من السجال السياسي إلى إطلاق الرصاص.. هل دُمرت العملية السياسية في السودان؟
الخرطوم – يوم عصيب عاشته العاصمة السودانية الخرطوم اليوم السبت بعد تحوّل السجال السياسي إلى طلقات رصاص متبادلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، فزع على أثرها سكان العاصمة على قتال ضار بين القوتين العسكريتين الأكبر في البلاد وسط مخاوف من توسّع المواجهة بينهما.
الطرفان وجّها اتهامات متبادلة بالمسؤولية عن بدء المعركة وسط معلومات متضاربة بشأن مسار الاشتباكات العسكرية، الأمر الذي ينذر بجمود العملية السياسية المتعثرة في البلاد.
وكشفت مصادر أمنية للجزيرة نت أن الجيش والدعم السريع رفعا درجة الاستعداد وسط قواتهما منذ أكثر من شهرين، وحشدا أسلحتهما، وجلبا قوات وتعزيزات عسكرية من الولايات إلى الخرطوم، ترافق ذلك مع الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش وتلاسن قيادات الجانبين.
وذكرت المصادر أن انعدام الثقة بين رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وراء فشل مبادرات الوساطة لاحتواء الخلافات بينهما، لكن الطرفين التزما بعدم المبادرة بإطلاق النار تجاه الآخر.
وحسب المصادر ذاتها، فإن حالة التعبئة وسط قوات الجيش والدعم السريع خلقت مناخا متوترا، وجعلت وقوع المواجهة العسكرية بينهما رهينا بإطلاق الرصاصة الأولى، في حين اعتبر اندلاع القتال في الخرطوم نتيجة للتقاطعات في المواقف بشأن العملية السياسية ومحاولات خلق تحالفات وتغيير موازين القوة.
تضارب بين البرهان وحميدتي
وحمّل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قوات الدعم السريع المسؤولية بالمبادرة في الهجوم عندما تحرشت بقوة من الجيش قرب المدينة الرياضية جنوبي الخرطوم في التاسعة صباحا، قبل أن تهاجم مقر إقامته بداخل مقر القيادة العامة للجيش بوسط العاصمة.
وقال البرهان -في تصريح للجزيرة- “إنهم لا يزالون يحكّمون صوت العقل، ويدعون قوات الدعم السريع لسحب قواتها من الخرطوم إلى الولايات التي أتت منها”، مضيفا أن قوات من الدعم السريع تسللت إلى مطار الخرطوم عبر صالة الحج والعمرة، وأحرقت طائرات رابضة في المطار.
وأكد البرهان أن الأوضاع تحت السيطرة “ولديهم احتياطات جيدة وقواعد في خارج الخرطوم يمكن استدعاؤها في حال استمرار القتال”.
وفي المقابل، قال قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) -في تصريحات للجزيرة مباشر- إن الجيش بدأ الحرب بمحاصرة قواته في منطقة سوبا جنوبي الخرطوم ومهاجمتها بقوات كبيرة.
وحمًل حميدتي قائد الجيش البرهان المسؤولية، ووصفه بأنه “مراوغ وكذاب”، وقال إن “قواته سيطرت على مقر قيادة الجيش والقصر الجمهوري وبيت الضيافة الذي يوجد به منزل البرهان، وسيطرت على مطارات الخرطوم ومروي والأبيض في ولاية شمال كردفان، ودمرت سلاح الطيران وحيّدته تماما وأسروا نحو 100 ضابط وأكثر من ألف جندي”.
وأضاف حميدتي أن المعركة لن تتوقف حتى يسيطر على كل مقار الجيش وقواعده، متعهدا بملاحقة البرهان وتقديمه للعدالة، ومتهما إياه بتدمير السودان.
مسار المعركة
وقال مسؤول في غرفة عمليات الجيش للجزيرة نت إن قوات الجيش استطاعت تدمير قواعد قوات الدعم في منطقة سوبا وطيبة في جنوب الخرطوم بالطيران العسكري، والسيطرة على مقر قرب منطقة الجيلي في شمال العاصمة وآخر في الصالحة بأم درمان، وتدمير مقر القيادة الرئيسي الذي يوجد به مكتب حميدتي بوسط الخرطوم، والسيطرة على مقر القوات الخاصة للدعم السريع واستسلامهم.
وذكر المسؤول أن أكثر من 1200 ضابط من الجيش كانوا منتدبين للدعم السريع أنهوا انتدابهم وعادوا إلى الجيش، كما رفضت قوات الدعم السريع في كوستي بولاية النيل الأبيض والقضارف في ولاية القضارف وبورتسودان في ولاية البحر الأحمر الدخول في المعارك.
