بين أغنية “طفي النور يا بهية” و”للي”، وهي أحدث أغاني المطرب المصري محمد منير، لا يستطيع الجمهور جمع تفاصيل صورة المطرب الذي طالما كان الممثل الدائم لأحلام أكثر من جيل في برلمان الطرب المصري.
وبعد أن انطلق بكلمات تحمل منظومة قيمية مهمومة بالعزة والكرامة والعدل والحرية والثورة، دار به الزمن ليقدّم كلمات تحمل معاني الذل والاستسلام لحبيب يتفنن في تعذيبه:
دَوقّته من طعم الغَزَل .. دوقّني من ذلّه.. وبحبه أنا مهما حصل.. طب مين بقى يقولّه
لم يكن مشوار منير ينبئ بمشهده الحالي، فقد انحاز بأغانيه دائما إلى صفوف الشعب البسيط، ولم يختصر الحب في فتاة ولكنه اختصره في وطن، بيد أن التحولات الاجتماعية والسياسية وآثار الزمن على الوجوه كانت كفيلة بإسدال الستار على منير، الذي أصبح جزءا من المكون النفسي لجمهور طالما نشأ على أغانيه، لكنه صدم بعد أن تجاوز (منير) زمن القدرة على تحمل الصدمات.
مطرب المثقفين
كان الشاب النوبي القادم من الجنوب في مغامرة صفرية يبدو مختلفا عن مطربي جيله رغم تميز بعضهم، إذ قدّم علي الحجار ذلك الشجن الملقب بـ”ليل الشتا” وأصالة الطرب وقوة الصوت، وكان محمد الحلو خفيفا على القلب ممتعا.
لم تكن اختيارات “الكينغ” -كما أٌطلق على محمد منير فيما بعد- في الكلمات والموسيقى تسير في ذلك الطريق الذي اختاره مطربو الحب والمراهقين، لكنه كسب ذلك الجمهور حين ارتقى به كما ينبغي لمطرب صاحب رؤية أن يفعل.
وقبل أن تنهي شبكة الإنترنت آخر أشكال الاستماع الجماعي المعتادة سيرا على درب حفلات أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر، والتي استمرت حتى رحيلها وبعدها مع العديد من المطربين، كان ألبوم محمد منير يجمع الجمهور مع صدوره، حيث يتم تشغيل الألبوم على جهاز كاسيت ونظام صوت في بداية الشارع ويقف الجمهور للاستماع أو يسير بطيئا حتى تنتهي الأغنية.
توقف المثقفون كثيرا أمام مطرب شاب أسمر يختار موسيقاه وكلماته بعناية، ويلجأ إلى الرموز من الشعراء من أمثال صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور وغيرهم، كان الولد الأسمر على قدر من الثقافة يؤهله لإدراك مشاعر جمهوره في المرحلة الأصعب في تاريخ مصر الاجتماعي، حيث يتم تجريف العقل وإحلال قيم استهلاكية ودفع الأجيال الجديدة نحو الأبسط والأقل أهمية، لكن منير اختار الطريق الأصدق والأصعب، وسانده المثقفون الذين بقي لديهم بعض التأثير في الإعلام.
كان منير يصدق كل كلمة وكل نغمة يختارها، وكان الجمهور يصدقه تماما، حتى صار “الكينغ” أو الملك على هذه القلوب وعلى مجال الطرب المصري، وقف لينافس مطربي التيار السائد، فها هو ينافس عمرو دياب ومحمد فؤاد، ويسبق كل أبناء جيله مؤكدا على مكانته ومكانة من يمثله.
يغني عمرو دياب لمحبوبته، ويعاتبها هشام عباس، ويعبر إيهاب توفيق عن شوقه لها، في حين يخرج منير على الناس بألبوم “قلبي مساكن شعبية”:
المهنة بناضل بتعلم تلميذ في مدرسة شعبية..
المدرسة فاتحة على الشارع والشارع فاتح في قلبي
وأنا قلبي مساكن شعبية
الإسكندرية
لم يكن عشاق الإسكندرية يدركون أن بهجة نهاية الثمانينيات هي نهاية كل شيء. كان الشاطئ ينقسم بعد انتصاف ليل المدينة إلى بحر من الماء الداكن تتوسطه جزر من الفضة والذهب تعكس أضواء المدينة، وبحر من البشر على الجانب الآخر من شارع الكورنيش.
تنتقل عدوى البهجة خلاله بين من يجلسون على المقاهي المواجهة للبحر، ومن يمشون على الطريقة المصرية الشهيرة، حيث يجر الواحد منهم قدميه وهم يتأملون البشر والمقاهي العامرة من منطقة المنشية حتى حي المنتزه.
