“مذاقات الجنة” في العصور الوسطى.. كيف شكلت القهوة والتوابل والمسكرات عالم الغرب؟
كانت الرحلات العظيمة التي أثمرت اكتشاف العالم الجديد في الأميركتين وأستراليا، وبداية العصر الحديث في الغرب، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالشره الأوروبي للبهارات والقهوة والشاي.
وقد غيّرت هذه العناصر (المكيفات الجديدة) من ذائقة البشرية المنكوبة بالمشروبات الكحولية إلى الحس السليم والعقلاني والعملي المرتبط بصعود طبقة صناعية وسطى استهلكتها بكثافة، لتتحول المقاهي إلى أماكن للتجارة وتداول الأخبار وأحاديث الحياة اليومية، حدث ذلك في العالم الغربي في عصر النهضة، بينما -على النقيض- شجع المستعمرون دخول الأفيون إلى الصين لجعلها سهلة الانقياد.
في “مذاقات الجنة: تاريخ اجتماعي للتوابل والمنشطات والمسكرات”، يتعمق المؤرخ والمؤلف الألماني وولفغانغ شيفلبوش (مواليد 1941) في التاريخ المدهش لكيفية تأثير المشروبات والمواد الغذائية المختلفة، من التوابل إلى الكافيين وحتى الأفيون والمسكرات الكحولية، على المجتمع والثقافة والاقتصاد في أوروبا والعالم الغربي على مر القرون. ومن خلال مزيج من البحث التاريخي والتحليل الثقافي، يقدم من خلاله منظورا فريدا حول كيفية تشكيل هذه المواد للعالم الحديث.
يبدأ الكتاب بمناقشة دور التوابل في أوروبا في العصور الوسطى، حيث كانت تعتبر منتجا فاخرا وعلامة على الثروة الطائلة والمكانة الرفيعة. ويشرح المؤلف كيف حركت الرغبة في جلب المزيد من التوابل بزوغ عصر الاستكشاف والبحث عن طريق بحري مباشر إلى الهند. كما يتعمق في الآثار الطبقية المترتبة على سحر التوابل وكيف تم استخدامها كوسيلة للتمييز بين النخب وعامة الناس.
مع تقدم الكتاب، يناقش المؤلف -الذي يعيش في نيويورك منذ 1973- دور المنشطات والمسكرات الأخرى، بما في ذلك القهوة والشوكولاتة والتبغ والمخدرات مثل الأفيون والهيروين والخمور، ويستكشف التأثير الثقافي والمجتمعي لكل مادة، وكيف يتم استيعابها واستهلاكها من قبل الفئات والمجموعات المختلفة. وعلى سبيل المثال، ناقش كيف أصبحت القهوة بديلا شائعا للكحول بين الطبقة العاملة البروتستانتية، حيث كان يُنظر إليها -آنذاك- على أنها وسيلة لزيادة الإنتاجية والحد من الرغبة الجنسية.
القهوة والشوكلاتة بدل الكحوليات
في أوروبا العصور الوسطى وعصر النهضة لم تكن المشروبات الكحولية تشرب للسكر فقط وإنما أيضا لتوفير السعرات الحرارية التي يحتاجها العمال والجنود، ولكن حدث تحول حفز الطبقات الوسطى الصاعدة (البرجوازية) لتبني القهوة والشاي باعتبارهما “مشروبهم” المعتاد.
ويجادل المؤلف بأن شرب القهوة أثّر على التفكير العقلاني والأخلاق والروحانيات “لذلك، لم تصبح القهوة مشروبا طبقيا فحسب، بل ارتبطت أيضا بوجهة نظر دينية وجمالية”، وفق المؤلف الحائز على جائزة هاينريش مان من أكاديمية الفنون في برلين 2003.
ويكاد المؤلف -صاحب كتاب “رحلة السكك الحديد”- يعتبر أن القهوة كان لها التأثير الأكثر إيجابية على أوروبا وتاريخ العالم؛ إذ ربط استهلاك القهوة بزيادة مستوى الطاقة الجسدية للشخص والبراعة العقلية، وهو ما كان مهما زمن الثورة الصناعية لزيادة الكفاءة والإنتاج والاستهلاك، خاصة مع انتشار فضائل وأخلاقيات العمل البروتستانتية التي تحث على النشاط والكفاءة، ما جعل القهوة مشروبا غير كحولي شائعا في البلدان المهيمنة البروتستانتية مثل إنجلترا وألمانيا.
وطورت القهوة أيضا مجالات الأدب والصحافة والخطابة والفكر الحر، وكانت المقاهي سلف الصحف الحديثة، وشكلت ما بات يعرف بالمجال العام، حيث نشأت المُثل الغربية مثل حرية التعبير والفكر الحر.
