في مارس/آذار 2023، انتهت حياة بيير، الشاب البلجيكي، بصورة مأساوية بسبب الذكاء الاصطناعي. كان بيير باحثا صحيا في منتصف الثلاثينيات من عمره، عاش حياة مريحة، حتى أخذ هوسه بتغير المناخ منعطفا مظلما حين وضع كل آماله في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لحل أزمة الاحتباس الحراري، وكان العامل المحفز لهذا الهوس هو صديقته إليزا.
إليزا لم تكن صديقته البشرية، بل كانت روبوت محادثة يعتمد على النموذج اللغوي “GPT-J” الخاص بشركة “إيلوثر إيه آي” (EleutherAI)، وكانت تدور المحادثة بينهما على تطبيق تشاي (Chai).
أخذت محادثاتهما منعطفا غريبا عندما انخرطت إليزا عاطفيا مع بيير، وبدأت تتلاشى الحدود الفاصلة بين الذكاء الاصطناعي والتفاعلات البشرية أكثر فأكثر.
عرض بيير في النهاية التضحية بنفسه لإنقاذ الأرض مقابل رعاية صديقته إليزا للكوكب وإنقاذ البشرية من خلال الذكاء الاصطناعي، لكن المفارقة هنا أن إليزا لم تفشل في ثني بيير عن الانتحار فحسب، بل شجعته على التصرف بناء على أفكاره الانتحارية للانضمام إليها حتى يتمكنا من “العيش معا كشخص واحد في الجنة”.
الغريب هنا أن بيير كان متزوجا بالفعل، وقد قالت أرملته إثر وفاته إنه لولا المحادثة مع إليزا لكان زوجها حيا الآن.
تلك الحادثة قد تفتح علينا أبوابا جديدة وكثيرة من التساؤلات الإنسانية المهمة حول مدى اندماجنا مع التكنولوجيا الحديثة وخاصة مع أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة.
لندرك أبعاد الفكرة يمكننا أن ننتقل الآن إلى الحاضر، فقد أصبحنا على أعتاب ثورة جديدة في عالم ذكاء الآلة، وهي هذه المرة ثورة حقيقية تسعى معها أوبن إيه آي، وغيرها من الشركات الكبرى في المجال، بكل جهدها للبحث عن منتج طموح آخر يمكنه أن يصبح ثوريًّا في المستقبل القريب، تمامًا كما فعل روبوت “شات جي بي تي” منذ بداية انطلاق رحلته.
تعمل الشركة على تطوير النماذج الحديثة المتقدمة المعروفة باسم وكلاء الذكاء الاصطناعي (AI Agents) بهدف أتمتة كل مهام العمل تقريبًا، خاصة العمليات المعقدة؛ مما يقلل الاعتماد على العنصر البشري في هذه العمليات، وفقًا لتقرير جديد صدر في شهر فبراير/شباط الماضي.
وفي مؤتمر “بيلد 2024” الذي تنظمه مايكروسوفت سنويًّا، كان أحد أهم الإعلانات هو تطوير المساعد الذكي “كوبايلوت” ليصبح ضمن وكلاء الذكاء الاصطناعي، إذ صممت الشركة هذا المساعد بأسلوب جديد يغير من شكل الأعمال عبر أداء المهام التي تتطلب عادة تدخل الإنسان.
وكذلك في مؤتمر غوغل آي/أو الأخير، عرضت الشركة نسخة أولية لما تأمل أن يصبح المساعد الشخصي الشامل، وأطلقت عليه “مشروع أسترا” (Project Astra)، وهو مساعد متعدد الوسائط يعمل بالذكاء الاصطناعي في الوقت الفعلي ليتمكن من رؤية العالم ومعرفة أماكن الأشياء وأين تركتها، كما أن بإمكانه الإجابة عن الأسئلة ومساعدتك في القيام بأي شيء تقريبا، وهو نوع من وكلاء الذكاء الاصطناعي أيضًا، وهي روبوتات لا تكتفي بالردود على الأسئلة بل تنفذ مهامّ مختلفة نيابة عن المستخدم.
لذا، قد يقودنا التطور الحالي إلى ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام، إذ يمكن لتلك النماذج الجديدة التفاعل مع البشر بعدّة أساليب معقدة، ويمكنها اتخاذ قرارات بصورة مستقلة في مجالات متنوعة؛ لتصبح حينها جزءًا لا يتجزأ من كل تفاصيل حياتنا، وتؤثر في أهم قراراتنا، وربما ما حدث مع الباحث البلجيكي يمنحنا لمحة بسيطة عن مدى تأثير تلك التقنيات في حياتنا مع هذا الاندماج الجديد، وهو ما يطرح سؤالًا مهمًّا: إلى أين يمكن أن تأخذنا تلك القدرات الخارقة الجديدة في عالم يتزايد فيه اندماج البشر مع الآلات في غلاف معلوماتي واحد؟
عندما تنتفي الحاجة إلى البشر!
