كيف استطاع الروائي المغربي محمد شكري أن يحول عالم طنجة إلى فضاء روائي مفتوح على الاحتمالات؟ وهل حياة الوجع ومقابر الحياة التي كان يسكنها انطفأت شعلتها برحيله؟
تعد الطفولة من المراحل المهمة والمؤثرة في حياة الإنسان؛ فالطفل صورة عن مجتمعه، إذ ينمو في بيئة حزينة مهمشة أو سعيدة فيتعرف إلى محيطه ويراقب تصرفات مَن حوله، ويبدأ بتكوين هويته كما يكتسب قدرات ومهارات حياتية وفي هذه المرحلة تتسع مخيلته، فتتكون لديه المعرفة ويبدأ نموه العاطفي والاجتماعي.
أما محمد شكري (1935 – 2003)، فقد كانت طفولته مختلفة إلى حد كبير عمن هم في مثل سنه، فقد عاش حياة قاسية في عائلة تتألف من الأب المتسلط والأم المغلوبة على أمرها والأخ الذي يتوفى من الضرب في مرحلة لاحقة كما يكتب شكري في سيرته.
ولكن بالرغم من ذلك، فقد تمكن محمد شكري من كسر الحدود وأن يقيم في المسافة الفاصلة بين الصمت والكلام. فهذا الصمت الذي اعتراه في طفولته جعل منه كاتبًا يتمتع بمخيلة إبداعية ويوثق الأحداث في رواية “الخبز الحافي” التي تعد سيرته الذاتية، مستفيدًا من تجربته ومن عوالم مدينة طنجة لتحويلها إلى فضاء روائي مفتوح، فكانت رواياته قاسية بقدر قسوة الحياة والطفولة التي عاشها ليتشكل عنده وعي مفارق يحكي فيه التشرد والفقر بكل تفاصيله بجرأة واعتراف شفاف، وقد ظل هذا الوجع أبيًا في نفسه حتى آخر يوم من أيام حياته.
الخبز الحافي
وفي رواية “الخبز الحافي” أو سيرة الطفولة وبداية رحلة الوجع والقلق والحزن والخوف والأحلام الممكنة والمستحيلة في آن واحد، واشتهاء الحياة بل اشتهاء عائلة بكل ما للكلمة من معنى، في هذه الرواية جسد شكري البيئة الاجتماعية وتجربة التشرد بالإضافة إلى الانحراف والنساء والخمر، لعلنا أمام رواية الطفولة المفقودة بفعل نزيف التشرد العائلي الذي منعه عنها والده، الذي كان من المفترض أن يكون الأمان لأولاده.
“أضربه وألعنه في خيالي. لولا الخيال لانفجرت”، هذا ما كتبه الشاعر عندما كان يتلقى قسوة والده أو معاملته السيئة مع أمه وأخيه، إذ يفقد الوجود معناه.
في مرحلة لاحقة عندما زار قبر أخيه، اكتشف أن المقبرة هي أفضل مكان للجلوس، إذ يصبح الناس أقل إزعاجًا لبعضهم بعضًا، كما يقول.
في موضع آخر، يكتب شكري عن أخيه:
” أخي صارَ ملاكًا وأنـا.. سأكون شيطانًا، هذا لا ريب فيه
الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين
لقد فاتني أن أكون ملاكًا”.
شكري وطنجة
عن علاقة محمد شكري بطنجة، قال محمد العناز -أستاذ الأدب الحديث بجامعة عبد المالك السعدي- للجزيرة نت “إن كل الفضاءات في طنجة تتحدث عن ارتباطها الوثيق بعوالم ومعالم محمد شكري الإنسان والكاتب والباحث عن مجد حقيقي في الخيال الأدبي، الذي استمده من فانتازيات الهوامش المنسية والمقصية في الدروب الضيقة والمقابر المخملية”.
وأضاف العناز “وبذلك، استطاع أن يقدم إلى القارئ العربي والعالمي سردية بديلة في مرحلة كان فيها المجتمع المغربي يتوق إلى التحرر والتنوير؛ فأن نحكي عن صمتنا الداخلي كما هو ماثل في أعمال شكري الروائية معناه أننا نفكر في جوهر الأدب الذي يجعلنا نستشعر مدى فداحة الإقامة في المضايق التي نجح شكري في تصويرها على نحو خاص في مجمل منجزه السردي”.
وأردف “إن (الخبز الحافي) لا يمكن عدها عملا سرديا يبحث عن بناء ممكنات جمالية، للقبض على هشاشة الواقع واضطراباته في حيوات مؤجلة عاشتها شخصيات محمد شكري التي آمن بها واستطاع أن يجد لها موقعا في الأدب العالمي. فلا غرابة اليوم أن يلتئم عدد من الكتاب والقراء حول المطعم الشهير (الخبز الحافي) للاحتفاء بأدب الذي كان يرتاده وأصبح فضاء يحكي عن سيرته وسيرة وجوهه التي خلدها في ذاكرة الأدب العالمي”.
وتابع الأكاديمي المغربي معتبرا أن محمد شكري عاشق المقبرة بوصفها فضاء للأمان، كأن الموت هو الوحيد الذي يمكن أن يصاحبه ما دامت الحياة نفسها واقعًا للمرارة واليأس.
