هل ما تزال أميركا “أعظم قوّة على وجه الأرض”؟
”إن منطقة الشرق الأوسط أصبحت أكثر هدوءا مما كانت عليه خلال عقدين من الزمن”
هكذا تحدث جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي في 29 سبتمبر/أيلول 2023 في كلمة ألقاها ثم حولها إلى مقال نشره في مجلة فورين أفيرز، ثم سارع إلى تعديله بعد طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي قلب المشهد رأسا على عقب.
لقد نصت إستراتيجيات الأمن القومي الأميركية الصادرة تباعا منذ عام 2017 على عودة سياسة التنافس مع القوى الكبرى، وحددت الصين على أنها تهديد رئيسي قادر على تحدّي النفوذ الأميركي وإعادة تشكيل النظام الدولي، واعتبرت منطقة المحيط الهندي-الهادئ بؤرة للصراع على قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين، وأشارت إلى مساعي روسيا في استعادة مكانتها قوةً عظمى، في حين تراجعت منذ عهد أوباما أولوية الحضور الأميركي في الشرق الأوسط بهدف تحرير القدرات العسكرية لإعادة نشرها في آسيا والمحيط الهادئ في مواجهة الصين، وهو ما تطلب الانسحاب من العراق وأفغانستان.
لم يكن استشراف سوليفان للمشهد، وهو أحد أبرز الأشخاص في مؤسسة الأمن القومي الأميركية، الخطأ الوحيد، فقد كررت واشنطن الخطأ الذي أشار إليه وزير الخارجية ومدير المخابرات المركزية الأسبق مايك بومبيو في مذكراته قائلا “كنت مصممًا على بناء المعرفة والقدرات التي يمكن للرئيس استخدامها لتحقيق الأهداف الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط دون إرسال قوات إضافية إلى ذلك المسرح، لن نكرر إخفاقات الماضي”.
لقد انخرطت واشنطن في إجراءات تخالف إستراتيجيتها المعلنة ودروس الماضي، فأرسلت مجموعتي حاملات طائرات للشرق الأوسط رفقة تعزيزات عسكرية، وتورطت في عملية عسكرية مطولة في البحر الأحمر، وشنت غارات في اليمن وسوريا والعراق ضد أهداف معادية، وتعرضت لخسائر في هجوم على قاعدة عسكرية بالأردن، وقادت جهود التصدي للقصف الإيراني لإسرائيل في إبريل/نيسان 2024، وبدا أنها تعود إلى الانخراط بعمق في صراعات المنطقة التي أرادت تجنبها؛ مما أربك المخططين الإستراتيجيين الأميركيين، ووزارة الدفاع التي انشغلت بالتخطيط للعمل على المسرح الأوروبي في مواجهة روسيا، والمسرح الآسيوي في مواجهة الصين، ثم وجدت نفسها تعود إلى مسرح الشرق الأوسط لمواجهة التحديات المتصاعدة به.
تصاعدت التخوفات الأميركية من أن واشنطن ستتعرض للإنهاك عبر خوض صراعات أكبر من قدراتها، وأنها بدأت تواجه إفلاسا إستراتيجيا جراء الانخراط في ثلاثة مسارح للعمليات؛ مما يتطلب منها إعادة النظر في إستراتيجيتها الكبرى لتحديد الأولويات وتجنب إهدار الموارد.
هل توجد إستراتيجية أميركية كبرى؟
برز مصطلح الإستراتيجية الكبرى في القرن العشرين، وحظي بتعريفات متعددة، فاعتبر المؤرخ بول كينيدي أنها “الموارد التي يجب على القوة العظمى أن تنفقها للحفاظ على مكانتها في العالم”، في حين صاغ الأكاديمي بيتر فيفر تعريفا أكثر شمولية قائلا إنها “مجموعة الخطط والسياسات التي تشكل الجهود التي تبذلها الدولة لتسخير الأدوات السياسية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية معًا لتعزيز مصلحتها الوطنية”.
