مسلسل فتيات ديري.. أحداث ساخرة وإدانة جادة لسياسات الإنجليز
في عام 1990، كان هناك عدد كبير من الدول في مختلف مناطق العالم الأول، وتحديدا -لو جازت التسمية- تحت وطأة الاضطراب السياسي والاقتصادي العالمي، تلك الدول التي تركها العمالقة لتلحق بركاب العالم وحدها، أو ربما كانت مستفيدة مما في قلبها من ركود؛ تماما مثلما يستفيد الإنجليز من أبناء أيرلندا الذين يعرفهم التاريخ الإنجليزي بالطيبة والسذاجة أحيانا.
وربما وجد المسلسل الهولندي ذائع الصيت “فتيات ديري” (Derry girls) -وهو من مسلسلات “السيت كوم”- ذاته في قلب القصص التي سردها من خلال هذا الاضطراب السياسي الذي تشكل خلاله بعض التغيرات في أيرلندا الشمالية ومن خلال سعي أهلها أنفسهم من دون غيرهم.
ومنذ موسمه الأول حتى الموسم الثالث والأخير الذي عرض قبل أيام قليلة؛ نحن أمام 4 فتيات: إيرين وأورلا وكلير وميشيل، وشاب وحيد ولد في إنجلترا، لكنه اضطر إلى التعلم في أيرلندا الشمالية نتيجة انفصال والدته وهو جيمس الذي يقع منسحق تحت وطأة نسائية مسيطرة على الأمور بالرغم من ذكورته.
والجميع من دون استثناء يسعون بكل الطرق للحصول على شهادة تعليمية تؤهلهم للخروج من مقاطعتهم الصغيرة “ديري” ووضعهم المادي الضعيف إلى التعلم والدراسة في الخارج والتجربة التي يتصور الجميع أنه في حاجة ماسة إليها للهروب من مصير الآباء غير المرضي.
ويخدم المسلسل عددا من القضايا التي وُضع حجر أساسها منذ بداية التسعينيات، والتي كان على رأسها في سياق أيرلندا الشمالية وربما العالم (الحركة النسوية في شكلها الأكثر حداثة وتطور من خلال المراهقات الحالمات بعالم أكثر سيطرة لهن).
وثمة تساؤل تاريخي يظهر على مدار الحلقات؛ هل كان هناك خلال التسعينيات أمل زائف تجاه الحركة النسوية؟ في ظاهر الأمر كانت التسعينيات هي الفترة التي ظهرت فيها المرأة على الساحة وأظهرت استقلاليتها بشكل أكثر مما سبقه بالطبع.
عقدان من الخداع
انتشر تأخر الزواج، وارتفعت مشاركة المرأة في العمل، وتم بشكل كبير تضييق الفجوة بين الجنسين في التعليم والتوظيف، وتزايد على مستوى العالم عدد القيادات النسائية في مجالات السياسة، والأعمال، والترفيه وأصبحن نجمات صاعدات.
إلا أن هذه الإحصائيات، والتي اعتبرت أن 1992 هو “عام المرأة“، غيّرت ببساطة صورة “معاداة المرأة”، وفقا لما كتبته أليسون يارو بصحيفة التايمز، التي قالت إن حركة “#أنا أيضا” التي ظهرت بعد عقدين من الزمن تعد مؤشرا على مدى الخداع الذي شهدته فترة التسعينيات فيما يتعلق بالكتابات عن المرأة والتي تشير إلى أن المجتمع أصبح يساوي بين الجنسين.
كما قالت يارو إن ردة فعل أكبر ضد الحركة النسوية ظهرت خلال فترة التسعينيات في الولايات المتحدة. وتابع “كلما زاد عدد النساء اللاتي يحصلن على السلطة، كلما تم الاستيلاء على المزيد من السلطة منهن من خلال ثقافة شعبية ضارة احتفت بالعداء التام تجاه النساء واستغلالهن جنسيا”.
وأضافت أن ظهور النشرات الإخبارية على مدار اليوم، والتي تتخللها مساحات إعلانية تجارية، جعلت الأمور أكثر سوءا، حيث تم بث فضائح تتركز حول النساء بشكل مستمر، وركزت الإعلانات ووسائل الترفيه بشكل كبير على مظهر المرأة، ولكن ربما تكون أكثر أشكال ردود الفعل الثقافي خداعا هي استخدام الحركة النسوية ضد النساء، فأصبح تمكين المرأة مرادفا لجعلها ذكورية، وللإفراط في الاحتشام، وإحداث المشاكل.
هذا التفصيل التاريخي ربما يشكل -ولو بشكل غير مباشر- الحركة الأكثر محورية في المسلسل ذائع الصيت الذي حقق نسب مشاهدات مليونية في عدد من دول العالم الذين جلسوا أمام مسلسل كوميدي خفيف يسرد مأساة الركود والفراغ والسعي النسائي للتجربة والقيادة اعتمادا على أنفسهن فقط.
مراهقات يكتشفت العالم حولهن بكل جرأة وإقبال وربما الكثير من السذاجة التي تمثل دولتهم أكثر من كونها تمثلهن تحديدا، 4 فتيات مراهقات يسعين بكل ما أوتين من قوة للدخول في علاقات عاطفية مع شباب ولفت أنظار عائلتهن لمواهبهن غير الظاهرة والسعي بكل قوة لتجاوز تلك المرحلة الفاصلة بين طفولتهن وأنوثتهن المستمرة.
وإن الخط السردي الأكثر قوة على مدار المواسم الثلاثة للمسلسل يظهر تماما في السيناريو المذهل الذي يمثل -على قدر عبثيته وسخريته من كل شيء- لفتة واضحة للتعريف بعمق كل شخصية على حدة لدرجة تجعل المتفرج مع الوقت متوقع لتصرفات الأشخاص على اختلاف سذاجتها وخفة ظلها غير المنتهية.
وتتوافق لغة الأبطال وإنجليزيتهم السريعة جدا مقارنة بالإنجليز أنفسهم مع تقاطعات مونتاجية حادة جدا تنتقل سريعا بين الجميع، وتلهث وراء تصرفاتهم العبثية التي تهدف إلى الجد بينما تظهرها الصورة هزلية تماما.
مرارة السخرية
السخرية اللاذعة التي خرج بها “الست كوم” ربما يمكن مط سرديتها من مكان تصويرها في أيرلندا الشمالية إلى مناطق أخرى كثيرة في العالم لا يملك أهله ناصية قرارهم، الأمر الذي يترك على السياسات العامة حالة من التخبط والتشتت الذي يصيب أهله بالصفات ذاتها بوعيهم أو بدون وعيهم.
مسلسل “فتيات ديري” ربما يمثل إدانة جادة من شدة سخريته من السياسات التي لحقت بأيرلندا الشمالية على مدار 30 عاما أدت إلى الكبت بجميع مستوياته ومواجهته بالرغم من كل شيء بسذاجة تحيط كافة الشخصيات التي تسعى لتجربة كل شيء أمامها بدون نتيجة إيجابية.