يصادف كل شخص تحولات كبرى في حياته، يصنع بعضها بنفسه، ويتم دفعه إلى بعضها الآخر رغما عنه نتيجة البيئة المحيطة، ويكون النجاح في الخروج من تلك التحولات التي تشبه عمليات جراحية دقيقة مرهونا غالبا بوجود داعمين من الأهل والأصدقاء، لكن حين يكون الصديق عدوا متنكرا، تصبح النجاة مجرد حلم، وتتحول الصداقة نفسها إلى صراع صفري لا هدف منه سوى الخراب.
ويظهر ذلك العدو المتنكر في صورة الصديق الأقرب في مسلسل “المشكال” (Kaleidoscope)، الذي يُعرض حاليا على شاشة “نتفليكس” (Netflix)، وقد أبدع صناعه حيلة تسويقية ناجحة إلى حد كبير وهي إمكانية مشاهدته بدءا من أي حلقة من حلقاته الثماني من دون أن تتأثر قدرة المشاهد على فهم العمل.
لكن القضية الأبرز التي شكلت ملامح الصراع الدرامي هي تلك الصداقة التي ربطت بين لصين، قرر أحدهما التوبة والتوقف عن السرقة بعد أن أنجب طفلة وأراد لها أن تكون فخورة بوالدها حين تكبر، لكن الثاني أبى إلا أن يدفع به إلى السجن ليقضي 17 عاما ويخرج لينتقم.
كان الصديق الخائن روجر سالاس (الممثل روفوس سيويل) أصبح واحدا من رجال الأعمال الأثرياء، الذين يأتمنهم الكبار على مبالغ ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات، وهنا جاءت خطة الانتقام، حين قرر الصديق المغدور به ليو باب (الممثل جيانكارلو اسبوزيتو) تنفيذ أكبر سرقة في التاريخ وظل يخطط لها منذ أودع في السجن، وجمع فريقا لتنفيذ المهمة التي بدت شبه مستحيلة، نظرا لتأمين الأموال في الخزائن بشكل محكم.
الدراما الخاصة بالعمل مستوحاة من قصة حقيقية لفقدان 7 مليارات دولار من السندات، وسط مدينة مانهاتن خلال إعصار ساندي عام 2012.
شرير ونصف
تعبّر الدراما الأميركية دائما عن الأزمات المزمنة لمجتمعها الذي يحمل تاريخا من الإدانة العنصرية يثقل كاهله على مستوى الإبداع الدرامي، ويظهر واضحا في المسلسل الذي يدور حول صديقين أحدهما أسود ويتعرض للإدانة في جريمة كان صديقه الأبيض شريكا فيها، وعلى النهج نفسه تتخذ الخطوط الدرامية مساراتها مع إدراك دقيق للفارق بين كون الشخص أميركيا من أصول أوروبية أو لاتينية أو أفريقية، وكيف ينعكس ذلك الفارق على أوضاعه الحياتية إجمالا والاقتصادية بشكل خاص.
يمكن للمخرج أن يحذف -في أثناء عملية المونتاج- مشهدا يصور ما يفعله الجوع بطفل لم يتجاوز السادسة من عمره، حتى لو كان الفيلم الذي يصنعه يناقش قضية الظلم الاجتماعي والاقتصادي وأثره على الأطفال، كما يمكن لمخرج آخر أن يقدم مشهدا لامرأة نائمة، وقد انحسر عنها ثوبها، ويمعن بالكاميرا في رصد التفاصيل، بينما يدور الفيلم حول قضية مبالغة الآباء في حماية أبنائهم، وتعتبر الكاميرا هنا في حالة تلصص غير مقبولة فنيا.
يأتي استحداث طريقة السرد غير الخطي من قبل صناع العمل، ليشكل مغامرة حقيقية تستدعي سابقتها التي قدمتها نتفليكس أيضا من خلال مسلسل “مرآة سوداء” (Black Mirror) 2019، لكنها لم تستمر سوى 3 حلقات فقط، وهو أمر متوقع، نظرا لاختلافه جذريا مع ثقافة استقبال القصص التي يستعد خلالها المتلقي لإشباع فضوله من خلال حكايات لم يكن له أن يختار مساراتها.
تتميز تجربة “المشكال” بمهارة ملحوظة في جوانبها الأخرى، أحدها تلك السلاسة في المونتاج رغم التتابع الدائري للأحداث، ومارس مدير التصوير لعبة توزيع الإضاءة بالتبادل في المشاهد بشكل مبهر عبّر عن الجوانب المظلمة لأبطاله بإضاءة خفيفة في أغلب مشاهد مقابلاتهم.
يكمن الفارق بين مخرج وآخر في الرسالة التي يريد لها أن تصل إلى المشاهد، وقد يحدث في أحيان كثيرة أن يتخذ المخرج مسارا مغايرا لما خطه السيناريو، لنجد قيما متعارضة داخل العمل الواحد، الأولى يتم بثها عبر الحوار والقصة والثانية يتم بثها بصريا في العمل نفسه.
