لماذا لم يؤثر تعويم الجنيه واتفاق صندوق النقد في الاقتصاد المصري؟
القاهرة – لم تحمل الإجراءات الجديدة التي أعلنتها مصر بشأن تبني نظام سعر صرف أكثر مرونة ورفع العائد على الفائدة 2% -إلى جانب التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج اقتصادي آخر- نتائج إيجابية مباشرة للاقتصاد المصري.
فبعد مرور أكثر من أسبوعين على إصدار القرارات لمواجهة أزمة نقص العملات الأجنبية وإنعاش ثقة المستثمرين الأجانب في اقتصاد البلاد واستعادة السيولة في الأسواق يقول خبراء اقتصاديون إن الآثار الإيجابية تلاشت سريعا وتوالت الأخبار السلبية.
وعدلت وكالة “فيتش” (Fitch) للتصنيف الائتماني لمصر -الثلاثاء الماضي- نظرتها المستقبلية لمصر إلى “سلبية” بعد أن كانت “مستقرة”، وأرجعت ذلك إلى تدهور وضع السيولة الخارجية للبلاد، وتراجع قدرتها على الوصول إلى أسواق السندات، وأعلنت في بيان تثبيت التصنيف الائتماني لمصر عند “بي+” (+B).
ما أسباب خفض تصنيف مصر؟
ذكرت “فيتش” أن احتياطيات البنك المركزي المصري انخفضت إلى أقل من 32 مليار دولار بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2022 من 35 مليارا في مارس/آذار، و40 مليار دولار في فبراير/شباط من العام نفسه، مشيرة إلى أن تغطية الاحتياطي أضعف من المتوسط وتكفي 4 أشهر.
وأوضح تقرير وكالة التصنيف الائتماني أن استثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية انخفضت إلى نحو 13 مليار دولار بحلول سبتمبر/أيلول 2022 من 17 مليارا في مارس/آذار، وأكثر من 30 مليار دولار عام 2021.
ولا يزال حدوث بعض الانتعاش في التدفقات الأجنبية بسبب خفض سعر الصرف في الآونة الأخيرة، ورفع أسعار الفائدة، والاتفاق على تسهيلات قرض صندوق النقد الدولي الجديد الممدد بقيمة 3 مليارات دولار لمدة 46 شهرا مرهونا بالتوقعات حتى الآن.
ونهاية مايو/أيار الماضي غيرت وكالة “موديز” (Moody’s) النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري إلى سلبية بدلا من مستقرة، ولكنها أبقت تصنيفها عند “بي 2” (B2)، محذرة من أن المزيد من الانخفاض في الاحتياطات الأجنبية لدى البنك المركزي قد يدفعها إلى خفض تصنيف البلاد للمرة الأولى منذ مارس/آذار 2013.
وشهدت مصر منذ بداية العام خروج رؤوس أموال بقيمة 20 مليار دولار وتحديدا منذ بدء الفدرالي الأميركي رفع أسعار الفائدة، إلا أنها تلقت دعما عاجلا بنحو 12 مليار دولار من الدول الخليجية في شكل ودائع واستثمارات، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي.
ماذا يعني خفض النظرة المستقبلية؟
يقول شريف عثمان مؤسس ورئيس شركة الاستشارات الاستثمارية “بويز إنفستمنت” في واشنطن إن توقيت إصدار وكالة “فيتش” التصنيف الائتماني بعد حصول مصر على قرض من صندوق النقد الدولي غير مناسب.
وأضاف عثمان في حديثه للجزيرة نت أن هذا التصنيف يشير إلى ضعف الموقف الاقتصادي الخارجي، سواء في ما يخص مزيدا من الاقتراض أو ربما القدرة على سداد الالتزامات المستقبلية، وهبوط أسعار سندات مصر الدولارية في أسواق المال العالمية.
في غضون ذلك، أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر -نهاية الأسبوع الماضي- أن التضخم السنوي في المدن ارتفع أكثر من المتوقع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 16.2%، مسجلا أعلى مستوى في 4 سنوات، في حين كشف وزير المالية المصري عن أن بلاده تواجه فجوة في التمويل الخارجي بقيمة 16 مليار دولار.
لماذا غابت المؤشرات الإيجابية؟
تأخر ردود الفعل الإيجابية والسريعة بشأن القرارات الأخيرة دفع بعض المؤسسات المالية وخبراء الاقتصاد إلى التأكيد على أنها غير كافية لإخراج الاقتصاد المصري من محنته الحادة على عكس ما حدث في أعقاب التعويم في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حيث توالت التدفقات المالية الأجنبية المباشرة.
وهو ما أشارت إليه وكالة بلومبيرغ (Bloomberg) الأميركية في تقرير لها قبل أيام بأن موجة الأخبار السارة -في إشارة إلى قرارات المركزي المصري الأخيرة- التي أحدثت نشوة في السوق تلاشت بسرعة، إذ بدأت السندات المصرية في التراجع، وارتفعت تكلفة تأمين ديون البلاد ضد التخلف عن السداد.
