كان يوم 6 يونيو/حزيران 1983 يوما صيفيا شديد الحرارة، لكن في آخر نهاره كان الطقس يسمح بجلسة ساعة عصاري، استغلها الممثل الكبير محمود المليجي لأخذ استراحة سريعة بين تصوير مشاهده الأخيرة في فيلم “أيوب” بطولة عمر الشريف.
أعدّ قهوته كما اعتادها وجلس مع صديقه عمر الشريف ومنتج الفيلم ممدوح الليثي ومخرجه هاني لاشين، يحدثهم عن انطباعاته عن الحياة والدنيا وغرابتها، قبل أن يمسك قلبه ويفارق الحياة جراء سكتة قلبية، توفي أثناء عمله، في مشهد يليق بحبه وشغفه بالعمل الذي أحبه طوال حياته.
إحباطات متتالية
لم يكن “فن التشخيص” هو أول الفنون التي حاول معها محمود المليجي، فبسبب نشأته في بيت يقدر فن الموسيقى والإنشاد والغناء أحب الفتى الموسيقى، وشجعه والده، تاجر الخيول في حي المغربلين بالقاهرة، الذي كان محبًّا للفن والغناء على هواية الموسيقى.
حاول المراهق محمود الانضمام إلى فريق الغناء بمدرسته، حيث التقى الفنان محمد عبد الوهاب الذي كان مدرسا للموسيقى حينذاك، ليواجهه عبد الوهاب بحقيقة صادمة أنه لا يصلح للغناء، بصوته الجاف الخشن ونشازه الواضح.
بعد تلك المواجهة الصادمة، اتجه المليجي إلى الموسيقى وبالفعل تعلم العزف على آلة الكمان، لكن في أول اختباراته أمام بديعة مصابني، توتّر وتعامل مع الأوتار بخشونة فمزقها، ليبتعد عن الفن لصالح الرياضة.
بدأ ممارسة الملاكمة التي برع فيها وحقق بطولات مدرسية محدودة نقلته إلى مصاف المتفوقين، والتي كانت منفذا جديدا للعودة للفنون ولكن من خلال المسرح المدرسي بالمدرسة الخديوية التي التحق بها، وهناك التقى الفنان المسرحي الكبير عزيز عيد، إذ كان منتدبا لتدريب فريق المسرح بالمدرسة.
أضاف عزيز عيد إحباطا جديدا إلى المليجي حين أخبره أنه “لا يصلح للتمثيل وأن عليه البحث عن هواية أخرى”، فأخذها المليجي في نفسه ليجري باكيا قبل أن يلحق به زميل آخر ليخبره أن عزيز عيد تعمد إحباطه لكسر غروره لا أكثر، وإنما في الحقيقة هو يراه ممثلا قويا لتبدأ مسيرة طويلة من الفن كان بطلها محمود المليجي.
شرير السينما المصرية
في أحد عروض فرقة الخديوية المسرحية كان عرض مسرحية “الذهب” التي أدى فيها المليجي دور “ميكلوبين” وتصادف حضور الفنانة فاطمة رشدي وسط الجمهور، وبعد انتهاء العرض أرسلت تهنئ المليجي على أدائه الجيد، ودعته لزيارتها في مسرحها حيث عرضت عليه العـمل في فرقتها بمرتب قدره 4 جنيهات شهريا.
انضم لها المليجي وقدم معها عددا من المسرحيات التراجيدية والكوميدية منها، مسرحية “667 زيتون”، ومسرحية “مجنون ليلى”، كما كان أول ظهور سينمائي له أمام فاطمة رشدي في فيلم (الزواج ـ 1933) من إنتاجها وإخراجها، لكن الفيلم مني بالفشل.
وبعده، حُلَّت فرقة فاطمة رشدي، ليعمل المليجي كملقن في فرقة يوسف وهبي المسرحية، قبل أن يصعد إلى خشبة المسرح ليبدأ في تقديم أدوار صغيرة، حتى اختاره المخرج “إبراهيم لاما” لأداء دور “ورد” غريم “قيس” في فيلم سينمائي عام 1939، ليكون بدايته مع أدوار الشر، والتي استمرت في السينما قرابة 30 عاما.
الشر الاضطراري
في حوار صحفي أجراه المليجي عام 1977، قسّم مسيرته السينمائية إلى مراحل، الأولى هي مرحلة الشر الاضطراري مع يوسف وهبي، والثانية مرحلة الصراع الطبقي مع أنور وجدي، والثالثة مرحلة التهريج والإجرام مع فريد شوقي، فقد شكلا معا ثنائيا فنيا ناجحا، كانت حصيلته 400 فيلم.
كانت هذه الأفلام نمطية في ثنائية البطل ونقيضه، الطيب والشرير، وبالطبع الشرير هنا هو المليجي مثلما كان الشرير النمطي مع يوسف وهبي، أو الشرير المتعجرف مع أنور وجدي، لكن نقطة التحول في حياة المليجي للخروج عن النمط الموضوع له كان مع المخرج يوسف شاهين الذي رأى في المليجي ما لم يره غيره، فقد اختاره لتجسيد دور “محمد أبو سويلم” في فيلم “الأرض” عام 1970، ليكون درة تاج مسيرة المليجي التمثيلية.
