تعتبر نبتة البوسيدون من أهم النباتات البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وتلقب برئة المتوسط لفوائدها البيئية الكثيرة.
ورغم أهميتها، فإن مساحات انتشارها تتقلص في أعماق البحر بسبب أنشطة الصيد والتلوث. فما خصائص هذه النبتة؟ وما أهميتها في الحفاظ على التنوع البيئي البحري؟ وما الحلول التي يطرحها العلماء للحفاظ عليها من الاندثار؟
ما البوسيدونيا؟
عندما تسير على أحد شواطئ البحر الأبيض المتوسط، قد تصادفك أكوام صغيرة من الأعشاب الخضراء أو البنية، ألقت بها الأمواج على الرمال. إنها نبتة البوسيدون المحيطية -أو البوسيدونيا– المعروفة علميا باسم (Posidonia oceanica).
يخلط كثيرون بينها وبين الطحالب، لكنها في الحقيقة نبات مائي يعيش بشكل رئيسي في البحر الأبيض المتوسط، وفي جزء صغير من سواحل أستراليا. وتغطي البوسيدونيا ما بين 25 و50 ألف كيلومتر مربع من مساحة المناطق الساحلية المتوسطية، أي ما يعادل 25% من مساحة المتوسط، وفق “مبادرة المناطق الرطبة المتوسطية” (Medwet).
وتمتلك هذه الأعشاب البحرية خصائص مشابهة للنباتات الأرضية، فهي تتكون من جذر تنبثق منه أوراق طويلة شبيهة بالشريط قد يصل طولها إلى حوالي متر ونصف، ولها جذور تسمح لها بتثبيت نفسها على الرمال.
وهي تشكل مروجا تمتد على مئات الكيلومترات على عمق يتراوح بين متر واحد و40 مترا تحت سطح البحر. وتتركز فترة إزهار البوسيدونيا في الخريف والربيع، وتنتج ثمارا عائمة (تشبه الزيتون) تطلق عند تفتحها بذرة تعطي الحياة لنبتة جديدة بمجرد ترسبها في قاع البحر.
فوائد متعددة للبوسيدونيا
تلعب نبتة البوسيدونيا دورا مهما ومتعدد الجوانب في البيئة البحرية، فهي فعالة في تصفية مياه البحر وإنتاج الأكسجين، فهي قادرة على إنتاج ما يصل إلى 20 لترا من الأكسجين يوميا لكل متر مربع من هذه الأعشاب.
وبوسع هذه النبتة التقاط كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون تفوق 20 مرة قدرة الغابات في اليابسة، مما يجعلها موطنا لأكبر رواسب الكربون على الإطلاق، بحسب تقرير لمعهد المتوسط للدراسات المتقدمة (Mediterranean Institute for Advanced Studies).
كما توفر هذه الأعشاب المأوى والغذاء للعديد من الأسماك والكائنات البحرية؛ إذ تعتبر المروج التي تشكلها البوسيدونيا من بين النظم البيئية الساحلية الأكثر قيمة في جميع أنحاء العالم بفضل التنوع البيولوجي العالي الذي توفره بإيوائها ما بين 20% و25% من جميع الأنواع التي تعيش في البحر الأبيض المتوسط، وفق دراسة علمية نشرت العام الماضي.
إلى جانب دورها المهم في حماية الشريط الساحلي من التآكل من خلال لعب دور الحاجز المخفف لقوة الأمواج البحرية في المياه الضحلة، ودعم تماسك قاع البحر والتخفيف من تأثير التيارات الساحلية على الرواسب وتثبيتها بواسطة جذورها، تماما كما تفعل النباتات على اليابس في حماية التربة من عوامل الانجراف.
اندثار ثلث مساحات البوسيدونيا في نصف قرن
رغم وجود التزامات دولية لحماية البيئة البحرية مثل معاهدة بيرن لعام 1979، فقد أظهرت دراسات علمية حديثة أن مساحات مروج البوسيدونيا تناقصت في السنوات الأخيرة في البحر الأبيض المتوسط، مما سيخلق أزمة بيئية لا تقل حدة في عواقبها عن قطع أشجار الغابات المطيرة.