وبشكل عام ركز مؤيدو الإستراتيجية الكبرى على أنها تهدف للمواءمة بين الطموحات والموارد والالتزامات، وشددوا على أنها تقدم إطارا فكريا توجيهيا يرشد سياسات الدولة ويسهل التخطيط المدروس ويحدد الأولويات على مدى طويل قد يمتد إلى عقود بدلا من الرد على المدى القصير.
لكن في المقابل، يرى منظرون آخرون أن السياسة العالمية مليئة بالمجهول وبالمفاجآت، وأن التكهن بمسارها المستقبلي أمر محفوف دائما بالأخطار، وأن الحكومات لا تلتزم عادة مدة طويلة بالتوجهات الإستراتيجية، وإنما تميل إلى الارتجال وفق المستجدات وتطورات الأحداث، ووفق الفهم البديهي لاحتياجات اللحظة، وبالتالي يرون أن “الإستراتيجية الكبرى” مجرد وهم ومصطلح طنان.
وعند النظر في توجهات الولايات المتحدة، يمكن أن نحدد ملامح عامة لإستراتيجياتها الكبرى، رغم وجود ما يشوش على تنفيذها لتلك الإستراتيجيات بشكل متسق، وسنلاحظ أن المكون الرئيسي في تلك الإستراتيجيات الكبرى تتضمنه إستراتيجيات الأمن القومي. ففي عام 1986 ألزم قانون غولدووتر-نيكولز -في ضوء فضيحة إيران كونترا– كل رئيس أمريكي بأن يسلم إلى الكونغرس إستراتيجية سرية للأمن القومي، لكن الرئيس رونالد ريغان قرر في عام 1987 نشر تلك الإستراتيجية علنًا، وأصبحت تمثل مظلة توجيهية لإستراتيجية الدفاع الوطني التي تنشرها وزارة الدفاع، ومراجعات الدفاع التي تتم كل أربع سنوات، فضلا عن توجيهها للإستراتيجيات الأميركية الخاصة بمناطق جغرافية أو مواضيع محددة، مثل البحر الأسود وجنوب الصحراء في أفريقيا، والإستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني.
بعد الحرب العالمية الثانية، ركزت الإستراتيجية الكبرى الأميركية على احتواء الاتحاد السوفيتي، وهزيمة الشيوعية، ومنع أي قوة من الهيمنة على أوراسيا باعتبارها الجزء الأكثر أهمية من العالم؛ إذ يعيش فيها أغلب سكان الأرض ويتمركز النشاط الاقتصادي، فمن يسيطر على تلك المنطقة ستكون لديه موارد كافية لخنق الولايات المتحدة اقتصاديا ومواجهتها عسكريا؛ ولذا خاضت واشنطن حروبا في كوريا وفيتنام، وأسست حلف الناتو، ودعمت شبكة من الشركاء في الشرق الأوسط وآسيا.
وبعد نهاية الحرب الباردة، صاغت واشنطن إستراتيجيتها الكبرى، بحسب زلماي خليل زاده، السفير الأميركي السابق في العراق وأفغانستان، الذي عمل ضمن فريق التخطيط الإستراتيجي في البنتاغون عام 1992، بحيث تهدف لمنع أي قوة معادية من السيطرة على أي “منطقة حرجة” تمنحها الموارد وحجم السكان والقدرات الصناعية اللازمة لفرض تحدٍّ عالمي في وجه الولايات المتحدة.
ويوضح المفكر الإستراتيجي هال براندز في كتابه “الإستراتيجية الأميركية الكبرى في عصر ترامب” أبرز المناطق الحرجة، قائلا إنها تشمل أوروبا وشرق آسيا والخليج العربي، حيث تتمتع تلك المناطق بأهمية اقتصادية وجيوسياسية؛ ولذا تنشر واشنطن قواتها بها ضمن حلف الناتو في أوروبا، ومن خلال اتفاقيات للدفاع العسكري والتعاون الأمني في اليابان وكوريا والفلبين، وعبر سلسلة من القواعد العسكرية في الخليج.
