كتب الأديب المصري الراحل عباس محمود العقاد (1889-1964) أكثر من 120 كتابا و10 دواوين، ولم ينس يوما أن يكتب عن منزله الذي أقام فيه جُل عمره، فوصفه فأحسن الوصف.

لم يترك زاوية أو ركنا أو نافذة إلا ورسمها لنا عبر كتابه “في بيتي”، كأنه كان يقرأ ويستشعر ما ستصنع به الأيام من إهمال لمكان أحبه وأقام فيه، وإعراض عن تاريخ كان يعشق منه كل لحظة عاشها في هذا المقام.

 

العقاد -الذي كتب عن عباقرة العالم، ورأى كيف تحول بيت تولستوي إلى متحف يؤمه الملايين كل عام، وكذلك بيت المفكر والشاعر الألماني جوته، أو “جيته” كما كتبه في كتابه “تذكار جيته”- رأى كيف يقدس الإنجليز شاعرهم الكبير شكسبير، وكيف حوّل الأميركان وغيرهم من الشعوب بيوت الأدباء لمتاحف يرتادها الناس، وتكون قبلة السياح في بلادهم، أما هو عبقري مصر الحديثة فمهمل بين أهله.

لم يكن يعلم أن بيته سيتحول لما يشبه وكر البوم، البوم الذي أحبه وكتب فيه أفضل ما كتب إنسان عن حيوان.

“في بيتي”

كتاب “في بيتي” يبدو فيه العقاد متوحدا مع الأماكن والأركان والزوايا والسقف والجدران، كأنه يكتب عن أحياء يعيشون معه في المكان نفسه.

اتصلت بالسيدة عبير عامر العقاد حفيدته والمتحدثة باسم عائلة الأستاذ العقاد، وابنة ابن أخيه الشاعر عامر العقاد سكرتيره الخاص وكاتم أسراره طوال آخر 10 سنوات من عمره، وصاحب أكثر من كتاب عن عمه العقاد، فقالت إنهم بصدد التجهيز لإعادة “صالون العقاد” للوجود مرة أخرى، بعد أن يئسنا من وزارة الثقافة في أن تقوم بدورها في ترميم بيت العقاد.

وقالت للجزيرة نت إن 50 عاما مضت ونحن في ركاب وزارة الثقافة من أجل تحويل بيت العقاد لمتحف أو ترميمه لبعث صالونه من جديد، وخلال وزارة الدكتور جابر عصفور جاءنا متبرع إماراتي يعرض علينا ترميم بيت العقاد، لكن الدكتور جابر رفض، وقال العقاد من رموز مصر، وواجبه علينا أن نعيد ترميم منزله، وذهب الدكتور عصفور ورحل عن دنيانا، وجاء من بعده وزيران ولم يتم شيء حتى هذه اللحظة”.

وأضافت عبير العقاد “البيت مبني على الطراز البلجيكي، بالتصميم المعماري نفسه لقصر البارون إمبان، وحتى السلالم من رخام بلجيكي نادر الوجود، وللإهمال وعدم الاهتمام يبدو البيت في حالة سيئة للغاية، وكل فترة نفاجأ بمن يقوم بحفائر من جهات مختلفة بهدف العمل على انهياره، وقام واحد من الجيران ببناء برج حمام تشويها للمكان، ولكن البلدية قامت بإزالته، حتى جاءت هيئة التنسيق الحضاري وشكلت لجنة لمعاينته، وانتهت إلى أن البيت بحالة جيدة، لكنه في حاجة ماسة للترميم حتى يعود لسيرته الأولى”.

وتابعت العقاد “أبحث الآن عن ممول يقوم بترميم منزل العقاد صاحب العبقريات الإسلامية، استعدادا لإعادة أشهر صالون في الشرق للوجود؛ “صالون العقاد” الذي كان يعقده الأستاذ العقاد كل يوم جمعة في بيته 13 شارع السلطان سليم – ميدان روكسي بمصر الجديدة (شرقي القاهرة)”.

 

وصية العقاد

كان الأستاذ العقاد تحدث عن بيته في وصيته، وقال “هذا البيت قد كتبت فيه خير كتبي وأحبها إليَّ وقد عشت فيه تلك الكتب عيشا حيا، باقي الآثار قبل أن أنقلها من عالم النفس إلى عالم الأوراق، وهذا المسكن قد صعدت سلالمه ثلاثا ثلاثا ثم صعدتها اثنتين اثنتين، ثم أصعده درجة درجة على غير عجلة ولا اكتراث”.

“وهذا المسكن قد نزلت به والشعرات البيض يتوارين في السواد، وما زلت أنزل به والشعرات السود يتوارين في البياض”.

ويسأل العقاد نفسه ويجيب، وكأنه يستكشف المستقبل “والآن وقد مضت السنون…، ماذا تغير وماذا بقي فلم يتغير على مر تلك السنين؟

تغير الكثير من أمور العالم، وتغير الكثير من أمور مصر، وتغيرت من الناس أمور يراها من كان يعرفها، فلا يعرفها الآن. وبيتي هذا هو بيتي هذا، لم أغيره ولم يغيرني، ولم يطرأ عليه وجه غريب إلا ريثما يغيب”.

