قدم رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وزعيم نهضتها مهاتير محمد نموذجا يحتذى به للقائد الذي جمع بين العلم والحكمة والفطنة السياسية، وكان الربان الماهر الذي قاد سفينة بلده وسط أمواج بحر متلاطم.

قدم رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وزعيم نهضتها مهاتير محمد نموذجا يحتذى به للقائد الذي جمع بين العلم والحكمة والفطنة السياسية، وكان الربان الماهر الذي قاد سفينة بلده وسط أمواج بحر متلاطم.

قدم رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وزعيم نهضتها مهاتير محمد نموذجا يحتذى به للقائد الذي جمع بين العلم والحكمة والفطنة السياسية، وكان الربان الماهر الذي قاد سفينة بلده وسط أمواج بحر متلاطم.

لكن هذه المسيرة لم تخل من الإخفاقات في أحيان كثيرة، كما لم تخل شخصية قائدها من الانتقادات، فقد اختلفت بشأنه الآراء، خصوصا في ظل حضوره المتواصل لعقود طويلة في المشهد السياسي في ماليزيا وعلى مستوى العالم.

 

كُتب عن الرجل الكثير، كما أنه تحدث نفسه عن تجربته كثيرا، لكن شخصيته تغري أي كاتب أو صحفي لسبر أغوارها، والبحث عن جوانب خفية فيها، من هنا سعيت لتسليط الضوء على عدة محطات في مسيرة هذا الزعيم من خلال سلسلة تقارير، هذا أولها.

ونسعى في هذه السلسلة إلى تقديم أكثر من رأي، فقد أصاب الرجل في نظر الكثيرين، وأخطأ كثيرا في نظر آخرين، كما أنه أصلح في رأي فريق، وأفسد ربما في رأي فريق آخر.

وهناك من يشهد للرجل بأنه منح رفاقه في نهضة بلاده حقهم، وفي المقابل ثمة من قال إنه استأثر بالنجاح وبقي في بقعة الضوء ودفع كل من أسهم في نجاح التجربة إلى غياهب الظلمات، وزج ببعضهم في السجون.

لكن مهاتير يذكر في حديثه عن دوره في نهضة بلاده في سيرته الذاتية -التي نشرها في كتاب حمل عنوان “طبيب في رئاسة الوزراء”- فيقول “سأكون مقصرا إن لم أنسب إلى من سبقوني فضل التقدم الاستثنائي لماليزيا، فهم وضعوا الأساس، وأنا بنيت عليه فحسب، ولولا حكمتهم البالغة وبصيرتهم الواعية، لكانت مهمتي أصعب بكثير”.

 

 

جدل متواصل

نحن في الواقع أمام شخصية متمردة ثائرة منذ البداية، بل إنه يصف نفسه بأنه “صانع مشاكل”، لكنه كان بلا سند يحميه، فطرد عام 1969 من المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة (أمنو) التي كانت الحزب الحاكم، وكان من الممكن أن تكون هذه نهاية مبكرة لمشواره السياسي.

ورغم عودته إلى المنظمة بعد ذلك بسنوات قليلة بدعم شخصي من رئيس الوزراء آنذاك تون رزاق، فإن سجله الثائر لم يكن يؤهله لتولي مناصب رفيعة في الحزب الحاكم.

وصل الجدل حول شخصيته إلى حد التشكيك في كونه مسلما ومن أصول ملايوية، أي أنه لم يكن ماليزيّا أصليا، رغم أنه أكد مرارا أنه “يفتخر بكونه ملايويا”، وقد قيل إن أباه محمد بن إسكندر كان هندوسيا واعتنق الإسلام ليتمكن من الزواج من وان تمبوان أم مهاتير، وكان هذا الموضوع يثير نقاشا حاميا مع كل درجة يصعدها في سلم القيادة.

كان يمكن للجدل حول الرجل أن يكون مختصرا جدا جدا، لو أنه ترك مسرح السياسة حين غادر منصبه في رئاسة الوزراء أول مرة عام 2003، فقد كان عمره 78 عاما، كان بإمكانه أن يركن إلى حياة هادئة يستمتع بما قدم لبلاده، ويراقب المشهد من بعيد، يقول كثيرون.