وبناء على ذلك بُني الجيش الأميركي بقدرات تتيح له عبور المحيطات لتنفيذ عمليات عسكرية في مسارح بعيدة، فضمت قواته حاملات طائرات، وغواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية، وسفنًا برمائية ضخمة، وطائرات قاذفة وأخرى للنقل الجوي بعيدة المدى، وطائرات تزود بالوقود.
كفل هذا الانتشار العسكري الأميركي في الخارج، ردع الخصوم المحتملين، وطمأنة الحلفاء والشركاء، والاستجابة السريعة للأزمات، فضلا عن منحه واشنطن نفوذا يتيح لها تشكيل الأجندات السياسية والأمنية والاقتصادية في المناطق التي تنشر بها قواتها.
طائرتان من طراز ميغ 29 تشارك في تدريبات الناتو بالقرب من بولندا (غيتي)
وفي تسعينيات القرن العشرين بدا أن الولايات المتحدة أحكمت هيمنتها على العالم، وتوسع حلف الناتو ليضم دول شرق أوروبا، في حين تراجعت روسيا، وانخرطت الصين في النظام الاقتصادي الدولي، ولم تلح في الأفق أي تهديدات كبرى ضد الولايات المتحدة، فأسكرت اللحظة فوكوياما فنشر كتابه الشهير “نهاية التاريخ” معلنا فيه سيادة النهج الرأسمالي الليبرالي، وتحول القيم الغربية إلى قيم معيارية ينشد العالم الاقتداء بها، وصرح الرئيس كلينتون عام 1997 بأن “أميركا هي الأمة أو الدولة التي لا يمكن أن يستغني عنها العالم”. ولكن لم تلبث الترتيبات الأميركية أن انهارت على وقع أحداث 11 سبتمبر.
صعود إستراتيجية مكافحة الإرهاب وانحدارها
لقد تولد شعور أميركي بالأمن عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي شاركت في الحرب ولم تحدث أي اشتباكات على أراضيها، كما أنها القوة العظمى الوحيدة التي خرجت من الحرب أكثر ثراء مما كانت عليه قبلها، وساد الاعتقاد بأن المحيطات تمثل حواجز دفاعية منيعة فضلا عن الردع المتمثل في الأسلحة النووية، ولكن وقعت هجمات 11 سبتمبر لتقوض الأمن الأميركي، ولتحدث تغييرات في الأولويات الأميركية، فأعلنت إستراتيجية الأمن القومي الصادرة في عهد الرئيس جورج بوش الابن عام 2002 انتهاء عصر المنافسة بين القوى العظمى زاعمة أن “القوى العظمى في العالم، تجد نفسها في ذات الجانب متحدة في مواجهة الأخطار المشتركة المتمثلة في الإرهاب والفوضى”، كما أعلنت مبدأ “الحرب الاستباقية ضد التهديدات الوشيكة”، وتزامن ذلك مع إعلان واشنطن حربا عالمية جديدة ضد الإرهاب دون تحديد نطاقها الزماني أو المكاني، وبدأت أولى جولاتها عام 2001 بغزو أفغانستان، ثم أعقبتها عام 2003 بغزو العراق.
تحولت حرب أفغانستان من نجاح أولي سريع في القضاء على حكومة طالبان بواسطة قصف جوي عنيف مدعوم ببضع مئات من عناصر القوات الخاصة والاستخبارات الأميركيين الذين رافقوا قوات تحالف الشمال المعارض لطالبان، إلى أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، حيث دامت عشرين سنة، وتطلبت في بعض المراحل حشد قوات من الناتو رفقة 100 ألف جندي أميركي لمحاولة السيطرة على الأوضاع دون جدوى.
