب أصناف الطعام للحضور، وعند أذان المغرب، يتناول الصائمون عدة تمرات، ويشربون الماء والحساء، ثم يستعدون للصلاة، التي يتبعها تناول الوجبة الرئيسية للإفطار.
وعلى موائد الإفطار تُروى مجموعة من الحكايات، ويُمكن أن نقرأ عبرها جانبا من الثقافة التي تبتكرها الجاليات المسلمة، وتحرص عليها خلال شهر رمضان في المناطق التي تقطنها.
مشاركة في الأجر
ولهذه الموائد الرمضانية الجماعية ثلاثة أشكال، أولها الإفطار التشاركي، حيث تقوم فيه العائلات بإعداد طبق أو طبقين من أصناف المائدة الممتدة، وفي أحيان أخرى يكون الإفطار التشاركي مخصصا لعموم الجالية، وفي أحيان أخرى يُخصص للأطفال، احتفاءً بصومهم وتشجيعا لهم.
تقول أم البراء للجزيرة نت “يشجع هذا النمط من الإفطار الجماعي العائلات على إعداد وجبات تُعبّر عن أصولها، لتتشاركه مع أبناء الجالية المسلمة ذات الجنسيات المتعددة”، وترى أن الجانب الأهم أن “المائدة تبعث روحا من الحماسة لدى الأطفال، الذين يتشاركون مع عائلاتهم في إعداد الطعام، ويتبادلون مع أصدقائهم من أبناء الجالية ما صنعوه في منزلهم بفخر”، وتضيف أن “هذا النمط من موائد الإفطار تقيمه العوائل بالأساس لأطفالها، رغبة في إضفاء روح البهجة عليهم، وترسيخ حب رمضان والمسجد والشعائر الإسلامية في قلوبهم”.
وثاني أشكال الموائد هو الإفطار الجماعي، الذي يُقام مرة في الأسبوع على أقل تقدير، ويتكفل بهذا الإفطار متبرعون قبل بداية الشهر، بالتنسيق مع إدارة كل مسجد على حدة.
ويشير فراس (أبو عمر)، أحد القائمين مع إخوته على تنفيذ إفطار جماعي بشكل كامل، للجزيرة نت إلى أنه أقام إفطارا بنية الصدقة عن والده الذي تُوفي، كما ثمّن حضور الجالية وتفاعلها وتكاتفها في مثل هذه الأنشطة، وحرص الكثيرين على الدعاء لوالده بالرحمة والمغفرة.
أما ثالث أشكال الموائد التي تقام بشكل يومي، فهو أطعمة تقدمها مجموعة من العائلات التي تتطوع لإعداد وجبات يومية لخدمة مرتادي المسجد، خاصة من الطلبة المغتربين للدراسة، أو أولئك المغتربين عن أهلهم لظروف العمل.
وجهة مفضّلة للأطفال
بدأت نور، طفلة في الـ12 من عمرها، منذ أول يوم في رمضان الاستعداد للمشاركة في مسابقة حفظ سورة لقمان، وتحكي للجزيرة نت أنها تشارك منذ 6 أعوام في المسابقات التي يقيمها المركز الإسلامي في ولاية كنساس الأميركية، سواء لحفظ سورة من القرآن، أو للمشاركة في مسابقة الحديث النبوي الشريف، أو مسابقة الثقافة الإسلامية العامة.
وبحسب نور، فإن أكثر ما يبهجها في رمضان هو مشاركتها قبل بدء الشهر الفضيل في تزيين المسجد مع عدد من أطفال الجالية، ومشاركتهم سوية في الأنشطة التي تستمر طوال الشهر، حيث يلتقي الأطفال على موائد الإفطار الجماعي، أو خلال صلاة التراويح، وما يليها من فعاليات.
وفي حديث مع والدة نور، أشارت إلى أن ابنتها تعلّمت في المسجد منذ كانت في الرابعة من عمرها قصص الأنبياء، والسيرة النبوية، والتجويد، وتضيف للجزيرة نت أن “رمضان محطة مركزية سنوية، يزداد فيها دور المسجد، وارتباط الأطفال والرجال والنساء به، ويحرص فيه الأهالي على أخذ أطفالهم إلى المساجد في سنٍّ مبكّرة، خاصة مع ما يواجهونه من تحديات طوال العام، وفي ظل الأعياد الكثيرة -داخل أميركا- المخالفة للدين الإسلامي، والتي يغلب عليها الطابع الاحتفالي الجاذب للأطفال”.