لكن الطبيعة البشرية أبت إلا تشده مرة أخرى إلى حيث الصخب، وعاد حيث الأضواء ساطعة مسلطة على كل حركة وسكنة، فظهر بعض ما خفي، وسرى لحن فيه بعض نشاز أفسد شيئا من سيمفونية مبدعة عزفت لعشرات السنين.

MALAYSIA PM MAHATHIR MOHAMAD VISITS PERJAWA STEEL COMPANY IN GURUN KEDAH
مهاتير قاد نهضة بلاده (رويترز-أرشيف)

سفينة تحفها الأقدار

ومع كل هذا الجدل، لا يمكننا إلا القول إن سفينة الرجل وافقتها الرياح، ليُصنع على عين القدر في لحظة فارقة من تاريخ بلاده، وهو لا ينكر ذلك، وقد تحدث طويلا في كتبه عن كيف خدمته الأقدار وصعدت به إلى سدة الحكم، رغم أنه لم ينتم إلى نخبة الملايو، ولم يكن من أبناء سلاطين الولايات، وكان أبوه مدرسا يتقاضى راتبا تقاعديا قدره نحو دولارين.

 

يا لها من أقدار تلك التي حملته للمنصب، ربما يصعب تصديقها، لولا أنه ذكرها في سيرته، فقد تواصل دعم تون رزاق له، ومنحه فرصة لتجاوز مراحل سياسية كثيرة ليحصل على منصب وزير بحقيبة مباشرة بعد فوزه في الانتخابات عام 1974 وكان عمره آنذاك 49 عاما.

يتحدث مهاتير عن الفرص التي سنحت له ليتقدم الصفوف، يشير إلى ظروف ساقها القدر له على طبق من فضة، بين وفاة وسجن ومرض بعض خصومه ومنافسيه، وعجزهم عن خوض جولات الانتخابات المتتالية على كل درجة من درجات سلم القيادة، وحتى تلك المؤهلة لاحقا لمنصب نائب رئيس الوزراء.

ثم كيف مرض رئيس الوزراء نفسه آنذاك تون حسين عون، ليعلن فيما بعد استقالته وترشيح مهاتير ليكون خلفا له في منصب رئاسة الوزراء، وقد كان حيث فاز بالتزكية.

 

قصة قصف ميناء هاربر

وفي رحلته الطويلة وتجربته المريرة التي خاضها قبل تسلمه منصبه، وبشكل أكيد بعد ذلك، وضع مهاتير لنفسه قاعدة في كيفية تعامله مع صراعاته السياسية، تقوم على تقليل أعداد الخصوم.

يقول -معلقا على الهجوم الياباني على ميناء هاربر والذي عايشه خلال الحرب العالمية الثانية- “تعلمت من الهجوم الياباني المتهور درسا مصيريا نفعني كثيرا في السنوات اللاحقة عندما دخلت معترك السياسة، إياك أن تضيف إلى معسكر خصومك مزيدا من الأعداء، وإذا توجب عليك مواجهة عدو آخر، فلا تفعل حتى تفرغ من الأول”.

 

وانطلاقا من ذلك، كانت اللحظة التي تحقق له فيها الحلم يوم 16 يوليو/تموز 1981 حين وقف أمام الملك ليؤدي اليمين بوصفه رابع رئيس للوزراء في ماليزيا، ولينتقل الطبيب “من علاج أمراض الماليزيين إلى علاج أمراض بلدهم”، ولتتحقق النهضة.

ولينتقل أبناء وبنات المزارعين وصيادي السمك الذين عاشوا على الكفاف -بعد سنوات قليلة- إلى العمل في مصانع مكيفة يتعاملون فيها مع معدات حساسة لينتجوا للعالم أدوات مبتكرة من صنع أيديهم.

يقول عن نفسه إن حلم تسلمه منصب وزير أو حتى رئيس الوزراء بقي يراوده منذ صغره، على الرغم من الفقر والحياة الصعبة التي عاشها، لكنه طوّع الظروف فلانت له، واستثمر الفرص فظفر منها بحظ وافر، فكان القائد الذي حفر اسم بلاده على خارطة العالم.

المصدر : الجزيرة

About Post Author