لا يحتاج المرء لأن يكون مهتمًا بالسياسة العالمية حتى يعرف كلمة “ووترغيت” (Watergate)، فيكفي كونه مشاهدًا للأفلام والمسلسلات الأميركية حتى يكون عليمًا بأغلب تفاصيل هذه الفضيحة السياسية الشهيرة التي التصقت باسم الرئيس الأسبق للولايات المتحدة ريتشارد نيكسون، والتي وقعت عندما قامت مجموعة من رجاله تحت إشرافه بالتجسس على أنشطة الحزب الديمقراطي المنافس، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الإطاحة به.
تعددت الأعمال التي تناولت هذا الحدث بين السينما والتلفزيون على الرغم من مرور 50 عاما على حدوثها، وها نحن الآن في عام 2022، وخلال موسم تلفزيوني واحد يُعرض مسلسلان كانت هذه الفضيحة حدثًا رئيسيًا بهما، هما “السيدة الأولى” (The First Lady) و”غاسليت/ حرق بطيء” (Gaslit)، والسؤال هنا هو لماذا لا تمل هوليود من إعادة سرد القصة نفسها المرة تلو الأخرى من كل الزوايا الممكنة؟
قصص النساء في فضيحة ووترغيت
لا تزال هوليود تبحث في فضيحة ووترغيت، مستندة إلى وجهات نظر جديدة حتى مع وفاة العديد من شخصياتها المركزية منذ فترة طويلة، وتلاشي الكثير من الجوانب السيئة السمعة لووترغيت من الذاكرة، وظهور العديد من الأحداث الأخرى التي شهدت خلالها واشنطن العاصمة المزيد من إساءة استخدام السلطة التي يمكن القول إنها ذات عواقب أكبر بكثير، منها على سبيل المثال الحرب التي شنها الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، على العراق والتي بالإضافة إلى جرائمها الدموية، أسفرت عن مقتل الكثير من الجنود الأميركيين الأمر الذي لم يسامحه عليه الشعب بعد، ولكن لا نجده ممثلًا على الشاشة بنفس الزخم والكثافة.
ربما واحدة من أهم مزايا هذه القصة والسبب وراء تجددها على الشاشة أنها مصدر تفاؤل للأشخاص الذين يشكون في أن ذوي السلطة سيهربون من العقاب المرة تلو الأخرى، فهي عبرة وعظة على شخص أساء استخدام سلطته، وشارك في مؤامرة إجرامية، ثم عانى أكبر خسارة ممكنة، وهي خسارته المنصب الذي جلب له كل هذه المزايا، وكان أول رئيس أميركي يستقيل بهذه الطريقة على الإطلاق.
كذلك كل عمل جديد لا يعد شهادة على العصر الذي تدور أحداثه فيه فحسب، أي سبعينيات القرن الماضي، ولكن على الحاضر أيضا الذي تم إنتاج العمل فيه، فعلى سبيل المثال الأعمال السابقة التي تناولت هذه الحقبة ركزت بشكل أساسي على المشاركات الرجالية في هذه الدراما السياسية، لكن في مسلسل “غاسليت” ومع التغيرات الكبيرة التي شهدتها هوليود بعد حملة “أنا أيضًا” ومناهضة إقصاء النساء في هوليود، نجد أن القصة هذه المرة بطلتها امرأة (مارثا ميتشل) في دور زوجة سياسي مخضرم قررت أنها ليست مجرد رقم في سجلات الحزب الجمهوري، بل لها صوت يجب استخدامه بما يخدم أفكارها، فأسهمت في تغيير تاريخ بلادها.