المكتبة

كتاب “في بيتي” حوار “سياحة بين العقاد وبين صديقه الذي نزل عليه ضيفا، واصفا له بيته من المكتبة إلى الصالون، ثم حجرة النوم، يصف مكتبته التي استضاف فيها جماعات شتى من البشر من بقاع مختلفة من الأرض، وكذلك أصدقاؤه الكتّاب، من مفكرين وكتاب وفنانين وعشاق وأنبياء ومجرمين وشهداء، ويصف أيضا التيارات الفكرية، والمذاهب السياسية والاجتماعية، من شيوعية يمقتها، لنازية يرفضها، ووضع كتبهما على أطراف المكتبة في المطبخ والشرفة، كأنه يتمنى لو أن لصا سطا على البيت فحملها ورحل فترتاح منها العين والعقل معا، ويحدث صاحبه عن بيته الذي لا يحجبه شيء عن النور:

“قلت لك يا صاحبي: إنني أحب مدينة الشمس؛ لأنني أحب النور. ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني أفتحها فلا أرى منها إلا النور والفضاء، والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور”.

“وإني لأسمع من هذه النافذة بين حين وحين صوت امرأة لا تني تنذر وليدها بالخيبة وسوء المآل؛ أأنت تفلح في شيء قط؟ والله ما أنت بمفلح ولا بمقلع عما أنت فيه! خيبني الله إن لم أرك خائبًا هكذا بني أبناء الأمهات”.

ما على الجدران من صور

وينتقل هو وصاحبه من المكتبة إلى مكان آخر في البيت، وتتنقل عيونهما من صفوف المكتبة حيث الكتب، إلى الجدران حيث الصور، فماذا كان يعلق العقاد على جدران بيته من الصور؟ ويجيب العقاد:

“وهممنا أن نترك الحجرة التي قضينا فيها معظم هذه السياحة، فأنصفناها أعدل الإنصاف؛ لأننا في الواقع نقضي فيها معظم الحياة. وعدل صاحبي عن الرفوف إلى الجدران”.

“وكانت على الجدران صورة فنية واحدة لا ثانية لها من نوعها، وهي صورة الفتاة الحزينة على قبر حبيبها الدفين، وقد كتبت عنها في ساعة من “ساعات بين الكتب”، فلم يكن السؤال بحاجة إلى جواب”.

“أما سائر الصور فقد كانت أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول وكارليل وبيتهوفن، وصورتان من صنع الفنان النابغ صلاح الدين طاهر؛ إحداهما صورتي بعد الأربعين والأخرى صورتي بعد الخمسين!”

“ولقد تجمعت هذه الصور في أماكنها بمحض الاتفاق في نيف وعشرين سنة، فلم أعرف لها وحدة تجمعها إلا بعد أن تجمعت وحدها، وساءلت نفسي عن تلك “الوحدة” كما كان يسألني الناظرون إليها”.

“ثم تحول صاحبي إلى صورتي، فقال وهو يردد النظر بيني وبينها: لقد سألتك عن صور غيرك، فما لي لا أسألك عن صورتك؟ كيف ترى صديقك الفنان قد مثلك في هذه الأصباغ والألوان؟”

“… أرى صورتي كما صورها صديقنا الأستاذ صلاح (الفنان التشكيلي الكبير صلاح طاهر)؛ لأنه يمثل القابليات، قبل تمثيل الملامح والمحسوسات”.

منزل الأديب الراحل عباس العقاد (الجزيرة)

حجرة النوم

ثم يتركان المكتبة إلى حجرة النوم، فيقول عنها العقاد:

“وحجرة النوم في بيت الرجل الأعزب كحجرة الاستقبال وحجرة المائدة وحجرة المكتب، ليس عليها حجاب”.

“غير أنني قلت لصاحبي: إن هذه الحجرة تعنيني ولا تعني أحدا غيري من الناس، اللَّهم إلا بعض الصور الفنية التي فيها، وكلها منسوخة من أصولها المحفوظة في متاحفها، فليس فيها من صورة أصيلة أو تحفة غالية، ما عدا واحدة بمفردها هي بينها آية الاستثناء في كل قاعدة من قواعد التعميم”.

“هذه شالومة أو سلامة، صاحبة هيرود، من تصوير الفرنسي بروسيير؛ كان ثمن رقصتها في زمانها رأس نبي من أنبياء بني إسرائيل”.

“وهذه صورة “تاييس” (قدّيسة مسيحية مصرية ولدت في مدينة الإسكندرية، في القرن الثالث، جرفتها الغواية، لكنها تابت وتحولت لأسطورة في تاريخ القديسات)، وهي تهدم إيمان الناسك المسكين، وقف أمامها وقد تبادلا الفتنة، فأخذها بوعظة وأخذته بغواية جسدها، ولبس هو طيلسان الأثرياء وخلعت هي كل طيلسان، وكأنما شاء المصور أن يعقد المقارنة بين هذه الفاكهة الشهية وبين ثمرات البستاني، فجود ما شاء في العنب والموز والبرتقال، ولكنه تركها إلى جانب هذا البستان الحافل كأنها الماء الذي لا طعم له ولا لون، ولا يروي الظمآن إلا شراب ذلك البستان”.