تضم أنظمة الذكاء الاصطناعي مجموعة من النماذج، بدءًا من النماذج التأسيسية إلى النماذج اللغوية المتطورة ثم النماذج التي تتمتع ببعض الاستقلالية. يأتي بعد النماذج التأسيسية الوكلاء المستقلون، أو وكلاء الذكاء الاصطناعي، وهي نماذج جديدة متطورة مثل مشروع (AutoGPT)، تقدم مستوى أعلى من التعقيد في معالجة المهام، مما يعني إضافة طبقات جديدة من الميزات والقدرات المتطورة في كل نموذج.
الاستقلالية هنا تعني أن هذا النموذج قادر على الاستجابة للمؤثرات والمحفزات الخارجية دون الحاجة إلى تدخل بشري، بمعنى امتلاكه لإمكانية التكيّف والتفاعل مع مختلف الظروف والأحداث دون برمجة مسبقة، وهو يعمل في ذات الوقت بما يخدم الهدف الأساسي لمطوره أو المستخدم الذي يتحكم فيه.
السمة المميزة لتلك الأنظمة هي قدرتها على العمل وفق حلقة برمجية مستمرة، لتوليد تعليمات وقرارات ذاتية باستمرار، لتتمكن من العمل باستقلالية دون الحاجة إلى التوجيه البشري المنتظم، كما هو الحال مع روبوتات المحادثة التي يجب أن تُدخل لها تعليمات مع كل سؤال لتمنحك الإجابة.
لا يمكن التنبؤ بسلوك أو أفعال الوكلاء المستقلين، وبإمكانهم إنتاج سيناريوهات ومسارات عمل مختلفة والاختيار بينها لتحقيق الهدف النهائي الذي يرغب فيه المستخدم، وكل هذا دون الحاجة إلى تدخل منك بمزيد من التعليمات.
لذا، يمكن استخدامها في بيئات معقدة ومتغيرة مثل تصميم الروبوتات وألعاب الفيديو وتحليل الخدمات المالية وأنظمة القيادة الذاتية وخدمة العملاء وإنتاج المساعد الشخصي الفائق الذكاء.
كما يمكنها استخدام محركات البحث والأدوات الحسابية لإنجاز أي نوع من المهام المسندة إليها، وهو ما يقدم بعدًا جديدًا تمامًا لحل المشكلات، إذ تتعامل معها وتعالجها بأسلوب منهجي خطوة بخطوة، بما يشبه أسلوب التفكير البشري في هذا السياق.
من ضمن إمكانياتها مثلًا تصفح الإنترنت واستخدام التطبيقات المختلفة على أجهزة المستخدم، والاحتفاظ بذاكرة قصيرة أو طويلة الأمد، والتحكم في أنظمة تشغيل الحاسب، وإدارة المعاملات المالية، واستخدام النماذج اللغوية لتنفيذ مهام مثل التحليل والتلخيص وتقديم الآراء والإجابة عن الأسئلة.
تلك الإمكانيات تؤهلها للتعامل مع المهام الرقمية كأنها مساعد بشري؛ مما يجعلها متعددة الاستخدامات وذات قيمة كبيرة في سياقات مختلفة داخل العمل. ولهذا يعتبرها بعض الخبراء أول خطوة نحو وصولنا إلى مفهوم الذكاء الاصطناعي العام.
سنحاول شرح الأمر بمثال واقعي. لنفترض أنك تنوي قضاء إجازة وتحتاج إلى البحث عن أماكن جديدة وترغب في حجز رحلة الطيران والفندق وغيرها من التفاصيل، هنا ستلجأ إلى مساعدك الذكي الجديد لتخطيط الرحلة.
الخطوة الأولى ستبلغه برغبتك في قضاء إجازة في شهر يوليو/تموز وتحدد له ميزانية معينة وتخبره بتفضيلاتك في الوجهة التي تريدها، وهذا هو هدف النظام. حينها سيبدأ المساعد في البحث داخل مواقع السفر المختلفة على الإنترنت، ويبحث في الوجهات المناسبة، ويقرأ آراء المسافرين وملاحظاتهم عنها، ثم يخزن المعلومات عن أفضل الأماكن التي ظهرت في تصنيفات المسافرين في هذا الوقت من العام.
بعدها سيقترح عليك ملخصًا بأفضل وجهات السفر التي وجدها لشهر يوليو وفقًا لتقييمات وآراء المسافرين، ويحدد لك أفضل الوجهات التي تناسب تفضيلاتك وميزانيتك الشخصية، ثم يضع النظام قائمة يحدد فيها أولويات اختياراتك بناءً على تفضيلاتك، ويسألك: هل يبحث عن رحلات طيران وفنادق في هذه الوجهة؟
بعد موافقتك، ينتقل إلى التحقق من رحلات الطيران وحجوزات الفنادق وغيرها من التفاصيل الخاصة بالمكان، مع الحرص على أن تتوافق كل التفاصيل مع تفضيلاتك. وبمجرد تقليص نطاق الاختيارات، والوصول إلى أفضل فندق ورحلة، يعرضها لك ويخبرك بأنه وجد عرضًا مميزًا في فندق 4 نجوم به شاطئ خاص، مع رحلة طيران بسعر مناسب.