في “المشكال”، لم يهتم صناع العمل بوجود أشخاص أبرياء، فجاء المشاركون في العمل إما لصوصا فقط، أو لصوصا وقتلة، وصنع تعاطفا عبر التركيز على الجانب الطيب في البطل (فلكل شخص جانب طيب حتى المجرم)، مما دفع بالمشاهد إلى اعتباره الطرف الأولى بالتعاطف، وفي المقابل أظهر الجانب السيئ في صديقه الخائن ليصبح شريرا خالصا في نظر المشاهد، رغم أن كلا الشخصين لصان، وهو أمر شديد الخطورة يجعل من الشاشة مصيدة لوجدان المشاهد الذي يجد نفسه عبر مشاهدة أعمال من هذا النوع وقد تحول إلى قبول الأفعال الشريرة التي يقوم بها هؤلاء أو على الأقل قبول النموذج الشرير ضمن دائرته.
مقدمة لابد منها
تم تقسيم العمل إلى حلقات، حملت كل حلقة منها اسم لون، وجاءت المقدمة تحت عنوان ” الأسود” تمتد لأقل من دقيقة، ويشرح خلالها صناع العمل ما يعنيه “المشكال” (Kaleidoscope)، ومن ثم يشرح فكرة التتابع المرن التي انفرد بها العمل، ويطرح أسئلة تشويقية حول العمل جعلت من الحلقة القصيرة جدا إعلانا تشويقيا.
تميز فريق العمل الذي يستعد لسرقة 7 مليارات دولار بوجود علاقات تاريخية تربط بين كل منهم وبين ليو باب، لكن ذلك لم يمنع انتشار الشك بين الجميع، ونشوء الصراعات التي أدت إلى قتل بعضهم بعضا، وهو تأكيد على الفكرة القيّمة التي تشير إلى أن اجتماع أي مجموعة مهما كانت قوة العلاقات بين أفرادها على الشر سوف يؤدي إلى مزيد منه.
يحمل العمل ظلالا سينمائية مفرطة قادمة من فيلم “الخلاص من شاوشانك” (The Shawshank Redemption) 1994، وتتجلى في العلاقة بين السجينين ليو باب وستان داخل السجن، ومن “أوشن 11” الذي قدم أبطاله نموذجا للصوص أذكياء ومثقفين ويتمتعون بمهارات يمكن أن تحقق لهم أموالا هائلة من العمل بشكل قانوني، خاصة مع خبراتهم التكنولوجية.
تبقى المعاني الإنسانية والقيم التي حاول صناع العمل تأسيس مبرراتهم عليها لبناء سيناريو محكم لافتة للنظر، إذ لا يدور الأمر حول مبلغ هائل (7 مليارات دولار)، لكنه يتعلق بالانتقام من صديق خائن، يسلم المال في النهاية للطفلة هانا (الممثلة تاتي غابرييل) التي انتزع منها والدها لأكثر من 24 عاما، لكن الصدمة الكبرى هي أن تلك الفتاة التي كانت طفلة بريئة ذات يوم، أدركت أنها ابنة لص، وبالتالي شاركت في تنفيذ خطة السرقة الكبرى/الانتقام، واستولت على المبلغ بكامله.
ما المشكال؟
المشكال عبارة عن أداة بصرية ذات سطحين عاكسين يميلان نحو بعضهما البعض بزاوية ، بحيث يتم عرض جزء أو أكثر مما يُراد عرضه على أحد طرفي السطحين بطريقة منتظمة، مما يشكل نمطًا متماثلًا عندما ينظر إليها من الطرف الآخر، بسبب الانعكاس المتكرر.
وتوضع هذه العاكسات في أنبوب يحتوي على خلية في أحد طرفيه بقطع زجاجية ملونة فضفاضة أو مادة شفافة أخرى تعكس النمط المرئي.
ويؤدي دوران الخلية إلى تحريك الشاشة، مما يؤدي إلى عرض دائم التغير، ويستخدم لإنشاء أنماط جميلة من الأشكال وفي أنظمة الإضاءة.
ويعيد استخدام نموذج دائري وليس خطيا للسرد كما في المسلسل طرح السؤال القديم حول علاقة الشكل بالمضمون، فقد تبنى بعض النقاد الطرف الأقصى من الفكرة مؤكدين أن الشكل هو المضمون، وقد عبّر الفيلسوف الألماني هيغل عن الفكرة بقوله “الجمال هو التجلي المحسوس للفكرة”.
ويبدو من الصعب الفصل بين تلك الأجزاء المبتورة من القيم المجتمعية مثل الصداقة، والأبوة، وبين انعكاسها على سطح الواقع -كما في المشكال- في صورة دعم غير محدود من الأب والابنة لبعضها بعضا من دون اهتمام بالسؤال عن مدى صحة ما فعله كل منهما، أو تلك الصداقة التي أدت في النهاية إلى وجود شخصين أحدهما انتهى إلى السجن، أما الثاني فقد بدأ حياته فيه.