بعض الأطفال يحتاجون إلى وقت لالتقاط الأنفاس والتعوّد على البقاء بمفردهم، للتعامل مع الأفكار والمشاعر الصعبة (بيكسلز)

بعض الأطفال يحتاجون إلى وقت لالتقاط الأنفاس والتعوّد على البقاء بمفردهم، للتعامل مع الأفكار والمشاعر الصعبة (بيكسلز)

على الرغم من أن الفيلسوف اليوناني إبيكتيتوس “مَيّز بين الوحدة، كسلوك سلبي نابع من الإحساس بالفراغ واليأس والضعف، والعزلة كحالة إيجابية للتفاعل مع الذات وتوظيف الإمكانات العقلية”، فإن الخلط بينهما لا يزال مستمرًا إلى اليوم.

وبحسب الصحفية الأميركية الحاصلة على ماجستير علم النفس ميشيل برونيتي “لا يزال معظم الناس ينظرون إلى العزلة بتوجّس، ويقللون من أهميتها، لاعتقادهم بأنها الشعور بالوحدة ذاته”.

 

هذا الخلط بين الحالتين هو ما يُفسر نظرة الآباء إلى أطفالهم، باعتبارهم في حاجة دائمة إلى الإرضاء الفوري، وعدم تركهم للصمت أو الانفراد بأنفسهم، خوفًا من العزلة الضارة.

فمنذ منتصف القرن العشرين “بدأ الآباء يعتقدون بأن الأطفال ضعفاء ولديهم قابلية للتأثر، وأن العالم من حولهم يشكل خطرًا”، ما دفعهم إلى مراقبتهم في كل الأوقات، وشغلهم في نشاطات متواصلة “لضمان سلامتهم الجسدية، ونجاحهم في المستقبل”، كما تقول كريستين لاشوا، المؤرخة في جامعة “فانغارد” بولاية كاليفورنيا.

وغالبًا لا يُسمح للأطفال بتمضية بعض الوقت بمفردهم، لاستيعاب أمر ما أو التعامل معه بطريقتهم الخاصة “على الرغم من أنها إحدى الطرق التي يكتشف الأطفال بها شخصيتهم”، وفقًا للمعالج النفسي مارك أودوير.

لذلك يوضح مؤرخ العزلة ديفيد فينسنت أن “أولئك الأطفال الذين يُحبون العزلة بشكل طبيعي ليسوا بالضرورة منعزلين معادين للمجتمع، لكنهم أطفال طبيعيون موجودون دائمًا”.

 

مهارات العُزلة وعواقب الحرمان منها

يكتسب الطفل مهارات خاصة من الوقت الذي يقضيه بمفرده، ليتعلم كيفية الاسترخاء والتفكير والتأمل، والترفيه عن نفسه، من دون مساعدة أو مساهمة من الوالدين أو الأشقاء أو الأصدقاء أو المربيات. “وتحتاج (هذه المهارات) إلى نحو 20 دقيقة، حتى تُبنى تدريجيًّا، ويتمكن الأطفال من التغلب على أي انزعاج، وتعلم الجلوس مع مشاعرهم”، بحسب فرجينيا توماس، أستاذة علم النفس في كلية “ميدلبري”، فيرمونت، الولايات المتحدة.

الطفل يكتسب مهارات خاصة من الوقت الذي يقضيه بمفرده (بيكسلز)

في المقابل، هناك ثمة عواقب عدة لحرمان الأطفال من العُزلة، لعل أهمها ما يلي:

  • يُنشئ أطفالاً مُدللين

تقول بيجي دريكسلر، المؤلفة والباحثة في علم النفس، إن “الترفيه المستمر لأطفالنا، والإغداق بالمقتنيات المادية، والإفراط في تناول الطعام، والاهتمام الزائد، يُنشئ جيلاً من الأطفال المدللين، يسعى دائمًا إلى الحصول على الدعم”، فيما تُظهر الدراسات أن “الأطفال الذين يعرفون كيفية الانفراد بأنفسهم، وشغل وقتهم بمفردهم، نادرًا ما يشعرون بالوحدة”.

  • يجعلهم مُرهقين

فالهوس بالإشراف على الأطفال “يجعلهم مُرهقين مُشتتين، بين المدرسة والنشاطات وضجيج الأسرة ووسائل التواصل الاجتماعي، من دون أي فرصة للسيطرة على أيامهم”، كما تقول باولا كورسانو، الباحثة في عزلة الأطفال، في جامعة “بارما” الإيطالية.

  • يحرمهم من التقاط الأنفاس

بعض الأطفال يحتاجون إلى وقت لالتقاط الأنفاس، والتعوّد على البقاء بمفردهم، للتعامل مع الأفكار والمشاعر الصعبة “وعلينا أن نتعلم كيف نحب ذلك، ونمنحه لهم من دون أي إلهاءات”، وفقًا للدكتور روبرت كوبلان، عالم النفس في جامعة كارلتون الكندية.