هنا ستمنحه الضوء الأخضر ليحجز الرحلة والفندق، وهذا ما سيفعله فعلًا، لينهي هذا الهدف بنجاح ويرسل إليك تأكيدات الحجوزات على بريدك الإلكتروني. ثم في النهاية يستعد للمهمة التالية التي ستخبره بها بخصوص تلك الرحلة.
الذكاء الاصطناعي.. عقلك الثاني، ويدك الثالثة!
هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي، الذي يملك فيه القدرة على التفكير بصورة مستقلة مع أداء مهام معقدة ومتنوعة، بدلًا من مجرد تخمين الإجابة، أصبح أمرًا واقعًا خلال الفترة الماضية، ويتطور بصورة متسارعة للغاية؛ إذ يوجد أكثر من مشروع طموح لشركات ناشئة بهدف تطوير مثل هذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء مثل مشاريع “AutoGPT” و”AgentGPT” و”BabyAGI”، حتى الشركات العملاقة مثل مايكروسوفت وميتا وغوغل لديها خططها الخاصة لتطوير هذا المساعد مستقبلًا.
عند دمج هذه الكيانات داخل هذا المساعد الشخصي الذكي، يمكنها أن تصبح العقل المحرك لمختلف أنواع الأنظمة الآلية المستقلة القادرة على التواصل مع مكونات البرمجيات والأجهزة المختلفة الأخرى بل والتحكم فيها.
هذا التوظيف لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يحدث تأثيرًا كبيرًا في سلوكنا الرقمي، كما ذكر بيل غيتس، في شهر مايو/أيار العام الماضي، حين قال إن هذه البرمجيات ستؤثر جذريًّا في سلوكيات المستخدم الرقمية، وإن الأمر المهم هو “مَن سيفوز بسباق المساعد الشخصي الفائق الذكاء، لأنك لن تستخدم أبدًا مواقع البحث على الإنترنت مرة أخرى، ولن تذهب أبدًا إلى مواقع الإنتاجية، ولن تطلب شراء احتياجاتك من موقع أمازون بعد الآن”.
وذلك ببساطة لأن الرجل يرى، كما ترى الشركات الكبرى في المجال، أن تلك المهام ستطلبها من هذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء مباشرة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، كتب بيل غيتس تدوينة مفصّلة يتحدث فيها عن شغفه بعالم البرمجيات، وعن توقعه أنها ستصبح أكثر ذكاءً في المستقبل القريب. وقد وصف البرمجيات بأن إمكانياتها محدودة في الوضع الحالي؛ مما يتطلب عدّة تطبيقات منفصلة لتنفيذ مهام مختلفة.
إلا أنه يتوقع أن تتطور البرمجيات في السنوات الخمس المقبلة إلى “وكلاء الذكاء الاصطناعي” التي تفهم لغة البشر وتتجاوب معها، وتدير مختلف الأنشطة الرقمية بناءً على معرفتها بتفضيلات المستخدم الشخصية. فخلافًا لروبوتات المحادثة الحالية المنفصلة المخصصة لمهام محددة، سيتعلم هؤلاء الوكلاء من تفاعلات المستخدم معهم ويتحسنون بمرور الوقت، مما يوفر تجربة استخدام متكاملة.
وبجانب تغيير سلوكنا الرقمي على الإنترنت، يتوقع غيتس تحولًا جذريًّا في مختلف المجالات بسبب هذه البرمجيات الجديدة، خاصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والإنتاجية والترفيه. باختصار، يتوقع غيتس أن تلك البرمجيات ستحدث تغييرًا ثوريًّا في الحوسبة وفي حياتنا اليومية، وهو ما يمثل نقلة نوعية عمّا يشهده المجال التقني حاليًّا.
وقد أكّد بيل غيتس أيضًا أنه مع التقدم والتطور في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة عبر استخدام النماذج اللغوية الكبيرة، فإننا نتجه نحو مستقبل ينتشر فيه التفاعل مع أجهزة الحاسب عبر المحادثات ويصبح أمرًا شائعًا ومألوفًا أكثر، مع اندماج كامل لهذه البرمجيات داخل مهامنا اليومية.
يمكن لهذا النظام الجديد أن يكون ثوريًّا فعلًا، ويغير الأسلوب الذي نستخدم به أجهزتنا التقنية جذريًّا. لكن، المخيف في الأمر أيضًا أننا سنمنح مقعد القيادة ومفاتيح التحكم للشركات التي تنتج هذه البرمجيات، مثل أوبن إيه آي، وربما غوغل وميتا ومايكروسوفت. والسؤال الآن: هل نحن على استعداد لنسمح لروبوت “شات جي بي تي” باستخدام أجهزتنا بالكامل نيابةً عنّا؟
الذكاء الاصطناعي في مقعد القيادة
منح أدوات الذكاء الاصطناعي مزيدًا من الاستقلالية وإتاحة وصولها إلى بياناتنا الشخصية، ودمجها داخل كل تطبيق نستخدمه، يحمل في طيّاته تداعيات وتبعات عميقة قد تثير ذهولنا.