يناقش الكتاب أيضا دور المقاهي، خاصة في إنجلترا، وكيف أصبحت مكانا -على عكس الحانات والنزل- للحوار الرصين والجاد، وهو ما جعل رجال الأعمال (وليس الأرستقراطيين منهم بالضرورة) يجتمعون بالمقاهي ليناقشوا الأخبار اليومية والسياسة والقيل والقال، كما كانت المقاهي ترتبط بعلاقات قوية مع أحزاب سياسية معينة ما عزز النظر إليها كبؤر انقلابات سياسية محتملة.
ولعبت القهوة والشوكولاتة، والأساطير والخرافات المرتبطة بهما، أدوارا مختلفة في تشكيل الهويات الثقافية والدينية للمجتمعات المختلفة، حيث نظر للقهوة -في أوروبا- كمشروب بروتستانتي بينما انتشرت الشوكولاتة في المجتمعات الكاثوليكية التي شربتها كسائل لا يكسر فترات الصيام الدينية المسيحية.
وتم استيراد الشوكولاتة من العالم الجديد (الأميركتين) إلى البلدان ذات الأغلبية الكاثوليكية مثل إيطاليا وإسبانيا، واستهلكها رجال الدين خلال الأعياد الدينية، لكنها سرعان ما أصبحت رمزا لمكانة الطبقة الأرستقراطية، كمشروب فاخر وغني بالسعرات.
كانت الشوكولاتة نقيض القهوة؛ فهي تريح الجسم وتمده بالسكر ويُعتقد أنها مثيرة للشهوة الجنسية، لكن مكانتها تراجعت في أوروبا بالقرن الـ19 مع ارتفاع شعبيتها بين الطبقة الوسطى ثم ارتباطها أكثر بالنساء والأطفال ومجتمعات الطبقة الوسطى البعيدة عن السلطة.
وارتبطت الشوكولاتة لاحقا بالكسل والانحلال، وهو ما جعل النساء يتجنبن استهلاكها في الأماكن العامة، ومع مرور الوقت احتل الشاي مكانة مميزة وأصبح أكثر أنثوية رغم ارتباطه بالجرأة والإثارة؛ إذ عززت الإعلانات التجارية تلك الصورة لكسب العملاء والزبائن.
التوابل واستغناء الغرب عن العرب
استخدمت التوابل في العصور الوسطى في المستحضرات الطبية كدليل على الرقي والمرتبة الرفيعة في التسلسل الهرمي الاجتماعي؛ فـ”كلما ارتفعت مكانة الأسرة، زاد استخدامها للتوابل”، وكانت التوابل تُمنح كهدايا بين أفراد النبلاء وتستخدم أحيانا بديلا عن المدفوعات النقدية.
زادت الرحلة الطويلة من الهند إلى أوروبا من أسعار التوابل وقيمتها، لتصبح التوابل بمثابة هدايا تذكارية من عالم سحري وأسطوري خاصة في أزمنة كان يسافر فيها قليل جدا من الأوروبيين خارج موطنهم الأصلي، واستخدم النبلاء والنخبة الأوروبية التوابل أيضا كوسيلة لتمييز أنفسهم عن رعاياهم.
وتوسعت الطبقة الوسطى في أوروبا جنبا إلى جنب مع الطلب على التوابل حيث حاولت الطبقة الوسطى الآخذة في التوسع محاكاة معاصريها الأكثر ثراءً؛ ما دفع الطلب المرتفع على التوابل وشجع التجار على جلب المزيد، وأسهم ذلك في تطور تكنولوجيا الإبحار ورحلات المستكشفين الأوروبيين (ومموليهم الأثرياء) للبحث عن طريق بحري مباشر إلى الهند.
ومن خلال الاستغناء عن التجار والوسطاء العرب الذين اشتهروا بتجارة التوابل بين الشرق والغرب، كان الأوروبيون يأملون في خفض أسعار البهارات مع مواكبة الطلب المتنامي في القارة العجوز.
“شرب التبغ”
جلبت التجارة الأوروبية المتنامية على ضفتي الأطلسي، التبغ وطريقة استهلاكه (التدخين)، وتمت الإشارة إلى استخدام التبغ في البداية بتعبير “شرب الدخان” أو “شرب التبغ” حيث لم يكن للثقافات الأوروبية أي نقطة مرجعية أو اسم لهذه العادة الترفيهية الجديدة والمحيرة.
كانت النظرة الطبية للتبغ شبيهة بتلك الرائجة عن الكحول باعتبارهما يسببان تبلد الحواس، وكان يمكن أن يكون تعاطي التبغ لأول مرة تجربة غير سارة، ولكن مع ازدياد شعبية التدخين (غليون، سيجار، سيجارة، إلخ)، انخفض الوقت الفعلي الذي يقضيه المدخن في التدخين والطقوس المصاحبة له.