اللوحة الملغمة

ويصل العقاد وصديقه إلى لوحة “الفطيرة” التي رسمها الفنان صلاح طاهر، مصورا فطيرة حلوة شهية عليها عسل كثير لكن يغشاها الذباب، فتأنف النفس منظرها، والفطيرة ترمز لفتاة كان يحبها، ولكن كثيرا من العيون تهواها، فكانت هذه اللوحة حتى يمنع نفسه من التفكير فيها.

“وأصبحنا أمام الصورة الأصلية التي انفردت بين هذه النسخ المنقولة. قال صاحبي: إنني أفهمها وإن لم أعلم بخبرها. قلت: إنها لا تحتمل غير معنى واحد: فطيرة حلوة يشتهيها الجائع والشبعان، بل يشتهيها المتخوم والمكظوظ، وعليها صرصور وذباب يحوم، وفي القدح الذي يفرغ عليها الحلاوة عسل يضطرب فيه بعض الذباب ويموت، فلا يأكل من الفطيرة الحلوة على هذه الصورة شبعان ولا جوعان، بل تعزف النفس حين تراها عن كل طعام”.

أحد نوافذ بيت العقاد (الجزيرة)

البومة ورقم 13

كان العقاد شديدا في طباعه، يشق على نفسه، ولا تأخذه بنفسه رأفة ولا رحمة، فلا يعرف للحظ مكانا، ولا للتشاؤم زمانا وأرضا، فاتخذ من البومة شعارا له، ومن الرقم 13 عنوانا ورقما لتليفونه، وكتب عن ابن الرومي كتابه الفريد، وهو المشهور عنه التشاؤم، وألا أحد خط عنه سطرا، إلا وأصابته لعنة تشاؤمه:

“ونظر صاحبي إلى يمينه وأوشك أن يجفل جفلة الخوف؛ لأنه رأى هنالك تمثالي بومتين دقيقتين، يحفَان بالساعة الصغيرة عن اليمين وعن الشمال، وقال: رب هذا من ذاك! ثم قال ترى لو دخل صاحبك ابن الرومي هذه الحجرة، ونظر إلى هذين التمثالين المخيفين؛ ماذا كان يصنع يا ترى؟”

“قلت: لا شك أنه كان ناكصا على عقبيه على الأثر، وإن كنت قد وضعت هذين التمثالين في موضعهما، وتحديت الشؤم كله لأجله هو جزاه الله”.

ويقول: “وسكنت هذا البيت ورقمه ثلاثة عشر، ووضعت فيه التليفون ورقمه يومئذ مبدوء بثلاثة عشر، وجعلت أسأل الشؤم في كل دعوى من دعاويه، وأولاها دعواه الكبرى على البومة المسكينة، ما لهذه الطريدة المظلومة وهي قد تركت الدنيا والنهار للإنسان ولاذت منه بالليل والخلاء؟ وما عيبه عليها وهي أوفى الطيور في عشرة الأليف منها للأليف؟”

 

صور وتصاوير

وعن بقية الصور كتب العقاد: “ولم يكن في الحجرة شيء سبقته إلى سكن هذا البيت منذ سكنته إلا بعض الصور، والمذياع! ففيها صورة للقصر المعروف باسم “أنس الوجود” من صنع الفنان التركي القدير الأستاذ هدايت، تلمح من نظرة واحدة إليها غرابة الجو المصري والألوان المصرية الوضاءة على آثارنا الخالدة، كما تبدو في عيني الفنان الغريب عن الديار”.

“وفيها صورة لي من صنع الأستاذ “أحمد صبري”، وهو من أساطين فن التصوير في هذا البلد، وله ريشة ثابتة وألوان صحيحة وطريقة مأثورة عن عباقرة المدرسين الأقدمين، وفيها صورة لشاطئ الزمالك من صنع المصور الموهوب الأستاذ شعبان زكي”.

و”فيها صورة لترعة المحمودية من صنع الفنان المطلع الأستاذ صلاح الدين طاهر، وفيها صورة “أبي قير” لفقيد الفن الأستاذ لبيب تادرس، وهو فنان مجتهد عوجل في شبابه قبل أوانه”.

“وهناك تمثال نصفي أهداه إليَّ بعض الهواة ممن يشتغلون بغير النحت، ولا يظهرون آثارهم الفنية. أما المذياع فلم يكن ذاع يوم سكنت هذه الدار”.

ويختتم العقاد وصيته أو كتابه “في بيتي” بسؤال صديقه يقول له: “عشرون سنة بين هذه الجدران الأربعة؟!”

ويجيبه “ولكنني لو سئلت: لم بقيت أول الأمر حتى طال بي البقاء، فلست أدري ما أقول، ولعلي أوجز الحقيقة كلها ببيت حافظ إبراهيم الذي قاله في مثل هذا المسكن، وإن لم تطل مدته فيه كهذا الطول:

كم مرّ لي فيه عيش لست أذكره ومرّ لي فيه عيش لست أنساه”.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *