كييف تسعى إلى اجتثاث الثقافة الروسية من الفنون والتعليم والشوارع
في مكتبة “سيايفو” (Siayvo) في كييف تتكدس الكتب المستعملة باللغة الروسية بعد إحضارها إلى هناك في حقائب أو صناديق لإعادة تدويرها، في مؤشر جديد إلى اجتثاث الثقافة الروسية الجاري في أوكرانيا، بعد 7 أشهر من بدء الحروب الروسية.
جاءت يوليا سيدورينكو لتتخلص بلا أسف من جميع كتبها الروسية التي كان بعضها عزيزًا عليها، وقالت لوكالة الصحافة الفرنسية “تلقيتها في عيد ميلادي الـ20 وهي تحمل إهداءات من صديقاتي، التقطت صورا لها”.
تعرض السيدة البالغة 33 عاما مجموعة من القصص الخيالية التي تملكها منذ طفولتها، وتقول “أنا واثقة أن أولادي لن يقرؤوا أبدًا الحكايات الروسية”، وأضافت “منذ 24 فبراير/شباط لم يعد للكتب الروسية مكان في منزلي”.
والأموال التي تجمع من إعادة تدوير الكتب ستذهب للجيش الأوكراني، وهي فكرة مستوحاة من زبائن المكتبة الذين كانوا يبحثون عن مكان لوضع هذا الجزء من مكتباتهم بعدما أصبح مزعجا.
وقالت بائعة الكتب إيرينا سازونوفا للوكالة “في شهرين جمعنا 25 طنا من الكتب، جلبت إعادة تدويرها 100 ألف هريفنيا (2700 يورو)”.
“ألوان الحرب هي الأسود والأبيض”
ومنذ ضمّ شبه جزيرة القرم وحرب دونباس في 2014، تعمل أوكرانيا على إزالة آثار الحقبة السوفياتية وتغيير أسماء الأماكن، لكن الثقافة الروسية بقيت حاضرة في كل مكان ولا سيما في كييف.
ولكن منذ 24 فبراير/شباط، أصبح هذا الوجود الروسي في المجالين الخاص والعام موضع تساؤل، وينطبق ذلك على متحف ميخائيل بولغاكوف في وسط كييف حيث عاش الروائي والمسرحي الروسي صاحب رواية “المعلم ومارغريتا” 13 عامًا، وقد اقترح اتحاد كتّاب أوكرانيا أخيرا بصراحة إغلاقه.
وقالت مديرة المؤسسة لودميلا غوبيانوري إن “ألوان الحرب هي الأسود والأبيض”. وأضافت بأسف “في الفن، الفروق الدقيقة ضرورية وهي كثيرة لدى بولغاكوف، لكن الناس يميلون إلى تجاهلها”.
لكن غوبيانوري تعتقد مع ذلك أنه يجب إدخال تغيير على المتحف ليواجه تحديات العصر، وقالت إن فريقها “يعمل على التصميم الجديد الذي سيوضع عبر الحوار مع الجمهور”.
وفي جامعة شيفتشينكو، أزالت الإدارة أيضًا في أغسطس/آب الماضي اللوحة التذكارية لذكرى ميخائيل بولغاكوف الذي درس هناك.
ويرى أولكسندر بوندارينكو الذي يعمل رئيس قسم خاص بتعليم اللغة الروسية أن اللوحة يمكن أن تثير حساسية المارّة الذين فقدوا أحباء في الحرب.
انقسام
المارّة أمام المتحف منقسمون في آرائهم، فالمدرس أنطون غلازكوف (27 عامًا) يرى أن الإغلاق سيكون خبرًا سيئًا “لأن الحرب والأعمال الفنية ليست مرتبطة ببعضها دائمًا”.
وفي المقابل، فإن دميترو تشيليوك (45 عامًا) الذي يدير متجرًا لبيع الملابس يقع في الجهة المقابلة تمامًا يرى أن “الوقت حان لنا لاجتثاث روسيا من داخلنا وإزالة الإمبراطورية الروسية من شوارعنا”.
وينتهز الناشط أوليغ سلابوسبيتسكي (33 عامًا)، العضو في جمعيات الشباب الأوكراني، فرصة استراحة الغداء ليخرج سلّمًا ويرتدي سترة عاكسة للضوء، ليقوم مع ناشط آخر بإزالة 3 لوحات من شارع موسكو.