المشهد السكندري المبهج لم يكن ليكتمل لولا الصوت القادم من مملكة كوش أو النوبة، والذي تميز بحلاوة خاصة، فضلا عن اختيار كلمات وموسيقى جعلته متميزا عن جيله كله.
يردد منير كل ليلة على الشاطئ من دون اتفاق بين المحلات والمقاهي:
يا إسكندرية بحرك عجايب.. يا ريت ينوبني من الحب نايب
ويعود ليدلل بنات المدارس بكلمات صلاح جاهين التي كتبها لابنته:
يا بنت يا أم المريلة كحلي.. يا شمس هالة وطالة م الكولة
لو قلت عنك في الغزل قولة.. ممنوع علي ولا مسموح لي
طعن الخناجر
وترد بنات الإسكندرية بدلال ويكبرن على وقع صوته، ثم يطل عليهن كبطل لمسرحية “الملك هو الملك” للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس، التي عرضت في الإسكندرية صيف عام 1989 من إخراج منير مراد.
كان محمد منير في مسرحية “الملك هو الملك” يشكل ما بقي من صورة بطل الأحلام للشعب كله، وكان يمثل تلك الضرورة الحياتية المتخيلة لبطل جار عليه الزمان ودفع به إلى حال يحكمه فيها نذل، لكن البطل يرفض المذلة:
يا أما مويل الهوا يا أما مويليه..
طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا..
هكذا أدرك منير تلك المرارة التي رسخت في النفس الإنسانية بمصر حين تنبه البعض منهم إلى أن الإسكندرية بشكلها الحالي لن تصمد أمام تقلبات الزمن.. فتتوقفت العروض المسرحية الصيفية التي جعلت المدينة قبلة سنوية للنجوم منذ مطلع مارس/آذار وحتي نهاية سبتمبر/أيلول.
كانت صورة وقيمة منير قد اكتملت حين قدم “العمارة”، حيث فلسطين قضية العرب المركزية وقضية كل من له ضمير في العالم:
جينا نمسيكم بالخير يالعمارة العمارة.. جينا نصبحكم بالخير يالعمارة العمارة
وإحنا نغني في كل مكان أغاني الشعب وثواره.. وأصغر طفله في فلسطين شايله بالكف حجاره
ثورة يناير
كان من الطبيعي والمتوقع أن ينضم محمد منير إلى محبي الثورة، وبالفعل قدم أغنية “إزاي” التي تحولت إلى واحدة من أيقونات الثورة:
وحياتك لأفضل أغير فيكي لحد ما ترضى عليه
ثمة مفارقة محزنة تتعلق بهذه الأغنية سوف تظهر بعد الثورة، إذ يقول منير في تصريح تلفزيوني: لم تكن مكتوبة للثورة ولكني كنت أريد من خلالها بعث رسالة عتاب للوطن وكان هدفي لفت أنظار الشعب المصري للسلبيات التي نُعاني منها.
هذا التصريح أكده كون الأغنية “أيقونة الثورة” كانت جاهزة للطرح في يوليو/تموز 2010 أي قبل انطلاق موجات الغضب الثوري بنحو 4 أشهر.
وهذه الحقيقة التي أكدها منير نفسه تبرر المفاجأة الأكثر غرابة بعد ذلك، إذ أطلق “الكينغ” أغنية “أبطال رجالة” في يناير/كانون الثاني 2021 احتفالا بعيد الشرطة المصرية، وجاءت الأغنية إهداء من حزب “مستقبل وطن” إلى الشرطة المصرية:
أول ما بحس في لحظة بخوف بلاقيك دايما قدامي.. بتضحي عشان أهلك وأخواتك ميهمكش أسامي
تحول
ينتمي محمد منير إلى شريحة مجتمعية قلقة، تعد جزءا من الطبقة الوسطى لكنها شديدة الحساسية وبقدر ما لديها من وعي اجتماعي وسياسي، لكن محترفي فنون الأداء المختلفة من ممثلين ومطربين يقفون فوق صراط رفيع قد يسقطون منه في أي لحظة، لأن النوافذ الإعلامية التي يطلون منها على جمهورهم تحت يدي السلطة السياسية، وبالتالي فإن صناعة النجم وتدميره أيضا بيد هذه السلطة.
ويبدو أن منير الذي ظل لسنوات طويلة محتفظا بصورته بوصفه واحدا من أبناء الشعب البسيط وحاملا لهمه، قد أدرك معادلة المرحلة الجديدة، وقرر أن يستفيد منها.
منير الذي لم يشاهده جمهوره يوما يرتدي ربطة عنق، داهمه قطار العمر بعد أن قارب السبعين ولم تعد لديه قدرة على المقاومة، لذا قرر الانتقال من قلبه الذي كان مساكن شعبية ليسكن إلى جوار “الأبطال الرجالة”.