وأثبتت حرب أفغانستان صحة رأي المنظر الصيني صن تزو بأنه لا توجد دولة استفادت من خوض حرب طويلة الأمد. كذلك تحول العراق إلى بؤرة استنزاف بشري ومالي للمقدرات الأميركية؛ مما مهد الطريق لصعود الرئيس أوباما الذي تعهد بالانسحاب من العراق، والتوقف عن أي تصرفات غبية حسب تعبيره.
لقد أثير سؤال حول لماذا أخفق التفوق العسكري الأميركي في تحقيق الأهداف السياسية المرجوة، وأشارت العديد من الإجابات إلى أن من أبرز الأسباب المبالغة في الرد على أحداث سبتمبر، والإفراط في تقدير حدود القوة الأميركية
“اعتقد بوش أن الولايات المتحدة هي أعظم قوة على وجه الأرض، وأنها سوف تكتسح كل شيء أمامها. وانطلاقًا من هذا الاعتقاد، خسر حربين في العراق وأفغانستان وقتل أو تسبب في موت مئات الآلاف من البشر”.
- ستيفن سايمون مدير شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سابقا في مجلس الأمن القومي
كما خلص ويليام بيرنز مدير السي آي إيه في كتابه “القناة الخلفية” إلى أن “اللحظة الأميركية التي دامت نصف قرن في الشرق الأوسط قد تلاشت إثر تبني إدارة بوش مزيجًا من التشدد والغطرسة ردًّا على أحداث سبتمبر؛ مما أدى إلى مضاعفة الاختلالات وتقويض النفوذ الأميركي”.
كما صور وزير الدفاع مارك إسبر، التداعيات من زاوية عسكرية قائلا “لقد وجدنا أنفسنا في وضع ضمور إستراتيجي بعد ما يقرب من عقدين من التركيز على صراع منخفض الحدة في العراق وأفغانستان.
لقد ركزنا على مكافحة الإرهاب وأمن القوافل والدوريات الراجلة وتسيير نقاط التفتيش دون إيلاء الاهتمام اللازم لمتطلبات قتال خصم مثل كوريا الشمالية فضلا عن الصين وروسيا، وتراجع الاهتمام بتطوير الدروع الثقيلة والمدفعية والدفاع الجوي فضلا عن تراجع العناية بطائرات العدو والصواريخ البعيدة المدى والحرب الإلكترونية”.
وبالتزامن مع الإخفاق الأميركي في حربي العراق وأفغانستان، بدأت روسيا في استعادة نفوذها دون ردّ أميركي، فخاضت حربا ضد جورجيا عام 2008، ثم سيطرت على شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم تدخلت عسكريا في سوريا عام 2015.
أما الصين فتجاوزت الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم أطلقت عام 2013 مبادرة الحزام والطريق، وتوسعت اقتصاديا في أنحاء العالم، وأسست أول قاعدة عسكرية لها بالخارج في جيبوتي عام 2017، كما بدأت استعراض نفوذها في بحري الصين الجنوبي والشرقي؛ مما زاد مخاوف واشنطن من أن بكين تنفذ نصائح صن تزو، الذي يرى أن من الأفضل إخضاع الأعداء دون الانخراط فعليًّا في قتال مسلح، وذلك من خلال الخداع وإحباط خطط العدو وتحالفاته.
صعود إستراتيجية تنافس القوى العظمى مجددا
أدرك أوباما أن بلاده انخرطت في حرب ضد الإرهاب المزعوم تحولت إلى إلهاء إستراتيجي أتاح للصين تطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية، كما أتاح لروسيا النهوض من كبوتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، في حين تفاقمت الضغوط الاقتصادية بسبب إرث العجز في الميزانية بعهد بوش، وتأثير الأزمة المالية في عام 2008، فقرر أوباما تحويل الموارد إلى الأولويات المحلية، كما تبنت إدارته مفهوم “إعادة التوازن”، الذي قُصد به إنهاء الحروب الأميركية في الشرق الأوسط، وتكريس أولوية أكبر لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ بهدف كبح صعود الصين، ثم طرح إستراتيجية “المحور الآسيوي”.