أما جنى، الطفلة ذات الـ6 أعوام، فتحضر للمسجد كل يوم أثناء صلاة التراويح، كي تلعب في غرفة منفصلة مع أقرانها من الأطفال، وتقول إنها تحب المسجد كثيرا لرؤية أصدقائها هناك، حيث تحرص الكثير من المساجد على توفير متطوعات يُجالسن الأطفال، كي يحظى الأهالي بإمكانية التعبّد بأريحية، خاصة في أيام إجازة نهاية الأسبوع.
وتُنصب الخيام الرمضانية في أكثر من مسجد طوال الشهر، لا لإقامة الاحتفالات كما في كثير من الدول العربية، بل لإقامة المسابقات والدروس الدينية، وتوفير مكان للإفطار والسحور الجماعي، مما يُضفي أجواءً مختلفة للنشء عن ما اعتادوا عليه بقية العام.
روحانيات في الغربة
مع بدء رمضان، تتسابق المساجد لإعداد أنشطة وفعاليات دينية وثقافية لخدمة أبناء الجالية بأعمارهم المختلفة، خاصة ما يتصل بالشباب، في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه أبناء الجالية المسلمة في الولايات المتحدة، كما تقوم بعض المساجد باستقطاب دعاة وقرّاء من خارج الولايات المتحدة، أو من ولايات أخرى، لإثراء برامجهم خلال الشهر.
أحد أبرز تلك الأنشطة، ليلة تسمى بـ”ليلة الشباب”، حيث تُقام كل سبت في بعض المساجد أنشطة للشباب الذين تزيد أعمارهم عن 13 عامًا، بوصفه يوم إجازة في الولايات المتحدة، ويجتمعون في تلك الليلة لصلاة التراويح والتهجد، وتتخللها خواطر دعوية وسحور جماعي، ويحرص الآباء والأمهات على تشجيع أبنائهم لحضور مثل تلك الأنشطة.
يقول أبو المهند للجزيرة نت إن هذه الأنشطة ساهمت كثيرا في تكوين الثقافة الدينية لأبنائه، وأن أكثر ما يهوّن عليهم الغربة، هو الدور الفاعل للمسجد، بالاهتمام بتعزيز وترسيخ الثقافة والشعائر الدينية لدى أبناء الجالية وللأجيال القادمة.
أما أكثر ما يميّز المساجد في الولايات المتحدة برامجها في العشر الأواخر، فبالإضافة إلى فتح أبواب الاعتكاف للرجال والنساء في أماكن منفصلة، فإنه يتخللها برنامج متواصل يبدأ من صلاة العشاء ثم التراويح، مرورا بالتهجد والسحور الجماعي، ومنذ اليوم الأول من رمضان، تقيم كثير من المساجد صلاة التراويح بـ20 ركعة مصحوبة بخاطرة في المنتصف، وركعتي الشفع والوتر.
ويحكي أشرف (أبو محمد)، الذي يعتكف بانتظام في العشر الأواخر من رمضان في الجمعية الإسلامية في كنساس، أن “تجربة الاعتكاف بالعموم، هي تطهير للنفس، فما بالك بالذي يعيش في بلاد الغربة، فالشخص يعمل طوال العام ويواجه تحديات مستمرة، لذا يأتي رمضان بوصفه فرصة عظيمة لمراجعة الأولويات في كافة مناحي الحياة”.
ويضيف للجزيرة نت أن “ما يؤكده هذا الشهر في النفس أن الدين ليس قيمة ثانوية، بل أساسية، فالعمل يعينك على العبادة وليس العكس، ورمضان فرصة ثمينة لإعادة العلاقة مع الله، ولله نفحات، كليلة القدر، على الفرد أن يستثمرها”، وفق تعبيره.
ويؤكد أبو محمد أن “العنصر الأهم لاستثمار رمضان على الوجه الأمثل هو الخلوة، خاصة في العشر الأواخر، بعكس ما هو رائج من عزائم وأنشطة وفعاليات يغلب عليها الترفيه في هذا الشهر”، ويوضح “لكي يستثمر الفرد هذه الأيام، عليه أن يضحي بوقته وماله، ويزيد تركيزه في قراءة القرآن والعبادات، وهذه التضحية تشعر بآثارها في بركة الوقت والأهل والمعاش، وكأنك وُلدت من جديد، ولا يتعاظم أثر هذه الخلوة إلا في المسجد”، على حد وصفه.
وتشهد المساجد في رمضان، خاصة في العشر الأواخر، إقبالا واسعا على التبرعات من جانب المسلمين، الذين يُسهمون في رفد المسجد بالموارد المالية اللازمة لاستمرار أنشطته وتلبية احتياجاته، أو ما يُجمع من تبرعات لدعم الفقراء والمحتاجين حول العالم، عبر الجمعيات الرسمية المسجلة.