مطبخ الخير.. موروث رمضاني لم يتغير عند بدو سيناء
تتجهز دواوين (مجالس) القبائل والعائلات البدوية في شمال سيناء لاستقبال شهر رمضان الكريم، وتظهر روح التآلف والتآزر جلية في تجهيز أخشاب الأشجار (الحطب) وتخزينها لإشعالها لتجهيز موائد الإفطار الرمضاني.
الشاب الثلاثيني فيصل الحمايدة يقول للجزيرة نت إن هناك الكثير من الذكريات الجميلة عن شهر الصيام لم تتغير لعادات وتقاليد ورثناها من الأجيال السابقة، تبدأ قبيل رمضان بأيام قليلة بشراء متطلباته ولوازمه من مواد غذائية ومكسرات، وهذا يسمى “خزين رمضان” الذي لا بُد من أن يكون جاهزا قبل حلول الشهر الكريم، فضلا عن المتطلبات اليومية لكامل الشهر الكريم.
ويضيف: يبدأ أهالي القرية وجميع بدو سيناء في تجهيز موائد إفطار للصائمين في “المقعد” (المجلس) يتجمع حولها أهل القرية من الرجال والشباب، ويشارك فيها الأطفال، كما تكون وجهة كل عابر سبيل ممن اضطرتهم الظروف للسفر والتنقل وقت آذان المغرب.
ما لذ وطاب
في حديثه للجزيرة نت، قال سليمان عياض، أحد أهالي مدينة بئر العبد غرب العريش، إنه قبل أذان المغرب يمكن رؤية معظم الناس يحملون أواني بها من خيرات الله الكثير كالتمور والعصائر، وأحيانًا حليب النوق، يتوجهون بها إلى المقعد المعروف أحيانًا بـ”الديوان” أو “المجلس”. ويُعدّ هذا المكان محطة اجتماع لكل عائلة أو عشيرة أو قبيلة، حيث يجتمعون في أفراحهم وأتراحهم، أو لعقد جلسات عُرفية “بديلة للمحاكم النظامية” لحل المشاكل والخلافات بينهم بطريقة سلمية.
أثناء أذان المغرب والتعجيل بالإفطار، يتم تناول تمر أو كوب من العصير أو رشفات من حليب النوق، ثم يذهب الجميع إلى المسجد لأداء صلاة المغرب. وفي حال وجود شخص غريب في المسجد، يُعزز ويكرّم بدعوته لتناول الإفطار مع الآخرين في “المقعد”.
يتبادل الجميع أطباق المأكولات لتكون تجربة الإفطار مليئة بالتنوع والتبادل. وبما أن أهل البادية لديهم أطباق خاصة مثل “المنسف” و”السريد” و”الكبسة”، فإنك ستجد طبقك قد تغير ليوضع طبق آخر على “آنيتك”، مما يزيد من فُرادة تلك التجربة الاجتماعية المميزة.
تآلف وتكافل
يؤكد جمعة نصير، أحد أهالي الشيخ زويد، أنه خلال شهر رمضان يتم في سيناء أولا تناول حليب النوق أو حليب الماعز والعجوة والتمر في بداية الإفطار، وبعد صلاة المغرب أو في بعض الأحيان بعد العشاء، تأتي الوجبات الرئيسية التي تحتوي أساسا على اللحوم. وتعدّ هذه العادات مميزة لأهالي الصحراء في سيناء، وتنعكس بشكل خاص في حياة البدو والقبائل العربية الذين يقيمون في تلك المناطق.
ويقول نصير، في حديثه للجزيرة نت، يسود تآلف وتكافل قوي في حلقات “المقعد”، حيث لا يسرع أهل البادية في إزالة أواني الطعام بعد الإفطار خوفا من وجود ضيف قد يحتاج إلى الأكل. وتستمر الليالي الرمضانية في سيناء بشرب القهوة والشاي المحضريْن بالهيل والبهارات. وتعتبر القهوة العربية رمزية لأهل البادية، إذ يتميزون عن غيرهم بنكهتها ورائحتها.
وعن العادات والتقاليد والتراث الذي توارثته الأجيال عن الآباء والأجداد، يقول نصير إنه “من المهم الالتزام بهذه القيم التي تميزنا، ومن العيب أن تجد الرجل يتناول إفطاره في منزله بمفرده حتى لو كان لديه ضيوف، بل يجب عليه أن يأخذهم معه لتناول الطعام في “مجلس العائلة” كرمز للضيافة والترحيب الذي نتغنى به في تقاليدنا. تلك اللحظات التي نقضيها سويا تعزز روابطنا الاجتماعية، وتعكس قيم العائلة والتلاحم في مجتمعنا”.
مشاركة الأطفال
لا تقتصر التجهيزات الرمضانية في سيناء على الشباب فقط، بل يشارك فيها الأطفال أيضا، ويبرز دورهم في تجهيز وغسل “الصبابات” و”البكارج” والفناجين، وفقما يقول الشاب العشريني صالح عطية. فضلا عن وقوفهم على الطرق لتوزيع وجبات إفطار خفيفة على السيارات المارة، ويتنافسون في استضافة “عابري السبيل” للفوز بأجر إفطار صائم.
وبعد الانتهاء من الإفطار وصلاة التراويح، يجلس الأطفال في حلقات آبائهم وأجدادهم يتعلمون من أحاديثهم، ويتولون مهمة توزيع وصب القهوة والشاي على الحضور، و”سيعمل الأطفال خلال شهر رمضان هذا العام على مساعدتنا في تغليف وجبات طعام لمرافقي المصابين من إخواننا الفلسطينيين الذين وصلوا للعلاج في مستشفيات سيناء” حسب قول عطية.
مطبخ الخير
على الجانب الآخر، قال محمود أربيع، وهو متطوع من بدو سيناء، إنه وشباب القبائل دشنوا بجهود ذاتية وتبرعات الأهالي “مطبخا خيريا” منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مهمته تجهيز من 700 إلى 1500 وجبة يوميا توزع للقائمين على تجهيز المساعدات الإنسانية وناقليها من سائقين وغيرهم.
وأضاف أربيع أن نشاط المطبخ الخيري توسع ليشمل المرافقين للمصابين من أشقائنا الفلسطينيين في مستشفيات المحافظة، وسيمتد نشاطه حتى شهر رمضان الكريم ولحين عودتهم إلى بلادهم بخير، “بالإضافة لهدفنا الأساسي وهو تقديم وجبات إفطار جاهزة على الأسر المتعففة من بدو سيناء كعادتنا كل عام”.
طاقة نور
يستقبل “مطبخ الخير” بكل امتنان الراغبين في العمل الخيري الذين يترددون يوميًا عليه، وتبرز جهود الأهالي جميعا في دعم المطبخ والقائمين عليه بالمال والمساعدة من الكبير والصغير لاعتبارهم إياه “طاقة نور” للمتعففين وعابري السبيل، هكذا قال أحمد مصبح، أحد المتطوعين في المطبخ الخيري. ويضيف أن توفير مساحة العمل والأدوات الضرورية في المطبخ من أهم هذه الجهود الكبيرة.
ويشير سليمان العمدة إلى أن أهالي سيناء لا يقبلون أن يضعوا الطعام في أفواههم في وقت يوجد فيه أشخاص على الطرق لم يفطروا، إذ نعتبرهم ضيوفنا يجب إكرامهم وتقديم ما يلزم لهم. ويبدأ توزيع المواد قبل نصف ساعة من أذان المغرب، ويستمر إلى ما بعد نصف ساعة أيضا من صلاة المغرب لضمان تناول جميع من على الطريق إفطارهم وكسر صيامهم.