حدث تحول جوهري في عهد ترامب، فأصبح التنافس بين القوى العظمى في صلب إستراتيجية الأمن القومي الصادرة عام 2017، التي اعتبرت الصين أبرز منافس جيوسياسي، تليها روسيا، وكانت هذه هي المرة الأولى في فترة ما بعد 11 سبتمبر التي تجاوزت فيها الإشارة إلى القوى الكبرى مثل روسيا والصين نظيرتها التي تشير إلى العراق وأفغانستان.
وعمليا ناقشت إدارة ترامب تخفيض الانتشار العسكري الأميركي جزئيا في أفريقيا وأميركا الجنوبية لتسهيل زيادة الانتشار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين، وهو ما أثار القلق من خلق فراغ يؤدي إلى زيادة النفوذ الصيني أو الروسي في تلك المناطق.
ورغم تعهد بايدن بتبني سياسة خارجية مختلفة فإن إستراتيجية الأمن القومي الصادرة تحت إشراف إدارته عام 2022 استخدمت مصطلح المنافسة نحو 90 مرة لتطغى على مصطلحات التوازن والاحتواء، كما سارت على درب نظيرتها في عهد ترامب عبر التشديد على أن الصين وروسيا تمثلان تحديات أكثر خطورة، مع التشديد على أن الصين هي المنافس الإستراتيجي الأكثر أهمية، بحجة أنها تعمل على تحديث جيشها وتستعد للقتال والفوز في حرب مع الولايات المتحدة.
وبعد أن اعتمد ترامب خطابا قوميا شعاره “أميركا أولا”، اعتمد بايدن خطابا أكثر ليبرالية. ولذا هدد ترامب بالانسحاب من الناتو، كما انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن الشراكة عبر المحيط الهادئ، وتخلى عن الاتفاق النووي مع إيران من جانب واحد، كما ربط الضمانات الأمنية بالمقايضات الاقتصادية، فطلب من العراق وكوريا الجنوبية وألمانيا دفع تكلفة وجود القوات الأميركية على أراضيها.
وفي المقابل، رأت إدارة بايدن أن إستراتيجية “أميركا أولا” التي انتهجها ترامب ستقود إلى “أميركا وحدها”؛ ولذا تبنت نهجا مغايرا يقوم على تعزيز الشراكات مع الحلفاء، فعادت إلى اتفاقية باريس للمناخ، كما عملت على تعزيز الحوارات الأمنية والتعاون الثنائي مع الهند وفيتنام والفليبين وكوريا الجنوبية، ونظمت الحوار الأمني الرباعي الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، كما أنشأت عام 2021 الشراكة الأمنية الثلاثية “أوكوس” بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ودعمت التعاون بين حلفائها استعدادا لمواجهة الصين.
الصراع بين رؤيتين لدور أميركا “شرطي العالم أم تخفيف الالتزامات”
يعكس التباين بين نهجي إدارة ترامب وبايدن رغم اتفاقهما على كون الصين أبرز منافس جيوسياسي، اختلافا أعمق داخل الولايات المتحدة بشأن دورها في العالم.
لقد طرح المُنظّر الأمني باري بوزان مصطلح “ضبط النفس” وإستراتيجية “التوازن” التي ترى أن الميل المفرط إلى الاعتماد على الحلول العسكرية لمشاكل سياسية يؤدي إلى مزيد من الأزمات، وأن السياسات الأميركية تقوض المصالح الحيوية للقوى الأخرى؛ مما يصعد التوتر معها، كما في نموذج استفزاز روسيا عبر توسيع عضوية حلف الناتو والتعهد بضم جورجيا وأوكرانيا.