أنا إنسان عاش التشرد… أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تنتظرون مني؟ أن أكتب عن الفراشات؟
وأضاف أن صاحب “مجنون الورد” استطاع بسرديته أن يدخلنا إلى المناطق المأهولة بالصمت عبر لغة شرسة نجح في أن يشيد عبرها عمارة ببناء جمالي مختلف في الرواية، راصدا بطريقة لماحة سيرة ذات تشرح تاريخها الموجوع والموعود عن طريق اقتحام المسكوت عنه وتحويله إلى نقاش لا يزال ممتدا في الفضاءات الثقافية العمومية، “وأن يعمق فهمنا لهشاشة الكائن ويظهر جانبًا مهمًا من قوة طنجة في تعايشها وقبولها لكل مظاهر الاختلاف سواء كان مرتبطًا بالهويات أو الأديان أو الثقافات، ولعل صورة من النصوص التي كتبها محمد شكري انطلقت من المحل مما عاشه كاتب عرف كل أشكال التشرد وصدق ووصفها في سياقات عديدة بقوله: أنا إنسان عاش التشرد… أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تنتظرون مني؟ أن أكتب عن الفراشات؟”
الوعي بجدوى الكتابة
ويرى العناز أن “هذا الوعي الحاد بجدوى الكتابة عن الأشياء التي تؤلمنا والتي نعيشها مهما كانت مستويات قسوتها ليس دليلا على أن شكري كان يكتب انطلاقًا من موقف لا علاقة له بالسياسة ولا بالرغبة في إنصاف هذه الفئات، بينما كان في أمس الحاجة إلى أن يتحدث مع نفسه بصوت الكتابة التي استطاعت أن تمنحه وضعًا اعتباريًا يشبه تمامًا تلك اللحظة التي انطبعت في ذاكرته بتطوان وهو يرى الشاعر المغربي محمد الصباغ وهو يتجول في الأحياء ويحظى بكل الاحترام والتقدير بين الناس لما سأل الناس من هذا الشخص؟ قالوا له إنه كاتب”.
وفي كتاب “محمد شكري وطنجة الكاتب ومدينته” لرشيد النفرسيتي والفنان المصور رشيد الوطاسي، ذكر النفرسيتي في المقدمة أن شكري في حواراته كان يردد “طنجة لحد الآن ليس لها كاتبها”، داعمًا عبارته بالبرهان على أن غابرييل غارسيا ماركيز يمثل جائزة نوبل كولومبيا، وفيديريكو غارسيا لوركا غرناطة إسبانيا، وأكد النفرسيتي على أن طنجة تشبه غرناطة من حيث الانفتاح. ورأى أن حب شكري لطنجة يسكر حتى الثمالة، بل حتى الموت، فهو” غواية الشحرور الأبيض”.
وأشار النفرسيتي إلى أن طنجة شكري سماوات تتشابك فيها الأبعاد ويتداخل فيها الزمان والمكان الأضواء والظلال.
في الكتاب نفسه وفي الفصل المعنون بــ”تكريمًا لمحمد شكري”، استذكر رحيل الشاعر في نوفمبر/تشرين الثاني 2003، فقد أراد المصور الفنان الوطاسي تكريم شكري الذي لا يزال حيًا في كل مكان يحييه ويحبه ويتقاسم معه حب مدينته مع أصدقائه. وقد أوضح الوطاسي أن طنجة تمثل طفولة شكري ومواجهته للحياة بما فيها من هفوات وشهوات.
وتابع رشيد الوطاسي أن شكري كتب جملة ستظل منقوشة في ذاكرته “لم تكن مرآة في الدار، لأن لا أحد منا كان يريد أن يرى وجهه فيها”. وفي السياق نفسه قال إن شكري يستحق التكريم لأنه ترك بصماته في الأدب المغربي الحديث الذي أثر فيه شخصيًا.
وأفاد الروائي والناقد المغربي محمد برادة بما انتبه إليه من أن شكري أبعد ما يكون عن الصورة التي يرسمها له المعجبون. وتابع أنه كان رزينًا في حواره، عقلانيًا في حججه، جريئًا في طروحاته ونقده لما يقرأ، لم يكن مشدودًا إلى أسطورة ماضيه، بل كان منفتح العينين على حاضره. وهو أقرب ما يكون إلى الواقع المعقد المتسارع في تحولاته. (من كتاب “الكاتب ومدينته”، فصل ورد ورماد).
لعبة الزمن
نعم، لقد كان شكري مدركًا لعبة الزمن جريئًا في مواقفه، صبورًا حكيمًا في تصرفاته، وقد ترك بصمات شجاعة وعاش شغف الكتابة حتى الثمالة. تلك التي كانت عنده فعل مقاومة لتفاهات الحياة التي تفرض بالرغم عن الإنسان.
“لقد علمتني الحياة أن أنتظر. أن أَعِيَ لعبة الزمن من دون أن أتنازل عن عمق ما اسْتَحْصَدْتُه: قُل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف، حتمًا، طريقها. لا يَهُمُ ما ستؤول إليه. الأهم هو أن تُشعل عاطفة أو حزنًا أو نَزْوَة غافية… أن تُشعل لهيبًا في المناطق اليباب المَوَات”. (محمد شكري)
هكذا رحل محمد شكري، تاركًا هذا العالم لكنه حي في طنجة بعوالمها السحرية. عاد من المقابر التي كانت تشكل له الأمان وعدم الخوف في طفولته، ومن الشوارع التي سلكها فالمقهى الذي كان يتردد إليه، إلى مقبرة صغيرة مهملة يرقد فيها بتواضعه ومشاكسته للحياة بتعقيداتها وبساطتها.