أنتوني كوين العرب
حين أدى محمود المليجي نفس الدور الذي أداه الممثل العالمي أنتوني كوين في فيلم “القادسية”، سارع النقاد والصحفيون إلى تسميته بـ”أنتوني كوين” العرب، لكن الفنان رشدي أباظة كان له رأي آخر، إذ اعتبر المليجي أجدر من كوين، موضحا أن كوين يميل إلى العنف في الحركة والكلمة واللفظ، بينما المليجي يؤدي المطلوب بكل هدوء ودون انفعال زائد ودون حدة، وعن المليجي قال أباظة إنه رغم صداقتهما فإنه يفرح ويشعر بالفخر في كل مرة يصافح فيها المليجي، فرحة تعادل فرحة الفوز بمليون جنيه.
عينان فصيحتان
يمتلك محمود المليجي عينين تنطقان بصدق نادر، هما عينان فصيحتان قادرتان على الحديث دون لسان، وعلى نقل مختلف الانفعالات والتنقل بينها بسلاسة.
كما لديه قدرة بارزة على ترجمة الفكرة إلى انفعال في لحظات، ففي عام 1970 خدمته عيونه بشدة. في هذا العام قدم المليجي دورين هما الأفضل في تاريخه الحافل، الأول في فيلم “غروب وشروق” والثاني في “الأرض”، يقول يوسف شاهين عن هذا الدور تحديدا أحد أدواره العالمية، وتحديداً مشهد وجداني قوي “حين تثقل دمعة في عينيْ محمد أبو سويلم بعد شعوره بالهوان واضطراره لقبول سُلفة من المال”.
يتابع شاهين أن المليجي أعاد المشهد 7 مرات بنفس القدرة وبالتفاصيل ذاتها، في هذا الدور تمكن المليجي من التنقل بين عدة انفعالات مختلفة في ثوان معدودة، من الغضب للهوان للحزن للسخرية، ربما كانت عملية صعبة على بعض الممثلين لكنها كانت حيلة سهلة بالنسبة للمليجي الذي كان يتمكن بسهولة من خطف الكاميرا وجذب الانتباه، وكان الاختيار الأقرب إلى قلب يوسف شاهين الذي عمل معه في عدة أفلام وهي: الاختيار، العصفور، عودة الابن الضال، إسكندرية ليه، حدوته مصرية.
وفي كل فيلم ستجد هذه القدرة والمهارة حاضرتين بقوة. ليس مع يوسف شاهين فقط وإنما مع كمال الشيخ أيضا، ففي المشهد الأخير لفيلم “غروب وشروق” تنقل المليجي في نحو 20 ثانية من السطوة والسلطة والاستكبار إلى المفاجأة والدهشة ثم السخرية ثم الانكسار الجليل، حين يلقى القبض عليه بعدما كان قبل ثانيتين يتوعد زوج ابنته بالتعذيب وانتزاع الاعترافات فيضطر إلى وداع ابنته وبيته بعد القبض عليه، وفي عينيه لمحة من الانكسار المهيب.
ويُروى عن المخرج كمال الشيخ أنه قرر حذف مشهد النهاية من “غروب وشروق” 1970 خشية أن يواجه فيلمه تعنتا رقابيا، بسبب ما قد يثيره المشهد من تعاطف مع شخصية عزمي باشا قائد البوليس السياسي وزمنه، زمن الملكية.
عطر يفوح حتى آخر نفس
أكثر ما خاف منه المليجي هو الشيخوخة، وما يتبعها من تعطل وعوز، في مقال كتبه بنفسه، كان يتحدث فيه عن الفن، شبّه الفنان بالزهرة التي تحتفظ بتقديرها طالما احتفظت برائحتها وحين تذبل تدهسها الأقدام.
ينقل الصحفي بلال فضل ما كتبه المليجي في المقال قائلا “خاطر غريب هاجمني اليوم بلا مناسبة، ماذا سيكون مصيرك عندما تذبل فالفنان في رأيي كالوردة طول ما رائحتها فيها الناس شايلاها في صدرها (تقدرها حق قدرها) وعندما تذبل تُداس بالأقدام.. ماذا سيكون مصيري ماذا سيقدم لنا المجتمع الذي أرقنا حيويتنا على خشبة مسارحه، هل سيؤمن حيواتنا ضد الشيخوخة، هل سنرى قريبا صندوق معاشات يقدم لنا معاشات تحفظ لنا آدميتنا من الهوان؟ هل سنرى قريبا بيتا يسمى بيت الفن يفتح أبوابه للفنانين العجزة الذين قدموا بعض الشيء لبلادهم؟ أين الضمانات؟ أنا لا أصدق أن وقتا سيجيء لتدعو جمعية أيا كانت لإقامة حفلة لمساعدتي أنا محمود المليجي الفنان العاجز”.
يبدو أن هذا الخوف ظل مع المليجي حتى وفاته، إذ ظل ينشر عطره خوفا من الذبول وظل يعمل ويشارك في المسلسلات والسهرات التلفزيونية وحتى الأفلام حتى توفي داخل استديو تصوير فيلم “أيوب” قبل 39 عاما.