أيضًا في مسلسل “السيدة الأولى”، الشخصية الرئيسية التي تتأثر بهذه الفضيحة السياسية هي السيدة (بيتي فورد) التي رغبت في اعتزال زوجها العمل السياسي أكثر من أي شيء آخر في الحياة، وكانت على وشك تحقيق ذلك بعد انتهاء فترة زوجها من عمله نائبا للرئيس الأميركي نيكسون، ولكن بسبب هذه الأزمة السياسية واستقالة الأخير تصبح بدون أي إنذار السيدة الأولى، وبدلًا من الحياة الهادئة التي تمنتها لنفسها، تصبح محط الأنظار والمراجعة من مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية كذلك.
التركيز من خارج المكتب البيضاوي
ما تشترك فيه هذه المشاريع السينمائية والتلفزيونية الجديدة حول فضيحة ووترغيت هو تركيزها على ما خارج المكتب البيضاوي ونيكسون شخصيًا، حيث يعمل ستوديو “يونيفرسال” في الوقت الحالي على تطوير نسخة فيلمية من بودكاست “رجل الحقيبة” (Bag Man) لريتشيل مادو الذي سيروي قصة فصل آخر من تلك الحقبة، وهي الفضيحة التي اجتاحت نائب الرئيس سبيرو أغنيو، الذي أُجبر على الاستقالة عام 1973 بعد أن دعا إلى عدم الطعن في تهمة التهرب الضريبي، التي تم حلها وسط التحقيق في الرشوة، الذي حدث في الوقت الذي كانت تتكشف فيه فضيحة ووترغيت.
ويركز الفيلم الوثائقي -المعروض على “نتفليكس” (Netflix)- تحت عنوان “تأثير مارثا ميتشل” (The Martha Mitchell Effect) على زوجة النائب العام، الذي أصبح رئيس حملة نيكسون الانتخابية لاحقًا، جون ميتشل.
وهي الشخصية الرئيسية نفسها في مسلسل “غاسليت/ حرق بطيء” التي تقوم بدورها الممثلة الشهيرة جوليا روبرتس، حيث في فترة متقاربة سنرى عملين حول السيدة ميتشل، أحدهما روائي والآخر وثائقي، مما يدل على التغيرات الكبيرة التي حدثت بسبب هذه السيدة، والتي لم يلق عليها الضوء من قبل.
يقدم المسلسل علاقة الزوجين ميتشل التي تدخل السياسية فيها بوصفها عنصرا ثالثا لا يمكن إغفاله، ففي عام 1972 اكتسبت مارثا الشهرة الواسعة، بسبب حبها للثرثرة مع الصحافة، وظهورها المتعدد في البرامج الحوارية حتى أطلق عليها “فم الجنوب”، ولكنها كذلك عانت من المشاكل النفسية وإدمان الكحول، وهذه الشخصية الحاملة للكثير من التناقضات كانت تهديدًا واضحًا على الرئاسة الأميركية، لقربها منها ولصراحتها الشديدة التي جعلتها جزءًا من عملية كشف اللعبة في النهاية.
نظر الكثيرون سابقًا إلى تاريخ مارثا على أنه مثير للازدراء أو مزعج يستحق الشفقة، ولكن هذه المرأة قالت الحقيقة أمام الجميع، ولكن كونها امرأة تعاني من إدمان الكحول والكثير من الاضطرابات لم يصدقها أحد، حتى أسهمت في التفجير، ويُطلق هنا سؤال لماذا تم نسيان مارثا في السرديات التاريخية التي تناولت فضيحة ووترغيت حتى اليوم؟ أو لماذا تناستها هوليود التي لها تاريخ شديد الذكورية في اختيار القصص التي تقدمها والزوايا الخاصة بها.
يثبت مسلسلا “غاسليت” و”السيدة الأولى” -الجاري عرضهما في الوقت الحالي- أن هناك المزيد من الزوايا التي لم تستثمر بعد في القصة القديمة، يمكن أن تجذب انتباه المشاهدين المهتمين بالدراما السياسية حتى من غير الأميركيين من المشاهدين العرب الذين قد يعرفون الكثير عن هذه الفضيحة الأميركية أكثر من وقائع سياسية دارت أحداثها في بلاد مجاورة لهم جغرافيًا.