مفكر سوداني للجزيرة نت: ما يحدث في الخرطوم ليس صراعا بين جنرالين والنخب وراء خيبات البلاد
الخرطوم– أكد المفكر السوداني ورئيس مركز دراسات السلام في جامعة الخرطوم السابق الدكتور محمد محجوب هارون أن السبب الرئيسي للقتال الجاري في البلاد حاليا، بين الجيش وقوات الدعم السريع، هو ضعف البناء القيادي في الدولة السودانية.
وأعرب هارون عن اعتقاده بأن هناك حقبة جديدة من السياسة الوطنية ستتشكل في السودان، معبرا عن أمله في أن تكون في الاتجاه الصائب وتستند إلى توافق وطني عريض القاعدة.
وأضاف أن وجود جيش موازٍ في بلد واحد أو داخل السيادة الواحدة يوفر قابلية لوقوع صراعات مسلحة، مشددا على أنه لا يوجد حالة مشابهة للسودان تعيش التعدد في الجيوش الوطنية.
الجزيرة نت حاورت المفكر السوداني بشأن قضايا الراهن السياسي في بلاده ومآلات المواجهات الجارية في الخرطوم، وسيناريوهات المستقبل، وفيما يلي الحوار بالتفصيل:
برأيك ما السبب الحقيقي لاندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؟
ليس بالضرورة أن يكون هناك سبب واحد للقتال الدائرة بين الجيش والدعم السريع، لكن أعتقد أن السبب الرئيسي هو ضعف البناء القيادي في الدولة السودانية، لوقت طويل، مما قاد إلى إضعاف الدولة وهياكلها، وبالتالي نشأت حاجة في الدولة للاستعانة بوكلاء للقيام بوظائف أساسية مثل وظيفة حفظ الأمن، وهي في نظرية الدولة وظيفة محتكرة حصرياً للجيش الوطني والمنظومة الأمنية الأخرى.
ولما ضعف أداء الدولة ووهنت قدرتها بدأت تنشأ الاحتياجات إلى جهات تساعد في حفظ الأمن، وظهر ذلك في جنوب السودان خلال مرحلة الحرب الأهلية، ثم في دارفور، ولما قدرت القيادة السياسية أنها لم تستطع مواجهة الحركات الاحتجاجية المسلحة بالجيش الوطني قبلت أن تعمل وفقا لنظرية الحرب بالوكالة مما قادها إلى البحث عمن يقومون بهذا الدور، وتبعاً لذلك نشأت قوات الدعم السريع التي استفادت من حالة وهن القيادة السياسية للدولة واستطاعت أن تبني قوتها.
ولأننا لا نعيش في عالم مثالي، ظهرت مشاغل لأطراف داخلية وخارجية رأت أن تستثمر في الجيش الموازي ممثلا في قوات الدعم السريع، وتؤسس بناء على ذلك مشروعا للاستيلاء على الحكم بالقوة المسلحة، ونحن نعيش حاليا وقائع ذلك المشروع عبر المواجهات الجارية بين الجيش والدعم السريع.
هل تعتقد أن ثمة أيادي أجنبية وراء ما يجري حاليا في السودان وما مؤشراته؟
يحكم العالم الخارجي في علاقاته البحث عن المصالح وتحقيق المصالح، ويعيش العالم حالياً حالة نهم شديد للموارد وتوسيع الاقتصادات الوطنية، للدولة الباحثة عن التدخل، وبناء شركاء وتحالفات. وبالتالي فالصراع الجاري حالياً ليس بين جنرالين، وصراع مصالح داخلية فقط، بل لها محركات خارجية، والإقليم العربي الأفريقي الشرق أوسطي يمثل حالة مثالية لتهافت العالم الخارجي.