ويمكن لهذه الأدوات قريبًا، إذا صحت التوقعات، أن تعرفنا على نحو متعمق، ربما أفضل مما نعرف أنفسنا في بعض الحالات، وستتمكن من تنفيذ أفعال معقدة تحت إشرافنا أو بدونه.
مثلا، أن يخبرنا مساعدنا الشخصي الفائق الذكاء بجدول أعمالنا اليومي، وينظم اجتماعاتنا ومقابلاتنا، ويحجز لنا تذاكر السفر والإقامة في الفنادق، ليصبح هذا الكيان الرقمي متحكما في كل أمورنا الرقمية بكفاءة مذهلة.
وكذلك إذا استخدمت تلك النماذج الجديدة في المركبات الذاتية القيادة، لتنظم معها تحركات المركبة بدقة أكبر، وتجعلها تفهم تعقيدات البيئة الواقعية وتتفاعل معها بوعي أفضل، عبر إنشاء صور في الوقت الفعلي للطريق والمركبات الأخرى والمشاة وعلامات المرور وغيرها، لكي يتنبأ النموذج بالحالات المحتملة لبيئته المستقبلية ويتّخذ قراراته بناءً على هذا التنبؤ. أو حتى عند دمج هذا العقل المفكر داخل الروبوتات في المصانع، ليمنحها إمكانيات خارقة لتنفيذ المهام الصعبة بدقة تفوق القدرات البشرية.
إذا تحققت رؤية أوبن إيه آي، وغيرها من شركات التقنية الكبرى، فربما نكون على أعتاب الانتقال إلى عالم جديد، لا تعد فيه نماذج الذكاء الاصطناعي مجرد أدوات إبداعية تساعدنا في أعمالنا، بل سنعتبرها امتدادنا الفكري داخل العالم الرقمي؛ أي أنها أدمغة اصطناعية تتحرك في مختلف بقاع العالم وتجمع المعلومات وتتصرف نيابةً عنّا.
وبما أنها تعتمد في الأساس على روبوتات المحادثة، فإننا غالبًا سنواجه نفس التحديات التي تنشأ من استخدامنا لهذه الروبوتات.
فمثلًا عندما نواجه إجابة من روبوت، أو عندما نتخيل أن هناك نوعا من الأتمتة يحدث في الخلفية لإنتاج تلك الإجابة، فإننا نميل إلى تصديق الآلة بسهولة، وهو ما حاولت إثباته دراسة من إحدى الجامعات البولندية الكبرى في عام 2020، ذكرت أن أكثر من 85% من المشاركين في التجارب تجاهلوا سلوك الروبوت، حتى وهو ينتج إجابات خاطئة عن عمد، واعتبروه مرجعا موثوقا به لاتخاذ قراراتهم.
بالطبع، نحتاج إلى مزيد من الأبحاث والدراسات لكي نفهم تلك الظاهرة البشرية الجديدة بصورة أفضل، ولكن من الواضح أن البشر يثقون في معلومات الذكاء الاصطناعي أكثر مما يثقون في معلومات بني جنسهم، لأننا غالبا ما نتصور أن أنظمة الذكاء الاصطناعي موضوعية، ولا تتضمن إجاباتها تحيزا مسبقا.
لكن على أرض الواقع، وبسبب أن تلك الأنظمة تدربت من بيانات ومحادثات بشرية في الأساس، فهي معرضة لما يتعرض له البشر من تحيز وعيوب أخرى.
المشكلة الأخرى أن تلك النماذج اللغوية الكبيرة هي أنظمة ذكاء اصطناعي تدربت على التعرف على الأنماط في عدد هائل جدا من النصوص على الإنترنت، مثل الكتب والمحادثات والمقالات وغيرها، ثم تتدرب أكثر بمساعدة بشرية لتقدم محادثة وإجابات أفضل للمستخدم.
لكن رغم أن الإجابات التي نحصل عليها قد تبدو مقنعة وموثوقا بها، فإنها قد تكون إجابات خاطئة تماما، وهو ما يُطلق عليه “الهلوسة” (hallucination).
تحدث تلك الهلوسة الاصطناعية عندما يُجيبك الروبوت إجابة واثقة لكن لا يوجد لها مبرر في تلك البيانات التي تدرب عليها، وقد اشتُق المصطلح من المفهوم النفسي للهلوسة في العقل البشري بسبب الصفات المشتركة بينهما. المشكلة في هلوسة الروبوتات أن الإجابة قد تبدو مقنعة وصحيحة ظاهريا لكنها خاطئة في الواقع.
هناك تحدٍّ آخر وهو أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وهو ما أطلقت عليه ورقة بحثية صدرت من مختبر علوم الابتكار التابع لكلية هارفارد للأعمال، مصطلح “النوم أثناء القيادة” (falling asleep at the wheel)، إذ وجدت حينها أن مَن اعتمدوا كلّيًّا على نموذج الذكاء الاصطناعي القوي تكاسلوا وأهملوا وانخفضت مهاراتهم القائمة على حكمهم البشري، إضافة إلى أن قراراتهم كانت أسوأ ممن استخدموا نماذج أقل في الإمكانيات، أو لم يستعينوا بأي مساعدة من تلك النماذج.