وذهب التقرير إلى القول إن الوعود التي تعلنها الحكومة المصرية ليست كافية وحدها لحاملي السندات، ويطالب المستثمرون بدليل على أن الدولة تتخذ الخطوات الصارمة اللازمة لسد فجوات التمويل وتقليل الديون.
وفي ظل المؤشرات السلبية، يرى عثمان أن إجراءات المركزي الأخيرة بشأن سعر صرف العملة المحلية والاتفاق مع صندوق النقد الدولي على التمويل -وإن كان صغيرا نسبيا- ليست كافية لإعادة الأمور إلى نصابها.
وبحسب الخبير المصرفي، فإن الشيء المطلوب بشدة لتحقيق انفراجة حقيقية في العملة الأجنبية هو قصر الاستيراد على الضروريات فقط (دواء، احتياجات العلاج، المواد الغذائية لحين تمكننا من الاعتماد على أنفسنا)، والتوقف تماما عن استيراد السلع التي يمكن الاستغناء عنها.
وحتى تظهر مؤشرات إيجابية على أرض الواقع يأمل وزير المالية المصري محمد معيط أن تستطيع حكومة بلاده توفير أموال كافية لتغطية كامل احتياجاتها بفضل الاتفاق الذي توصلت إليه مؤخرا مع صندوق النقد بقيمة 3 مليارات دولار، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام تدفق التمويل من الخارج.
متى تنتعش السندات المصرية؟
ورهن تود شوبرت رئيس أبحاث الدخل الثابت في بنك سنغافورة انتعاش السندات المصرية “بتحسين المناخ العالمي للأصول الخطرة وخطة أكثر واقعية حول كيفية تعامل الدولة مع احتياجاتها التمويلية غير الكبيرة”، خاصة في ظل دورة التشديد النقدي في الولايات المتحدة بقيادة المجلس الاحتياطي الفدرالي التي تعمل على إضعاف الحماس للاستثمار في الأصول الخطرة، ولا سيما الأسواق الحدودية مثل مصر.
مشاركة صندوق النقد الدولي في برنامج اقتصادي لا تُصلح بحد ذاتها أيا من مشكلات التمويل الخارجي، بحسب التقرير، إذ إن نجاح البرنامج يعتمد إلى حد كبير على تنفيذ أجندة الخصخصة والاستثمار الأجنبي المباشر، والتي لا يزال المستثمرون متشككين فيها نظرا لإحباطاتهم السابقة.
بدوره، أرجع مدير المركز الدولي للدراسات التنموية مصطفى يوسف عدم تجاوب المستثمرين مع القرارات الأخيرة وتراجع السندات المصرية في الأسواق إلى عدة أسباب، على رأسها “عدم وضوح الرؤية لدى المستثمرين حول كيفية قيام الحكومة المصرية بتوفير التمويل اللازم لتمويل الاحتياجات المحلية”.
وأكد يوسف في حديثه للجزيرة نت أن تصنيف وكالة “فيتش” قد يتبعه تصنيف آخر من وكالات أخرى تعقد الأمور على صانعي السياسات المالية والاقتصادية في مصر، وتبطئ قدوم المستثمر الأجنبي إلى حين استقرار سعر صرف الجنيه وتنفيذ الحكومة وعودها بإصلاحات اقتصادية هيكلية، وتحسن مناخ الاستثمار دوليا بشكل عام.
قرض الصندوق وتحفيز المستثمرين
ويرى يوسف -وهو باحث أيضا في الاقتصاد السياسي- أن غياب النتائج الإيجابية لقرض الصندوق وقرارات المركزي لأنها جاءت في الوقت الضائع وفي ظروف قاتلة جعلت الكثير من المستثمرين يخرجون من سندات الدين المصرية ويحجمون عن الدخول بسبب ارتفاع المخاطر الناجمة عن هذا القرار في ظل وجود أسواق بديلة أكثر استقرار وجاذبية كالسندات الأميركية.
ودعا إلى وقف الإنفاق الضخم للحكومة، وعرض الأصول العقارية المتمثلة في المدن الجديدة كالعلمين والعاصمة الإدارية الجديدة للبيع، وطرح شركات الدولة للقطاع الخاص والمستثمرين المحليين، ورفع يد الجيش عن الاقتصاد.
وتحتاج مصر إلى 28 مليار دولار حتى نهاية عام 2023 لإعادة تمويل ديونها المستحقة ودفع الفوائد وتمويل عجز الحساب الجاري، وفقا لأبحاث “دويتشه بنك”، مع 20 مليار دولار إضافية مطلوبة في العام التالي والتي لا يتحملها الاحتياطي النقدي الحالي الذي يزيد قليلا على 33 مليار دولار، مما يعني استمرار اللجوء إلى أسواق الديون.
وتعد مصر -وفق وكالة موديز- واحدة من 5 دول مهددة بعدم القدرة على سداد ديونها الخارجية البالغة أكثر من 150 مليار دولار.