كذلك يرى بوزان أن القوة الأميركية لم تعد كافية لتحقيق أهداف أكثر طموحًا، وأن على واشنطن تعديل سياساتها لتتناسب مع موارد القوة المتاحة، وأنه بدلا من نشر قوات في الخارج بشكل دائم وتقديم التزامات للحلفاء تستنزف المقدرات الأميركية، فمن الأفضل الاحتفاظ بوجود محدود في الخارج بالأماكن الأكثر أهمية والاعتماد على الجهات الفاعلة المحلية لاحتواء التهديدات والحفاظ على توازن القوى في تلك المناطق، وتعزيزها بالدعم الاقتصادي أو الدبلوماسي أو العسكري غير المباشر مثل مبيعات الأسلحة، وفي حال اقتراب انهيار في التوازن الإقليمي تتدخل واشنطن آنذاك عسكريا لاستعادة التوازن، ثم تعود أدراجها، وهو ما يقود في النهاية إلى تمتع الولايات المتحدة بقدر أكبر من الأمن بتكلفة محدودة.
لم تتبنّ إدارة بايدن إستراتيجية التوازن بحذافيرها بحجة أن الانسحاب عالميا لتوفير الأموال وتهدئة مخاوف الجهات المنافسة، سيؤدي إلى تضرر نفوذ الولايات المتحدة، وسيشجع الخصوم على تحدي مصالح واشنطن ويثبط الحلفاء، وسيولد المزيد من المشاكل التي تتطلب تكاليف أكبر لمعالجتها على المدى الطويل، لكنها سعت مثل إدارة أوباما لتبني إستراتيجية أقل حدة تدعى “المشاركة العميقة”، تقوم على الحفاظ على مشاركة الولايات المتحدة في العالم، وإدامة التحالفات الأساسية مع أوروبا عبر الناتو ومع اليابان، وتعزيزها حيثما أمكن لتوزيع المسؤوليات، فضلا عن إعادة التوازن إلى مجموعة أدوات السياسة الخارجية من خلال رفع مستوى الدبلوماسية والتبادلات الثقافية وإزالة الحواجز أمام التجارة، والتقليل من التركيز على استخدام القوة والإكراه، مع التقليل من عدد القضايا التي تنخرط فيها إذا رأت أنها غير ملزمة بحلها، واستمرار دفع حصة غير متناسبة من تكاليف المؤسسات الدولية لتعزيز الاستقرار العالمي؛ مما ينعكس إيجابا على زيادة الأمن والرخاء الأميركي.
وفي المقابل يشعر فريق آخر -مثّلته إدارة ترامب- بالسخط إزاء التكاليف الباهظة للصراعات التي تبدو بلا نهاية، ويعتبر أن حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها لم يتحملوا نصيبهم العادل، وأن الأموال المنفقة على الحروب الخارجية ستكون مفيدة بشكل أكبر في مواجهة جائحة كوفيد-19، أو تطوير البنية التحتية داخل البلاد؛ ولذا تبنت إدارة ترامب نهجا معاديا للتحالفات مع الآخرين باعتبارها صفقات سيئة تتحمل واشنطن تكاليفها ومخاطرها ويجني الحلفاء فوائدها، كما سخر ترامب من حلف الناتو متهما أعضاءه بالركوب المجاني على حساب الولايات المتحدة، وسحب القوات الأميركية من الصومال، وكاد يسحبها بشكل كامل من سوريا.
كذلك تبنى ترامب نهجا معاديا للتجارة الحرة باعتبارها تفيد الجهات الأجنبية على حساب الأميركيين، ففرض تعريفات جمركية كبيرة على الواردات بما فيها واردات الصلب والألومنيوم من الدول الصديقة، ووصف الشراكة عبر المحيط الهادئ بأنها “اغتصاب للولايات المتحدة” ثم انسحب منها، واعتبر أن الهجرة تهدد الهوية الوطنية فشدد سياساته اتجاه المهاجرين ومراقبة الحدود، ورفع شعار “أميركا أولا” الذي يمثل توجها انعزاليا في السياسة الأميركية.
