مقال في فورين أفيرز: أميركا تستحوذ عليها أوهام زائفة للهيمنة على العالم
نشرت مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) مقالا ينتقد ما وصفه باستغراق الولايات المتحدة في “أوهام زائفة” للهيمنة على العالم.
وذكر كاتب المقال أندرو جيه باسيفيتش -وهو أستاذ فخري للعلاقات الدولية والتاريخ بجامعة بوسطن- أن انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) على دول المحور، ألمانيا النازية وإيطاليا واليابان، كان شاهدا على بروز قوة الديمقراطية الأميركية، وفاتحة لعهد جديد تسود فيه الولايات المتحدة.
غير أن بعض حلفاء الحرب العظمى تلك باتوا اليوم ألد أعداء الولايات المتحدة، ودخل الجميع في سباق لبناء أسلحة نووية أكثر فتكا من تلك التي أسقطتها أميركا على اليابان، وانخرط الجيش الأميركي مرة أخرى في قتال جديد؛ هذه المرة في شبه الجزيرة الكورية.
وعقب ذلك الانتصار، تمت تنحية أي رغبة في تحقيق السلام جانبا، وبدا هذا الأمر مؤكدا عندما اتضح أن السيادة الأميركية على العالم لن تخلو من منافس، وفق باسيفيتش الذي استند في طرحه على شواهد من الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في التاريخ الحديث.
وقال إن الحرب العالمية الثانية ظلت بالنسبة لمعظم الأميركيين مصدرا مرجعيا لذاكرتهم المعاصرة، وكانت الحرب الباردة بمثابة تكملة لتلك الذاكرة.
مزاعم التفوق العسكري
وتطرق الكاتب إلى الانتصارات التي حققتها أميركا في صراعاتها مع ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية والاتحاد السوفياتي. وكانت النتيجة أن أصبحت قيادة الولايات المتحدة للعالم المدعومة بقوة عسكرية، “ضرورة حتمية”.
ويرى باسيفيتش -الذي يرأس أيضا مجلس إدارة “معهد كوينسي للحكم المسؤول” (Quincy Institute for Responsible Statecraft)، أن الانتصار الذي تحقق عام 1945 “بشق الأنفس” لم يكن إقرارا ولا إرهاصا بتلك السيادة على العالم، التي ثبت فيما بعد أنها أوهام. ففي ستينيات القرن الماضي، بدا أن الحرب المكلفة والمثيرة للانقسام في فيتنام قد قضت على تلك الأوهام، لكن انهيار الشيوعية في نهاية الثمانينيات أحياها مؤقتا.
ولقد فضحت مرة أخرى المغامرات -التي أقدمت عليها واشنطن في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والمتمثلة في “حربها العالمية على الإرهاب”- مزاعم التفوق العسكري للولايات المتحدة، وثبت أنها خادعة، على حد تعبير مقال فورين أفيرز.
ومضى باسيفيتش إلى القول إن مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية تشبثت باعتقادها “الخاطئ” بأن ما يحتاجه العالم هو المزيد من القوة العسكرية الأميركية.
وأضاف أن النتائج “المخيبة للآمال” للحروب المطولة التي خاضتها أميركا في أفغانستان والعراق كان من المفترض أن تكون بمثابة دعوة للاستيقاظ مماثلة لتلك التي مرت بها بريطانيا إبان حرب السويس عام 1956. وقد أجبرت تلك الحرب البريطانيين على الاعتراف بأن مشروعهم الإمبراطوري قد وصل إلى طريق مسدود.
على أن الإخفاق في العراق لم يمنع واشنطن من مضاعفة مجهودها الحربي في أفغانستان، الذي وصفه كاتب المقال بأنه “عمل متسرع بلغ ذروته بانسحاب فوضوي ومهين في عام 2021”.
وكان من الممكن -برأي باسيفيتش- أن يكون ذلك المشهد نهاية العصر الذي رسمت ملامحه الحربان العالمية الثانية والباردة، وما استصحبتهما من تطلعات. ولكن ما لبث أن مرت تلك اللحظة بدون اعتبار، ويعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فقد أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا مجددا تقليدا اتسمت به حقبة ما بعد الحرب وهو عودة أميركا إلى استعراض عضلاتها.
ويرى الكاتب أن الولايات المتحدة تبدو مستعدة لارتكاب نفس الأخطاء التي وقعت فيها بالعراق، مبررة ذلك بالتزامها بقيادة العالم.
أوكرانيا الفرصة الأخيرة
ويعتقد باسيفيتش أن الحرب في أوكرانيا ربما تتيح فرصة أخيرة لواشنطن لاستقاء درس على غرار ما تعلمته بريطانيا من حرب السويس، “ودون أن تتعرض للهزيمة”، مضيفا أن السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا ظلت واقعية منضبطة، إلا أن الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه ظلوا يتحدثون باستمرار عن الحرب بطرق توحي برؤية للقوة الأميركية “عفا عليها الزمن وتعبر عن موقف أخلاقي ضيق بشكل متهور”.
وتناول الكاتب في مقاله بشيء من التفصيل المذكرة التي أصدرها مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس هاري ترومان في أبريل/نيسان 1950، والتي عُرفت باسم “إن إس سي 68” (NSC-68).
ويصف باسيفيتش تلك المذكرة بأنها “الأكثر موثوقية” عن النظرة العالمية لما بعد الحرب، وهي الوثيقة التي صاغها فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية بقيادة بول نيتز في ذلك الوقت.
وأقرت تلك الوثيقة بـ”التنوع الرائع، والتسامح العميق، وشرعية المجتمع الحر”، وأرست معايير السياسة الأميركية طوال الحرب الباردة. وتضمنت حجة مجلس الأمن القومي الأميركي للهيمنة، وأكدت أنه “في عالم آخذ في الانكماش”، لم يعد غياب النظام بين الدول محتملا.
وفرضت هذه الحقيقة على الولايات المتحدة “مسؤولية قيادة العالم” إلى جانب التزامها “بإقرار النظام والعدالة بوسائل تتفق مع مبادئ الحرية والديمقراطية”.
وبرأي باسيفيتش، فإن التشديد على ضرورة التفوق العسكري الأميركي، أو الميل إلى استخدام القوة، أصبحا “قناعة لا يتطرق إليها الشك”.
ويخلص إلى القول إنه إذا كان هدف الهيمنة الأميركية هو إقامة نظام عالمي وعدالة من خلال الاستخدام الحكيم للقوة الصارمة، فإن النتائج جاءت متباينة في أحسن الأحوال.
وتابع قائلا إن الإستراتيجية الكبرى التي وضعها بايدن في منتصف ولايته، غارقة في مجموعة متشابكة من التناقضات غير المعترف بها، لعل أبرزها إصرار واشنطن على ضرورة المحافظة على تكريس نموذج القيادة العالمية العسكرية حتى مع تضاؤل أهميته، وتراجع فرص الحفاظ على المكانة المتميزة للبلاد في النظام الدولي.
ورغم ذلك -يضيف الكاتب- تصر مؤسسة السياسة الخارجية على أنه لا يوجد بديل عن القيادة الأميركية العسكرية، مشيرة قبل كل شيء إلى الغزو الروسي لأوكرانيا لإثبات حجتها.