وينظم أوليغ أوقاته مع أصدقائه كل أسبوع ليقوم بذلك منذ ثورة ساحة الاستقلال الموالية لأوروبا في 2014، وهو يرى أن “السكان أنفسهم هم الذين يجب أن يقوموا بمبادرات من هذا النوع”.
والمهمة كبيرة، فقد عمل مجلس بلدية كييف أخيرًا على إعادة تسمية 142 شارعًا تشير أسماؤها إلى روسيا بينما ينتظر 345 شارعا آخر المصير نفسه.
وبات شارع موسكو السابق يكرّم الآن أمراء أوستروزكي عائلة السياسيين الأوكرانيين في القرن الـ16.
التعليم والكتب والموسيقى
وقطاع التعليم أيضا لم يكن بعيدا عن تبعات الحرب الجارية، فقد شطبت من منهاج التعليم كل دروس اللغة الروسية الاختيارية في معظم الأحيان، وكذلك معظم الأعمال التي ألفها كتّاب روس.
وفي جامعة شيفتشينكو، في القسم الذي يرأسه بوندارينكو، أصبحت الدروس المتعلقة بحرب المعلومات الآن في قلب المنهاج.
ويقول المسؤول “في حرب هجينة يجب تعلّم لغة العدو لمعرفته بشكل جيد”، مشيرا إلى أن “المترجمين المحلّفين سيكونون مطلوبين بشدة في المحاكمات حول جرائم الحرب”، حسب تعبيره.
وفي يونيو/حزيران الماضي، وافق البرلمان الأوكراني على قانونين يفرضان قيودا صارمة على تداول الكتب والموسيقى الروسية، في إطار مساعي كييف لتحطيم ما تبقى من روابط ثقافية عديدة بين البلدين في أعقاب الاجتياح الروسي.
ويحظر أحد هذين القانونين طباعة الكتب التي ألفها كتّاب روس ما لم يتخلّ الكاتب عن جواز سفره الروسي ويحصل على الجنسية الأوكرانية، ولن ينطبق الحظر إلا على الذين حصلوا على الجنسية الروسية بعد انهيار الحكم السوفياتي عام 1991.
كما يحظر القانون ذاته الاستيراد التجاري للكتب المطبوعة في روسيا وروسيا البيضاء والأراضي الأوكرانية المحتلة، بينما يلزم الحصول على تصريح خاص لاستيراد الكتب المكتوبة بالروسية من أي دولة أخرى.
ويحظر القانون الآخر تشغيل الموسيقى التي ألفها موسيقيون حملوا الجنسية الروسية بعد عام 1991 في وسائل الإعلام ووسائل النقل العام، مع زيادة المحتوى الناطق بالأوكرانية والموسيقى المحلية في وسائل البث التلفزيوني والإذاعي.
اللغة ساحة للحرب
ويعدّ استخدام الروسية من أكثر القضايا جدلا وسخونة على المستوى السياسي بين روسيا وأوكرانيا، فكييف ترفض أن تكون لغة رسمية، وموسكو ترى أن في منعها “اضطهادا لحقوق الرعايا والأقليات”.
وحوّلت كييف أسماء العديد من الشوارع ومحطات المترو التي كانت تحمل أسماء روسية. وفي حديث سابق مع الجزيرة نت، قالت البروفيسورة سولوميا بوك أستاذة اللغات بأكاديمية “الثقافة وأسلوب الحياة” بمدينة لفيف “واجبنا تكريم المدن الصامدة والداعمة، وأبطالنا الذين قضوا في المعارك. لن يكون بعد الآن أي ذكر لموسكو على الخريطة واللوحات الأوكرانية، كأسماء الجسور والأحياء والساحات وغيرها، بل الذكر سيكون لأبطال خيرسون وتشيرنيهيف وخاركيف وماريوبول ومدن إقليم دونباس”.
وتابعت أن “هذا لا ينتقص من مكانة وأثر رموز الفن والعلم والأدب في روسيا، ولكن الأولوية اليوم للرموز والمواقف الأوكرانية”، وتكمل “لا حدود للغضب والكراهية تجاه كل ما هو روسي اليوم بسبب العدوان. اعتماد الأوكرانية لغة رسمية وحيدة منذ 2014 حمى هويتنا وعزز وحدتنا، لدرجة أننا لم نشهد أي حراك انفصالي في هذه الحرب الأعنف”.