وذكرت دراسة أجريت عام 2015 أن مساحات مروج البوسيدونيا في أعماق المتوسط شهدت تدهورا بنسبة 34% خلال الخمسين عاما الماضية. ومن المرجح أن يكون الوضع قد تفاقم منذ ذلك الحين بسبب التأثيرات التي تحدثها الأنشطة البشرية وتؤدي إلى تلوث قاع البحر وزيادة المواد العضوية التي تؤثر على نمو النبات، إضافة إلى ارتفاع درجة حرارة مياه البحر الأبيض المتوسط الناجم عن تغير المناخ.
ويعتبر الصيد بشباك الجر من أكثر الأعمال البشرية التي تدمّر مروج البوسيدونيا، إلى جانب أعمال التجريف والإغراق وإرساء السفن والمخلفات الناتجة عن تربية الأحياء المائية وتهيئة الشواطئ والموانئ.
الاستزراع من أهم الحلول
وتأتي التدابير الوقائية المتمثلة في حظر هذه الأنشطة المضرة على رأس قائمة الحلول التي يقترحها الخبراء للحفاظ على ما تبقى من مروج البوسيدونيا في المتوسط، لتمكينها من استعادة عافيتها والتمدد من جديد بشكل طبيعي.
ويتمثل أحد الحلول المقترحة للحفاظ على الأعشاب البحرية من الازدحام المروري في البحر خلال موسم السياحة المرتفع في اعتماد خيار الإرساء البيئي للسفن الذي يختلف عن الأسلوب التقليدي بكونه يتجنب المناطق التي تضمّ الأنواع المهددة بالانقراض، ولا يستخدم السلاسل والمواد الثقيلة.
وإضافة إلى إجراءات الحماية للتخفيف من حدة تراجع مساحات البوسيدونيا في أعماق البحر، لجأ العلماء إلى استزراعها وإعادة توطينها من جديد في بعض المناطق التي اختفت منها المروج.
ففي إيطاليا مثلا، أجريت 15 عملية زرع خلال العشرين عاما الماضية، قام خلالها علماء الأحياء بزراعة البوسيدونيا في 30 ألف متر مربع من قاع البحر في مواقع إيطالية مختلفة.
وفي تونس، حيث توجد 12 منطقة بحرية محمية تشمل مروج بوسيدونيا ولوحظ تراجع كبير في غطاء هذه الأعشاب البحرية، تم بعث مشروع يمتد على سنتين لوضع منهجيات مبتكرة وإجراءات تعزيزية لحماية البيئة البحرية.
ويهدف المشروع -وفق الباحثة ريم زخامة سريب، أستاذة البيئة البحرية بكلية العلوم بتونس- إلى دراسة مناطق مروج البوسيدونيا المتدهورة؛ من أجل اختيار موقع تجريبي لإعادة استزراع 10 آلاف متر مربع من هذه النبتة ومراقبتها لمدة عام باستخدام تقنيات مبتكرة بالتعاون مع شركاء إيطالييين.
بالتوازي مع ذلك يجري تنفيذ مشروع مماثل على سواحل مضيق كالفي في جزيرة كورسيكا لزرع البوسيدونيا على عمق يتراوح بين 15 و20 مترا في المناطق المتضررة من الرسو المكثف للقوارب والسفن السياحية.
ومبدئيا، تظهر نتائج الاستزراع نجاحا متفاوتا، غير أن نتائجها الحقيقية لن تكون ملموسة إلا على مدى طويل بسبب بطء نمو الأعشاب الذي لا يتجاوز بضع السنتيمترات في السنة، لذلك تبرز أهمية إجراءات حماية ما تبقى من مروج البوسيدونيا التي لا تكلف كثيرا لكنها ستنعش البحر المتوسط تدريجيا.