ويفترض المؤلف أن أنماط وكمية التدخين في المجتمع تكشفان عن معايير المجتمع (الهدوء والتركيز أو العصبية والتوتر)، خاصة أن التدخين ارتبط بمستويات القلق في المجتمعات وواكبت الإعلانات ذلك بشعار “دخن الآن وكن هادئا”، وبالطبع فإن الأضرار الصحية لم تكن حاضرة في تلك الإعلانات.
وكان الأفيون مسكنا شائعا للألم في القرن الـ19، وكان يستخدم لمجموعة متنوعة من الحالات الطبية الخفيفة أو التي يمكن علاجها بسهولة، وإضافة لذلك كان الأفيون هو العقار المفضل للشعراء والفنانين والكتاب لأنه جعل أعمالهم وكتاباتهم بجودة تشبه الحلم.
لكن الوعي بالآثار الكارثية للإدمان خاصة بعد حروب الأفيون جرّد بريق تلك المخدرات من قدر كبير من جاذبيتها بين المجتمعات الأوروبية.
الخمور والكحوليات
كانت العادة الأخرى التي شكلت جانبا من الحياة الاجتماعية الأوروبية في عصر النهضة، هي الاستهلاك المفرط للمشروبات الكحولية المقطرة (الخمور القوية) والتي ارتبطت أكثر بأعضاء الطبقة العاملة الدنيا وكانت عامل ترابط بينهم ورمزا للهوية الطبقية لهم.
وكانت الطبقات العاملة تستهلك الكحول في الأماكن العامة بضجيج عال كنوع من الهروب من الواقع بينما تشرب الطبقة الوسطى بطريقة أكثر اعتدالا وفي أماكن خاصة.
وإذ أدت حركة التصنيع إلى زيادة الجهد البدني والعقلي المتوقع من العمال بدون زيادة مناسبة في الأجور أو الراحة، وهاجر العديد من العمال الحضريين من الريف بحثا عن فرصة اقتصادية، لكنهم وجدوا أنفسهم يعيشون في ظروف معيشية مزرية وبدون دعم مالي وعاطفي من شبكة عائلاتهم الممتدة.
ومثل التوابل، تم استخدام الخمور بالأصل في المستحضرات الطبية ولكنها كانت تستخدم أيضا في الجيش كجزء من حصص الجنود قبل أن تجد طريقها إلى الحياة المدنية خلال الثورة الصناعية.
اقتصاديات المزاج
أحد الجوانب الأكثر روعة في الكتاب هو الطريقة التي يربط بها المؤلف تاريخ هذه المواد باتجاهات تاريخية أكبر، مثل صعود الرأسمالية والثورة الصناعية، ويوضح المؤلف كيف لعبت القهوة والتبغ، على سبيل المثال، دورا حاسما في تطوير أخلاقيات العمل الحديثة، وكيف تم استخدامها لزيادة الإنتاجية والكفاءة. كما يستكشف كيف شكلت هذه المواد وجهات نظرنا الحديثة حول الصحة والأخلاق، وأيضا كيف تم استخدامها للسيطرة على الأفراد والسكان والتلاعب بهم.
وبالمثل فإن أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام في الكتاب هو تحليل الميزات الاقتصادية الكامنة وراء تجارة واستهلاك هذه المواد، إذ يشرح المؤلف كيف أدت الرغبة في الربح إلى نمو تجارة الأفيون في الصين، والعواقب الاجتماعية والحرب المدمرة التي تلت ذلك. كما أنه يفحص الطرق التي أدت بالاقتصادات الرأسمالية لتسليع هذه المواد واستهلاكها على نطاق تجاري واسع.
وتتمثل إحدى نقاط القوة في الكتاب في استخدامه للوسائل البصرية. ويشتمل الكتاب – وفي جميع أنحائه- على ثروة من الرسوم التوضيحية التاريخية، والقصص المصورة، والإعلانات التاريخية وقطع الأرشيف الفنية، التي تكمل روايته وتوفر منظورا فريدا للموضوع.
وفي حين أن الكتاب محفز للتفكير ويمتلك منظورا أصليا تجاه القضايا التي يناقشها، إلا أن له عيوبه كذلك، ففي بعض الأحيان، يمكن أن يكون فيه تكرار، حيث غالبا ما يغطي خلفية متشابهة أو مكررة في فصول مختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، قد يجد بعض القراء مستوى التفاصيل غامرا لدرجة يصعب ملاحقتها، وقد يفضل بعض القراء سرد أكثر إيجازا وانسيابية. وقد جاءت بعض الانتقادات الموجهة للكتاب ممن رأوا في السرد التاريخي تركيزا على مركزية أوروبا وتجنب المقارنة بين أجزاء العالم المختلفة لا سيما أن القهوة، مثلا، عرفت في العالم العربي وشرق أفريقيا قبل أوروبا، بينما اشتهرت المقاهي بإسطنبول ومدن بلاد الشام والأناضول قبل وصولها للقارة العجوز.