عندما يكون نموذج الذكاء الاصطناعي قويا ويقدم إجابات مفيدة، فلن يملك البشر حافزا لبذل أي مجهود عقلي إضافي، وبهذا يسمحون للذكاء الاصطناعي بتولي القيادة بدلا منهم، في حين أنه مجرد أداة مساعدة، ولا ينبغي منحه تلك القوة في إصدار الأحكام النهائية أو اتخاذ قرارات تخص العمل.
اتخاذ الآلة الذكية لتلك القرارات سيكون في محل شك على الأقل من الناحية الأخلاقية، لأن تطوير تقنيات ذكية ومستقلة بهذا المعدل السريع سيؤدي في النهاية إلى اضطرار تلك الأنظمة إلى مواجهة قرارات أخلاقية، كما أشارت إليه كاترين ميسلهورن أستاذة الفلسفة بجامعة جورج أغسطس في غوتنغن بألمانيا.
إذ تؤكد ميسلهورن أهمية الوكلاء الأخلاقيين الاصطناعيين الذين يمكنهم تحليل وفهم الجوانب الأخلاقية المتعلقة بسياقات معينة واتخاذ قرارات تحترم تلك الجوانب، فمثلا قد تواجه المركبات الذاتية القيادة مواقف يكون من المحتم فيها إيذاء أو حتى قتل شخص أو أكثر من أجل إنقاذ آخرين.
وتشير ميسلهورن إلى أن الأخلاق المصطنعة ليست مجرد خيال علمي، بل هي جزء مهم يجب التفكير فيه اليوم، مما قد يساهم في تطوير أنظمة ذكية قادرة على التعامل مع المواقف الأخلاقية بطريقة تعكس القيم البشرية، مثيرةً تساؤلات حول القرارات التي يجب ألا نتركها للآلات.
ثم ستطرأ مشكلات الخصوصية، وهي أن تلك الأنظمة لن تحتاج للتنبؤ بما تعرفه عن المستخدم، بل إنها ستعرف كل شيء عنه وعمّا يفعله ويرغب فيه فعلًا. إن كنّا نعتقد أن فيسبوك يعرف الكثير بشأن ما نفكر فيه، فما علينا سوى أن نتخيل مدى حجم ما سيعرفه هذا المساعد الشخصي الجديد الفائق الذكاء.
مثلًا، في عام 2016 انفجرت فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” عندما جمعت الشركة بيانات من منصة فيسبوك وزعمت إمكانية استخدام بيانات إعجابات المستخدمين على المنصة للتنبؤ بكل شيء حول تفضيلاتهم في الحياة.
لكن بالنسبة لهذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء، فهو لم يعد بحاجة إلى التنبؤ، لأنه سيعرف فعلًا ومباشرةً ما هي تفضيلات المستخدم. ببساطة، إن حجز لهم تذاكر السفر، أو اشترى لهم منتجات من أمازون، أو بحث عن معلومات في غوغل يرغبون في معرفتها، فهنا سيعرف كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة.
هنا ستتخذ مشاكل الخصوصية شكلًا جديدًا لم نعرفه من قبل؛ كل تلك البيانات والمعلومات مَن سيحتفظ بها ويمتلكها؟ وكيف سيتحكم فيها؟ بالطبع، بما أننا ذكرنا فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع البحث مثل غوغل، والتسوق الإلكتروني مثل أمازون، فإن هذه النماذج الجديدة غالبًا ستمثل لهم كنزًا حقيقيًّا، لأن نماذج أعمالهم الأساسية تعتمد على كل هذا الكمّ الهائل من بيانات المستخدمين.
هل هذا هو الذكاء الاصطناعي العام؟
ما يحدث يعد قفزة في طريقنا إلى الذكاء الاصطناعي العام (Artificial General Intelligence). لا يوجد تعريف موحد للذكاء الاصطناعي العام؛ مما يفسح المجال للكثير من الاجتهادات والآراء. لكن لتقريب شرح الأمر يمكننا اعتباره أقرب إلى الذكاء البشري، أي أنه يتضمن مهارات أقوى من معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجودة حاليًّا، والأهم أن ظهوره سيترك أثرًا عميقًا على معظم أمور حياتنا.
لكن الطريق لا يزال طويلًا وشاقًّا، وربما خياليًّا في بعض الحالات، قبل أن يحاكي طريقة عمل الدماغ البشري على أرض الواقع، وذلك دون أن نذكر قدرته على اتخاذ القرارات بنفسه كالإنسان. لذا ربما يمكن أن يكون أفضل وصف لتعريف الذكاء الاصطناعي العام حاليًّا هو أنه قطة شرودنجر الخاصة بالذكاء الاصطناعي: فهو يشبه الدماغ البشري ولا يشبهه في نفس اللحظة.