فقد يلعب الطفل منفردًا، ويكون سعيدًا ولا يعاني من أي شعور بالوحدة، حتى نبدأ في منعه من تمضية الوقت بمفرده، ما يُشكل ضغطًا عليه، كما تقول ميشيل برونيتي.

لا تدع طفلك يشعر بأنه سبب جدالكما- (بيكسلز).
الطفل قد يلعب منفردًا، ويكون سعيدًا ولا يعاني من أي شعور بالوحدة (بيكسلز)

فوائد مهارات العُزلة

للعزلة فوائد عدة قد تغيب عن الأهل، أهمها:

  • إشباع حاجة طبيعية

لاحظ الباحثون أن “الأطفال قد يميلون إلى الابتعاد، بعد المشاركة في النشاطات الجماعية، ليقوموا بنشاط فردي مثل القراءة أو الرسم، أو حتى ارتداء سماعات الرأس”. فمنذ ولادة الأطفال، يبحثون عن لحظات ينفردون فيها بأنفسهم، لمعالجة المشاعر الغامرة، فيهربون من الاتصال بالعين، ويبكون إذا أصر أحد على إعادة إشراكهم في شيء لا يرغبون فيه، “حتى الأطفال الرضّع ينسحبون من بعض التفاعلات”، وفقًا لجمعية علم النفس الأميركية.

  • دعم استقلال الطفل

مع تقدم الأطفال في السن، يمرون بفترة من الاستكشاف الذاتي، وتزداد حاجتهم إلى العزلة في غرفهم، بشكل مستقل عن أقرانهم أو أفراد أسرتهم، ما يمنحهم شعورًا بالهدوء والراحة، ويشعرون بمزيد من الثقة بأنفسهم في مواجهة أي موقف.

لذا، يؤكد كوبلان أهمية “تحرّرهم من تسليط الضوء، وضغط الرقابة الاجتماعية”. وترى برونيتي، أن “تشجيعهم على بعض العزلة، سيعلّمهم الاعتماد على أنفسهم في الأوقات العصيبة”.

  • تطوير المهارات

مثلما يحتاج الأطفال إلى إشراف الكبار، فهم يحتاجون إلى بعض العزلة لتساعدهم على النمو، لكنهم لا يحصلون على ما يكفي منها، فقد أخبر باحثون مجلة “ذي أتلانتيك” (theatlantic) الأميركية أن “هناك صعوبة في تقبل فكرة الطفل الانفرادي”، فمعظم الآباء يعتقدون أن اللحظات الحرة لدى أطفالهم هي فراغٌ يجب ملؤه، ويقلقون إذا لم يكن لطفلهم أصدقاء كثر، أو يمضي الكثير من الوقت بمفرده. لكن باولا كورسانو تؤكد أن “اللعب الفردي يطوّر مهارات الطفل، وخصوصًا التركيز والتخطيط”.

  • حرية الاختيار

يحتاج الأطفال إلى تمضية بعض الوقت بمفردهم، ولكن شرط أن يختاروه هم، وليس الكبار.

وأظهرت الدراسات أن “قرار الأطفال العزلة بأنفسهم يُحدث تأثيرات أكثر إيجابية مما لو كان مفروضًا عليهم”. وعلى الرغم من أن الأطفال اليوم يتمتعون بحرية أكبر، ومزيد من الفراغ والاختلاط الاجتماعي واللعب، فإن “الطفولة ذات المدى الحر، والفترات الفردية الخاصة، تتيح فرصًا للاستمتاع بمساحة هادئة وعقل صافٍ”، كما يقول ستيفن مينتز، المؤرخ في جامعة تكساس.

  • استكشاف الهوية

تقول فرجينيا توماس إن “العزلة يمكن أن تساعد المراهقين على التنفس وإعادة الشحن، حيث يبدؤون التركيز أكثر على أسئلة تتعلق بالهوية، من قبيل: من أنا؟ وبماذا أؤمن؟ وماذا يعني كذا؟ وأين أذهب في حياتي؟”.

وبدلاً من أن يتأثروا بسهولة بالأشخاص من حولهم، يصبحون أكثر عرضة لاتخاذ قرارات تتماشى مع قيمهم الخاصة، فأحد الأشياء التي يمكن أن تكون العزلة مفيدة فيها حقًّا هو “الشعور بالحرية لاستكشاف اهتمامات الطفل الخاصة، واستكشاف الطبيعة، واستكشاف العالم من حوله”.

  • تنظيم العواطف

يقول د. روبرت كوبلان “غالبًا ما يعود الأطفال الذين يوبّخهم آباؤهم إلى غرفتهم، ليلعبوا بدمية ويبدؤوا التفكير والتمرين بمفردهم، لتنظيم عواطفهم الكبيرة بشكل أفضل، والتعلم من أخطائهم”.

  • درجات أفضل واكتئاب أقل

تشير البحوث إلى أن المراهقين الذين يمضون فترات معتدلة من الوقت بمفردهم، “يحصلون على درجات أفضل ولديهم معدلات اكتئاب أقل من أولئك الذين لا يفعلون ذلك”.

المصدر : مواقع إلكترونية

About Post Author