الأديب المصري نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1988 مع بعض أصدقائه (مواقع التواصل الاجتماعي)

الأديب المصري نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1988 مع بعض أصدقائه (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان للصداقة في حياة الأديب والروائي نجيب محفوظ (1911 – 2006) دور وظيفي مهم. ويبدو ذلك واضحا في جل أعماله، فقد كان أصدقاء ورفقاء الأديب -الذي تحل اليوم ذكرى رحيله الـ16- مادة دسمة لكتاباته وأعماله.

وفي العباسية شرق القاهرة، تكونت أول “شلة” أو مجموعة أصدقاء في حياته استمرت لما يقرب من 70 عاما، واستقى من سير وحيوات أفرادها كثيرا من ملامح شخصيات رواياته، وكان مقهى “عرابي” هو المكان الدائم للقاء المجموعة التي شملت أدباء وكتّابا وفنانين.

 

وإذا كانت “شلة العباسية” تكونت لأسباب غير أدبية، وإنما بسبب الارتباط بالمكان، فإن الأدب كان هو السبب الرئيسي لنشأة “جماعة الحرافيش” كما وصفها محفوظ، فمن خلال سير حيوات الأدباء -الذين فازوا بجائزة وزارة المعارف في مطلع حياتهم الأدبية- وُلدت ملحمة أديب نوبل الشهيرة “الحرافيش”.

وتروي “الحرافيش” -التي نشرها محفوظ عام 1977- ما مجموعه 10 قصص لأجيال متعاقبة من “عائلة الفتوة عاشور الناجي” التي عاشت في حارة لم يحدد محفوظ مكانها وزمانها بدقة. ومع ذلك يمكن استنتاج أنها بمنطقة الحسين، بدءا من القرن الـ19.

الصعاليك أبطال وفرسان

وملحمة الحرافيش مهما تناثرت وتباعدت معانيها، فإنها تدور حول معنى الإنسان وتركز على قصص الطبقة العريضة من المجتمع وعامة الشعب، وفي الحكايات العشر تترابط الشخصيات نسبيا وتختلف موقعا وقيمة وتأثيرا وأحداثا في كل فصل من فصولها العشرة.

ولم تبعد “شلة” محفوظ -في الواقع- عن خياله الملحمي كثيرا، فكان من رفقائه الضابط والفنان الأرستقراطي أحمد مظهر، ومنهم الأديب ابن العائلات المترفة عادل كامل، وكذلك أبناء الطبقة المتوسطة، وجمعت شخصيات محفوظ في الرواية بين صفات النبل والصعلكة، يكونون أبطالا شعبيين حين يلزم الأمر لكن نهاياتهم في الأغلب مأساوية وحزينة.

وتحدث نجيب محفوظ -في مذكراته- عن بداية قصة الحرافيش، قائلا “دعاني عادل كامل صاحب “مليم الأكبر” و”ملك من شعاع” عام 1942 بمناسبة حصولنا على جائزة من وزارة المعارف، للانضمام للحرافيش، وهناك عرفت صبري شبانة (ابن عم المطرب عبد الحليم حافظ)، وعاصم حلمي، وأمين الذهبي، وثابت أمين، وأحمد مظهر، الذي كان ضابطا وفارسا في سلاح الفرسان بالجيش، ويهوى كتابة الشعر”.

ويتابع محفوظ “ثم انضم إلينا بعد ذلك توفيق صالح المخرج، والأدباء والكتاب صلاح جاهين، وإيهاب الأزهري، ومصطفى محمود، والكاتب الساخر محمد عفيفي الذي أصبح منزله في الهرم مقرا للسهرة، وطبعا كان هنالك بهجت عثمان الرسام، والدكتور لويس عوض، وكان أحمد بهاء الدين يتردد عليها من وقت لآخر، ولكنه لم يحمل لقب حرفوش”.

شلة الأنس

وقال أديب نوبل -في حواراته مع الناقد رجاء النقاش التي نشرت بعنوان “نجيب محفوظ: صفحات من مذاكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته”- إن “الحرافيش” كانت شلة لا علاقة لها بالسياسة، شعارها الفن والضحك الذي لم يتغير مع حرب فلسطين، وثورة يوليو/تموز 1952، ولما وقع العدوان الثلاثي على مصر كانت الحرافيش في حالة انتشاء، ثم جاءت نكسة 1967 فتغير كل شيء.

وذكر أن “الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 كان يصادف يوم الاثنين، وحفل زفاف صلاح جاهين الخميس الثامن من مايو/أيار، وفي آخر لقاء له بالحرافيش قبل الحرب قال فرحي يوم الخميس يا إخوان، وأنتم وحظكم بالنسبة للحرب، إن قامت أو نامت”.

وبعدها تغير شعار سهرة الحرافيش إلى السياسة، بل إن السياسة أصبحت هي المحور الأول والأخير للسهرة، ويقول نجيب محفوظ “بعد الخامس من يونيو/حزيران لم نعد قادرين على الضحك أبدا”.

مصائر متضاربة

ولكن ماذا حدث لجماعة الحرافيش، وكيف كانت مصائرهم؟

يقول نجيب محفوظ في ذكرياته “كان من ضمن الحرافيش الفنان أحمد مظهر، والكابتن عاصم حلمي الذي كان يتمتع بخفة ظل لا مثيل لها، ما جعلني أكتب مأساته في صورة من صور”المرايا” (بورتريهات أدبية كتبها محفوظ)”.