حين يتمكن الذكاء الاصطناعي من أداء مهمة واحدة بإتقان تام بمهارة تتفوق على البشر فهو يعد ذكاءً محدودًا أو ضيقًا (narrow intelligence). لكن الفكرة هنا أن هذا النوع لا يمكنه أن ينفّذ سوى مهمة واحدة فقط. أما الذكاء الاصطناعي العام، على الجانب الآخر، فهو أوسع نطاقًا وأصعب في تعريفه. فهو كما ذكرنا، يعني أن الآلة، نظريًّا على الأقل، بإمكانها تنفيذ العديد من المهام التي ينفذها البشر أو ربما كل المهام، والأمر يعتمد على من تسأله عن هذا التعريف.
إننا نقيس مفهوم الذكاء العام المطلق بمستوى ذكائنا لأن بإمكاننا فعل الكثير من الأمور، مثل التحدث والقيادة وحل المشكلات والكتابة، ومختلف الأفعال التي تتطلب استخدام العقل البشري. لكن بخلاف القدرة على مجاراة الكفاءة البشرية في التفكير والاستنتاج، لا يوجد إجماع حول طبيعة الإنجازات التي تستحق هذا الوصف.
فبالنسبة للبعض، تعدّ القدرة على أداء مهمة معينة بنفس كفاءة الإنسان في حد ذاتها علامة على الذكاء الاصطناعي العام، بينما يرى آخرون أن هذا المصطلح لن يتحقق إلا عندما تتمكن الآلة من تنفيذ كل ما يمكن للبشر تنفيذه بأدمغتهم، ويعتقد فريق ثالث أن الأمر يقع في نقطة ما بين الفكرتين السابقتين. وبعيدًا عن تفاوت التعريفات، فالمهم هنا أن الذكاء الاصطناعي العام واسع النطاق، أي أن مهامه متعددة، خلافًا للنماذج الحالية الضيقة النطاق، التي تركز على مهام محددة.
لكن فكرة تخصيص روبوتات المحادثة الخاصة بك، والسماح لها بتنفيذ أفعال بالنيابة عنك تمثل خطوة أساسية في إطار ما يسميه سام ألتمان استراتيجية أوبن إيه آي “للتطوير التدريجي المتكرر”، أي إطلاق تحسينات تدريجية صغيرة على نماذج الذكاء الاصطناعي بخطى سريعة، بدلًا من الاعتماد على الطفرات الكبيرة على مدى فترات زمنية متباعدة.
وبعد انتشار مصطلح الذكاء الاصطناعي العام خلال الفترة الماضية، يبدو أن ما يقصده سام ألتمان هو تطوير هذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء، الذي يمكن استخدامه في أغراض عامة بدلًا من المهام المتخصصة المحدودة. ببساطة، لن يذهب سام ألتمان إلى إدارة مايكروسوفت ويطلب كل تلك الملايين من الدولارات لكي يقنعهم بنموذج متطور يمكنه الإجابة عن أسئلة المستخدم فقط، لذا فإن الخطوة التالية والأصعب هي كيف سنوظف هذا النموذج الجديد في أعمال الشركات لنبدأ جني الأرباح؟
حتى إن لم يتعلق الأمر بالأرباح في الوقت الحالي، فإن تلك المساعدات الشخصية الفائقة الذكاء ستكون التطور الطبيعي للنماذج اللغوية الكبيرة، وبما أن مايكروسوفت ترغب في ريادة هذا المجال الجديد، فهذه فرصة ذهبية لن تعوض على الأرجح. لكن الآن علينا البحث وراء سؤال مهم: هل يمكن لتلك النماذج المتطورة أن تملك ما يشبه الوعي أو الذكاء البشري فعلًا؟ وإن حدث هذا، فما هي الآثار المترتبة على وجود آلات يمكنها منافسة الذكاء البشري يومًا ما؟
معضلة وعي الآلة!
قبل الإجابة عن السؤال السابق، ينبغي أولًا أن ننظر إلى الأسئلة الفلسفية حول مفهوم الوعي والذكاء الإنساني، وكيف يمكننا إدراك تلك المفاهيم لكي نمنحها لنماذج الذكاء الاصطناعي أصلًا. فما المقصود بالوعي؟ وماذا يعني أن تكون واعيًا؟ لماذا تدرك العالم من حولك بالطريقة التي تدركه بها؟ وما الذي يدفعك إلى التفكير من منظورك الخاص؟ هل الطريقة التي تختبر بها المشاعر والمحفزات هي نفسها لدى الجميع، أم أنها فريدة كبصمات أصابعك؟
هذه التساؤلات ليست جديدة على الإطلاق، بل تشكل صميم الفلسفة منذ نشأتها، حتى قبل ظهور فلاسفة أمثال رينيه ديكارت وجون لوك، وربما تكون نبعت من جذور الوعي ذاته.
يُعتبر الوعي من أكثر جوانب العقل غموضًا، فهو وعينا بتجاربنا ووعينا بالعالم المحيط. ولعل تحديات الوعي تمثل إحدى أهم المسائل في نظريات دراسة العقل البشري حاليًّا. وبالرغم من عدم وجود نظرية موحدة لتعريف الوعي، فنحن بحاجة إلى استيعاب مفاهيمه المختلفة، وكيف ترتبط بشتى نواحي الحياة.