شبح عودة ترامب ومستقبل الإستراتيجية الأميركية الكبرى
عندما علم جيرار أرو السفير الفرنسي لدى واشنطن بانتخاب دونالد ترامب رئيسًا عام 2016 قال “إن العالم ينهار أمام أعيننا”، ولعل أرو يشعر اليوم بفزع أكبر من احتمال عودة ترامب مجددا إلى البيت الأبيض. فترامب تعهد بتخفيض الدعم المقدم لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وبفرض تعريفات جمركية تتراوح بين 60 و100% على البضائع الصينية، كما وعد بتشديد سياسات الهجرة، وذلك ضمن كتلة وعود تشعر حلفاء الولايات المتحدة بتجاهلها لمصالحهم وبضرورة التخطيط للمستقبل بمعزل عنها، والتحوط من التقلبات في إستراتيجيتها الكبرى وسياستها الخارجية.
وإضافة إلى تفاقم الانقسامات السياسية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة، التي تجلت في اقتحام أنصار ترامب للكونغرس عام 2021، فإن الولايات المتحدة تواجه تحديات في المناطق الحيوية الثلاث بآسيا وأوروبا والشرق الأوسط؛ إذ تسببت سياساتها الهادفة لعزل روسيا والحد من النفوذ الصيني في تقارب بكين وموسكو، كما دفعت العديد من حلفاء واشنطن مثل دول الخليج العربي إلى رفض مسايرتها في العقوبات التي تفرضها على روسيا والصين.
وأدى انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران إلى دفع طهران لتعزيز قدراتها على تخصيب اليورانيوم، وأدى تجاهلها للحق الفلسطيني ودعم اتفاقيات إبراهام للتطبيع ونقل السفارة الأميركية إلى القدس إلى انفجار المشهد في طوفان الأقصى، كما أدى الانسحاب الفوضوي من أفغانستان والتخلي عن حكومة أشرف غني إلى إثارة الشكوك حول مصداقية الضمانات الأميركية.
أما الاقتصاد الأميركي الذي يمثل رافعة القوة العسكرية، فيعاني؛ إذ بلغ متوسط النمو الاقتصادي خلال الأعوام الثلاثين التي تلت نهاية الحرب الباردة 3% سنويا، ويتوقع مكتب الميزانية التابع للكونغرس أن ينخفض الرقم إلى 1.8% خلال الفترة الممتدة من عام 2023 إلى 2033.
ورغم ما سبق، فلا تزال الولايات المتحدة تمتلك أقوى جيش في العالم، لكنها تواجه انحدارا تدريجيا في قوتها لانخراطها في التزامات تتجاوز قدراتها، فضلا عن تسببها في تصاعد الأزمات بدلا من حلها كما في نموذج أوكرانيا وحرب غزة بتداعياتها الإقليمية، ومن خلال تجاهلها لمصالح القوى الأخرى، بل واعتبار أي دولة لا تقبل القيادة المهيمنة لواشنطن هي منافس يجب تحجيمه، والسعي لفرض خياراتها على الآخرين عبر إجبارهم على الاختيار بين وقف التبادلات الاقتصادية مع الشركات والأفراد الخاضعين للعقوبات التي تفرضها من جانب واحد، وفقدان الوصول إلى السوق الأميركية وعزلهم عن النظام المالي القائم على الدولار.
إن التاريخ مليء بأمثلة لإمبراطوريات انهارت بسبب الانقسامات الداخلية، وفقدان الثقة من طرف الحلفاء، فضلا عن الغطرسة وتوسيع نطاق المنافسات؛ مما جعل خصومها يتكتلون ضدها لهزيمتها، وكما يقال فالكل أكبر من مجموع أجزائه.