وفي السياق ذاته، قال الخبير العسكري محمد السنوسي إن الجيش يمتلك دبابات وسلاح الطيران، مما يرجح قدرات قواته على قوات الدعم السريع التي تتحرك بسيارات دفع رباعي سريعة الحركة، ولكنها لا تحسم المعارك رغم استخدامها أسلحة ثقيلة ومدافع وصواريخ ومضادات طيران.
وحذر السنوسي -في حديث للجزيرة نت- من أن اندلاع المعركة في الخرطوم سيطيل أمدها أياما لأنها حرب مدن يصعب حسمها بالطائرات والأسلحة الثقيلة وستوقع ضحايا من المدنيين، لأن غالبية المواقع العسكرية وسط الأحياء السكنية واستخدام أسلحة ثقيلة وطيران سيزيد من عدد الضحايا.
ورأى السنوسي أن الجيش يتعامل مع قوات الدعم السريع كقوة متمردة، كما يتعامل معها بوسائل عسكرية وليس سياسية، وأن العلاقة بين البرهان وحميدتي لن تعود كما كانت بعدما سالت الدماء بين قواتهما، بالإضافة إلى أن لغة الأخير تجاه قيادة الجيش تجاوزت “الخطوط الحمراء”.
فرص الحل
مصادر دبلوماسية أفريقية في الخرطوم أكدت للجزيرة نت أن جهات تواصلت مع البرهان وحميدتي للتهدئة ووقف إطلاق النار، وأبلغها الأول أن التهدئة تبدأ بانسحاب قوات الدعم السريع التي حشدها خلال الأسابيع الماضية في الخرطوم، وخروجها من المدن، ووضع جدول زمني لدمجها في الجيش ووضعها تحت إمرته.
وفي المقابل أبلغ حميدتي الوسطاء أنه لا يستطيع التعامل مع البرهان ولا يثق فيه، وطالب بتنحي قائد الجيش، وتطهير الجيش من عناصر النظام السابق (نظام الرئيس السابق عمر البشير)، وإجراء إصلاحات أمنية وعسكرية لتوحيد القوات.
ورأى أن الجانبين يمنحان الحسم العسكري الأولوية في هذه المرحلة، ولم يبديا استعدادا لتقديم تنازلات، ويشعر الطرفان أنهما تعرضا للغدر والخيانة، ويحملان بعضهما تعريض سلامة البلاد إلى الخطر بالاستجابة إلى رغبات وأجندة جهات سياسية تريد أن تستأثر بالسلطة أو العودة إليها بعدما فقدتها.
مستقبل العملية السياسية
ويعتقد محللون أن العملية السياسية ستتجمد إلى حين انتهاء المواجهات العسكرية، ويقول الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي عمر الطيب إن المعارك الجارية ستضع العملية السياسية في “ثلاجة” إن لم تكون دخلت غرفة “العناية المركزة”، واستبعد استئنافها قريبا.
وتوقع الطيب -في حديث للجزيرة نت- أن يفرض البرهان حالة الطوارئ في البلاد، وتشكيل حكومة تصريف أعمال برئيس وزراء مدني ويكلفها بإجراء الانتخابات في فترة لا تتجاوز 18 شهرا، لافتا إلى أن قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي سترفض ذلك، في حين ستؤيدها أطراف سياسية أخرى، مما يدخل البلاد في حالة التجاذب والصراع واستمرار حالة اللاستقرار.
وفي السياق، يتوقع الخبير الأمني سالم عز الدين أن يحسم الجيش المواجهات العسكرية في الخرطوم لتفوقه العسكري، لكن ستتحوّل قوات الدعم السريع إلى دارفور التي ينشر فيها عشرات الآلاف من المقاتلين وتجنيد قوات إضافية وتسليحها عبر حدود البلاد الغربية مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى خصوصا أن لديها تعاونا مع دول إقليمية وروسيا.
وفي حديث مع الجزيرة نت، يرى عز الدين أن قوات الدعم السريع ستسعى من إقليم دارفور إلى مواجهة القوات الحكومية، مما يعيد الإقليم إلى مربع الحرب والضغط على الخرطوم للتفاوض معها.
ولا يستبعد أن تؤدي الحرب الجارية إلى تكاثف الضغوط الدولية على البرهان وحميدتي للتهدئة وربما تقود أي تسوية لحل الأزمة إلى تنحي الرجلين لفتح الباب أمام عودة مسار الانتقال والتحول الديمقراطي، مشيرا إلى أن طموحات رئيس مجلس السيادة ونائبه في حكم البلاد وراء تباعد مواقفهما وصراع السيطرة على مقاليد السيطرة.