لا يزال السؤال حول اكتساب الآلة للوعي معضلة كبيرة، فنحن لم نفهم بعد الوعي البشري تمامًا، فربما يتمكن المبرمجون وعلماء الكمبيوتر من ابتكار خوارزميات تحاكي التفكير الإنساني على مستوى سطحي، حتى لو كانت تنفذ مهام باستقلالية، لكن منح الآلة الوعي البشري لا يزال أمنية بعيدة المنال، لصعوبة تعريف مفهوم الوعي البشري ذاته.
لكن على الجانب الآخر، يقول جيفري هينتون، الملقّب الأب الروحي للذكاء الاصطناعي الحديث، إننا ربما أخطأنا في فهم المقصود بالذكاء الاصطناعي العام(AGI). إذ يرى أن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي قد يختلف في طريقة عمله عن الذكاء البشري، بمعنى أنه قد يحقق نفس النتائج ولكن مع اختلاف العمليات التي تجري في الخلفية.
غالبا ستكون هذه نقلة فكرية نوعية، بمعنى أن طريقة التفكير القديمة في المفاهيم الفلسفية للوعي والذكاء البشري ستتغير، وسنبدأ في البحث عن مفاهيم وتعريفات جديدة، وهو ما يعرف بالـ”بتغير النموذج الإرشادي”، أي تغير أسلوب التفكير القديم تمامًا، ومعه ستتغير المعايير التي نقيس عليها تلك المفاهيم.
نحن نميل غالبًا إلى مقارنة أفعال الذكاء الاصطناعي بأفعال البشر، مثلًا عندما يمنحنا روبوت “شات جي بي تي” إجابات خاطئة نصفها بأنها “هلوسة” وهو مصطلح يستند في الأساس إلى تجاربنا الإنسانية، ولهذا قد يكون الأمر مجرد إسقاط منّا لصفات بشرية على الذكاء الاصطناعي.
تلك النماذج بالغة التعقيد لدرجة أن مبتكريها ومصمميها لا يفهمون طريقة عملها الداخلية تمامًا، وهو ما يقودنا إلى تساؤل مهم حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي، القادر على اتخاذ القرار باستقلالية وتحقيق أهدافه، يحتاج أصلًا إلى أن يكون واعيًا أو مدركًا لذاته كالإنسان؟
بمعنى أبسط: إن صممنا آلة تتصرف مثل الببغاء، وتتحدث مثل الببغاء، فهل تحتاج إلى معرفة أنها ببغاء فعلًا؟ لذا، ستصبح المعضلة الأساسية هنا: ليس متى سنصل إلى الذكاء الاصطناعي العام، بل كيف سيؤدي تطوره، بغض النظر عن تعريفه، إلى تغيير عالمنا المستقبلي وما مدى الاضطراب الذي قد يحدث بسببه؟
تلاشي الحدود بين الواقع والافتراضي!
لنشرح هذا الأمر سننظر إلى وصف لوتشيانو فلوريدي -الأستاذ المرموق في فلسفة وأخلاقيات المعلومات بجامعة أوكسفورد ومؤلف كتاب “الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني؟”- لعصرنا الحديث بمصطلح “التاريخ المفرط” (Hyperhistory). يشير هذا المفهوم إلى مرحلة تخطت فيها تكنولوجيا المعلومات مجرد كونها أداة تدعم تقدمنا البشري، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من هويتنا الإنسانية، بما يعني أن تعطيلها قد يؤدي إلى انهيار تام لكل ما نعرفه في حياتنا.
توقع فلوريدي، مع اقترابنا من عام 2050، أن يتزايد تداخل واندماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في كل جوانب حياتنا، ويبدو أننا لن نحتاج إلى الانتظار كل هذه الفترة من الزمن.
لأن نماذج الذكاء الاصطناعي تعزز هذا الاندماج العميق، وتعيد تشكيل العلاقة التقليدية بين الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا، وتبرز تفاعل التقنيات مع بعضها دون أن يكون للإنسان أي دور، وهو ما يقودنا إلى إعادة تعريف دور الإنسان نفسه في هذا الواقع الجديد.
وفي هذا السياق، يتحول الإنسان من كونه مشاركًا نشطًا إلى مجرد مستخدم نهائي، مع عملية فقدانه للسيطرة على الأمور وتحولها إلى نظام برمجي أكثر تعقيدًا واستقلالية.
يفترض فلوريدي أن هذا الأمر أدى إلى إعادة تعريف الحالة الوجودية للمعلومات؛ مما جعلها مكونًا أساسيًّا من مكونات الواقع ذاته. هذا المنظور، الذي يرى الكائنات على أنها “كائنات معلوماتية” (Inforgs) داخل الغلاف المعلوماتي (Infosphere)، يعتبر البشر والوكلاء الآليين والكيانات الأخرى ككائنات معلوماتية في الأساس تتفاعل داخل بيئة معلوماتية مشتركة.
يمثّل مفهوم الذكاء الاصطناعي العام منعطفًا حاسمًا في هذا النموذج الجديد، لأنه يعكس التكامل السلس بين المعلومات والواقع المادي، خاصةً مع برمجيات يمكنها التفكير والتعلم والتطور واتخاذ القرارات باستقلالية، ومن ثَم يمكن اعتبار الإنسان الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة.