ويروي محفوظ أن هوايات عاصم المفضلة كانت الطعام والتسلية، في حين كان يكره الكلام في السياسة، ومن سخرية القدر أنه مات بسبب السياسة، فبعد نكسة 1967 قرر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر زيارة الجبهة آنذاك، وتكونت لجنة لتأمين زيارته، التي قررت القبض على أعداء الثورة في المناطق التي يمر منها موكب الرئيس، وبسبب وشاية من أحد خصومه، بأن عاصم حلمي من الإقطاعيين الذين يكرهون الرئيس تم القبض عليه، وأودع في معتقل المخابرات العامة شهرين كاملين، لقي خلالها معاملة غير كريمة، وخرج من هذه المحنة فاقدا لذاته وكارها للحياة، وانعزل عن الناس وأغلق عليه باب حجرته، وأطلق لحيته، حتى مات، وذهب الحرفوش عاصم حلمي ضحية مؤامرة لا ذنب لها فيها.

ويتوقف نجيب محفوظ أمام شخصية الكاتب الساخر محمد عفيفي صاحب كتاب “تفاحة آدم”، قائلا “تعرفت عليه بواسطة المخرج صلاح أبو سيف عام 1949، وتوطدت صلتي به واكتشفت فيه شخصية إنسانية رائعة، دعاني محمد عفيفي للانضمام إلى شلة “العوامة”، وهي مجموعة من الأصدقاء كانوا يستأجرون “عوامة” على النيل لقضاء السهرات، وكما دعاني لشلة “العوامة” دعوته إلى شلة “الحرافيش” التي سرعان ما اندمج فيها، وكان بصحة جيدة حتى داهمه مرض السرطان اللعين وأودى بحياته في فترة قصيرة، خسرنا فيها موهبة أدبية نادرة بما له من حس ساخر يعتبر امتدادا للمازني وفولتير ومارك توين”.

جاهين بطلا

وأما عن الفنان والكاتب والرسام والشاعر صلاح جاهين فيقول محفوظ “تعرفت عليه بعد تكوين شلة الحرافيش بوقت طويل، ولكنه ما إن انضم إلينا حتى واظب على حضور جلساتنا إلى أن اقترن بزوجته الثانية.. وانقطع عن حضور جلساتنا مثلما انقطع الدكتور مصطفى محمود”.

ومات صلاح جاهين بطريقة مأساوية بحسب محفوظ الذي قال “حزنت وتأثرت لوفاته، وقررت أن أكتب كل ما أعرفه عنه في عمل روائي، وتوصلت في النهاية أن أكتب رواية عن “شخصية” صلاح جاهين، على أن أعدل وأغير قليلا في ملامحها حتى لا يتعرف عليها القراء، وكتبت رواية “قشتمر” وعبّرت فيها عن مأساة هذا الرجل، وشخصية أخرى أكن لها كثيرا من التقدير والمودة وكان صاحبها من خارج الوسط الأدبي وهو “الألفي مأمون”.

عادل كامل المعتزل

ويكمل محفوظ “وأتوقف عند الصديق عادل كامل، كانت التوقعات كلها تقول إننا بصدد مولد موهبة أدبية كبيرة، وفجأة انقلب عادل على الحياة الأدبية، وبدأ يشكك في الأدب وقيمته، وترجم شكه إلى هجرة عن الأدب واعتزال الكتابة، ثم الهجرة إلى أميركا”.

ويضيف “قصة عادل كامل تذكرني بقصة حرفوش آخر، وهو أحمد زكي مخلوف، الذي كتب روايتين لفتت إحداهما الأنظار إليه وهي “نفوس مضطربة” وقد أعجبتني، وفجأة اعتزل الحياة الأدبية وترك الكتابة بصورة نهائية، وكأن لعنة قد أصابتهما معا”.

أما المخرج الكبير توفيق صالح، فقد وصفه محفوظ بأنه “أقرب المخرجين فهما لأعمالي ورشحته لإخراج “الثلاثية” ولكن لخلاف كبير بينه وبين صلاح أبو سيف رئيس مصلحة السينما في ذلك الوقت، تم إسناد العمل للمخرج حسن الإمام، وخرج صالح من مصر مضطرا، وسافر إلى العراق والخليج، وهناك ترك أعمالا جيدة، وعاش في منفى اختياري فترة طويلة”.

ويستدرك محفوظ “أما الفنان أحمد مظهر بالرغم من كونه أحد الضباط الأحرار إلا أن بلدوزر السلطة لم يرأف لحاله في التسعينيات، ورأيناه على شاشات التلفزيون يبكي مزرعته نادرة النباتات، التي صادرتها السلطة وجرفتها الجرافات لصالح طريق محور السادس من أكتوبر”.

وتوصف الملحمة الأدبية “الحرافيش” بكونها ذروة مجد أديب نوبل وتشرح تطور المجتمع المصري من منظور المهمشين والصراعات النفسية بين الفرد والمجتمع، وتفتح مع مآسيها العديدة أبوابا للأمل؛ فقد “ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”، كما يقول محفوظ على لسان أحد شخصياته.

وتتناول “ملحمة الحرافيش” لمحفوظ تعاقب الأجيال والحكام وتكتسب طابعا اجتماعيا ساحرا بتركيزها على تواتر الأجيال وفقدان الأصول من جيل لآخر، وتختلط فيها مفاهيم الخير والشر والأمل واليأس والمروءة والشهامة والخسة والمجون في واقعية تسعى للخروج من نفق النفس المظلم لكنها تصطدم بالواقع المرير وإغواءات الحياة وشهوات النفس.

المصدر : الجزيرة

About Post Author