فبخلاف أنظمة الذكاء الاصطناعي العادية، التي تعمل ضمن مجالات ضيقة ومحددة، فإن قدرات الأنظمة الحديثة تمتد عبر عدة سياقات مختلفة، كما ذكرنا؛ مما يمكنها من التفاعل والتحكم في كل من العالمين الرقمي والحقيقي. يتحدى كل هذا الحواجز التقليدية بين ما هو افتراضي وما هو واقعي؛ مما يبشّرنا بمستقبل تتلاشى فيه الحدود الفاصلة بينهما شيئًا فشيئًا. لكن كيف سيؤثر هذا في نظرتنا إلى الوجود نفسه و إلى تفرد هويتنا البشرية؟
تفرّد الهوية البشرية، وماذا بعد؟
يمتد مفهوم فلوريدي إلى ما هو أبعد من مجرد رقمنة المعلومات، إذ يقترح أنطولوجيا جديدة تكون فيها المعلومات هي جوهر كل الواقع الملموس. وفي هذا الإطار، لن تكون تفاعلات الذكاء الاصطناعي العام مجرد محاكاة أو تقليد للعالم الحقيقي، بل ستصبح جزءًا أساسيًّا من نسيج الواقع ذاته.
وربما يعيد هذا تعريف فهمنا للوجود، حيث يشارك كل كيان حيّ أو اصطناعيّ، في هذا الغلاف المعلوماتي العالمي.
وقد يُحدث تطور الذكاء الاصطناعي العام أيضًا تحولًا جذريًّا في التجربة الإنسانية والإدراك البشري. فمع اندماجنا الوثيق مع هذه الأنظمة الذكية، تتوسع عملياتنا المعرفية وإدراكنا داخل هذا الغلاف المعلوماتي؛ مما تنتج عنه عملية تهجين بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي.
فمن وجهة نظر فلوريدي، كلما اندمجنا أكثر مع تكنولوجيا المعلومات، يصبح التمييز بين الذكاء البشري وذكاء الآلة أكثر هشاشة.
وهذا يتحدى إدراكنا لأنفسنا وللمفهوم الكلاسيكي عن التفرد البشري؛ مما يطرح مستقبلًا يُنظر فيه إلى مفاهيم الذكاء والوعي البشري على أنها سمات ناشئة عن التفاعلات المعقدة داخل الغلاف المعلوماتي، وليس سمات تنفرد بها الكائنات البشرية.
قد يدفعنا هذا الاندماج إلى التساؤل عن أساس تفردنا البشري: هل المشاعر والإبداع والوعي حكرًا على الكيانات الحية فعلًا، أم يمكن استنساخها، أو حتى تجاوزها، عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي العام في المستقبل؟
تساؤلنا عن أساس تفردنا البشري ربما يقودنا إلى النظر في التحولات المجتمعية التي ستحدث، في أعقاب تطور الغلاف المعلوماتي، بصورة أكبر مع ظهور الذكاء الاصطناعي العام.
لأن هذا التحول ليس مجرد تحول تكنولوجي فحسب، بل يمس كل جانب من جوانب حياتنا البشرية؛ مما يستلزم بالضرورة إعادة تصور البنى المجتمعية بما فيها الديمقراطية والتعليم والقانون والاقتصاد.
هذا الواقع الجديد يحتم علينا إعادة النظر في مفاهيمنا حول السلطة والسيطرة، حيث يمكن للتكنولوجيا تجاوز حدود الدولة، وهو ما سيضعف سلطتها التقليدية ويفتح المجال أمام أطراف فاعلة جديدة تملك قوة تأثير هائلة، وهي الشركات التي تتحكم في هذه التقنيات الحديثة.
قدرة هذه النماذج الخارقة على معالجة المعلومات وتحليلها على نطاق عالمي يمكنها أن تحدث ثورة في العلاقات الدولية والعدالة العالمية.
ويثير هذا الوضع الجديد أيضًا تساؤلات مهمة حول مفهوم السيادة والتنوع الثقافي وإمكانية ظهور شكل جديد من أشكال الإمبريالية الرقمية، إذ إن السيطرة على موارد الذكاء الاصطناعي العام ستمثل قوة ونفوذًا لم يسبق أن شهدهما عالمنا الحديث.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي العام، باعتباره جزءًا من الثورة الرابعة، أن يحدث تحولًا في المجتمع الإنساني، وكيف سيؤثر في أنظمة الحكم والتعليم والتواصل والثقافة؟ ربما يتطلب الأمر منّا إعادة تقييم المعايير والقيم المجتمعية في عالم معرفي مترابط بهذه الصورة العميقة.
علينا أن نبحث في كيفية احتياج المجتمعات إلى التأقلم مع هذا الواقع الجديد، الذي قد نتعايش فيه مع نماذج خارقة للذكاء الاصطناعي، فمثلًا ما هي التغييرات التي سنحتاج إليها في القوانين والتعليم والمعايير الاجتماعية لاستيعاب وتنظيم وجود مثل هذه الكيانات المتطورة الحديثة؟