والسودان له أهمية خاصة لموقعه الجغرافي السياسي وقربه من الأسواق، وإطلاله على البحار الدافئة التي تمر بها حركة التجارة العالمية، وهو المدخل الأفريقي نحو العالم العربي وبوابة العرب نحو أفريقيا وبلد ذاخر بالموارد البشرية والطبيعية، فلماذا لا تكون هناك مطامع خارجية في السودان خاصة على خلفية الضعف المستمر لقيادة الدولة والانقسام السياسي الحاد، والتخندق لقوى الفضاء السياسي الوطني، وبالطبع هذا يشجع على التدخلات الخارجية، والاقتتال الدائر هو واحد من مظاهر التدخل الخارجي بجانب عوامل أخرى داخلية.
هل تعتقد أن وجود قوة أخرى بخلاف الجيش تملك أدوات العنف سبب في الصراع بين الجانبين؟
عندما يكون هناك جيش موازٍ في بلد واحد، أو داخل السيادة الواحدة، يوفر قابلية لوقوع صراعات مسلحة، ولا توجد حالة مشابهة للسودان تعيش التعدد في الجيوش الوطنية.
هناك مخاوف من تمدد القتال الدائر بين الجيش والدعم السريع من الخرطوم إلى بعض الولايات وتحوله إلى حرب أهلية فهل تعتقد أن هذا راجح؟
طالما أن هناك ضعفا قياديا في الدولة قاد إلى الحرب، فإن استمرار حالة الضعف وعدم نشوء قيادة جديدة مقتدرة تستطيع قيادة البلاد، في ظل الظروف الحرجة التي تعيشها، فليس مستبعدا أن يطول أمد الاقتتال ويتمدد إلى ما وراء جغرافية العاصمة، وأرجو ألا يحدث ذلك ونأمل نهاية عاجلة للقتال في الخرطوم.
ليس من الحكمة أن نتعامل مع الوضع المعقد في البلاد بالأماني، والتقديرات الساذجة إلى حد ما، السودان في حاجة إلى قيادة مقتدرة لتجنب كثير من المخاطر وخاصة في مرحلة ما بعد الصراع.
ألا تعتقد أن الانقسامات الداخلية والاستقطاب السياسي خلف فراغا شغلته القوى الأجنبية وصارت تتحكم بالمشهد السياسي وصناعة القرار الوطني؟
حينما تكون لديك دار وتحكم إغلاقها لا يستطيع أحد أن يقتحمها، إلا في حال قبولك بذلك وفتحها له بتفاهم بينكما، نحن بكل أسف دار السودانيين ليست مفتوحة الأبواب بل هي بلا أبواب، ومفتوحة النوافذ ومحطمة الأسوار كذلك، والسبب الرئيسي في ذلك ضعف النخب السياسية وتراجعها إلى مربع المصالح الذاتية والكيانية الضيقة والرخيصة وهي سبب الخيبات.
وللأسف يتم شراء التدخل الخارجي بقيمة زهيدة عبر قيادات لا تستحق ثمن البيع الذي تبيعه لفتح المجال أمام التدخل الخارجي، بجانب ضعف القيادات التي تدير المشهد وغياب الاستقامة الأخلاقية، كل ذلك مع فجوات إدارة الشأن العام، مما فتح الباب أمام عمليات البيع والشراء وأتاح للقوى الأجنبية أن تفرض نفسها لتحقيق مصالحها وأجندتها على حساب القرار الوطني والمصلحة الوطنية.
هل ترى من أسباب عدم استقرار السودان مسألة اقتسام السلطة والثروة؟
عدم العدالة في توزيع الموارد والتأكد من استخدامها على الوجه الصحيح قد يقود إلى عدم الاستقرار، وفي السودان طرحت مسألة اقتسام السلطة وصارت شعارا سياسيا متداولا من غير تركيز على مضمون هذ العملية، بل اقتسام السلطة والنفوذ السياسي والموارد ليس لصالح المواطنين وأصحاب الحق.
أعتقد أن مفهوم اقتسام السلطة والثروة يحتاج إلى مراجعة، والأصوب أن نتحدث عن استخدامات السلطة والثروة وتوزيعها بما يخدم الأغراض التي تنشئ الوظائف التي تقوم بها الحكومات لمصلحة مواطنيها.
بعد توقف الاقتتال هل سيتغير المشهد السياسي وما توقعاتك لملامح التغيير المرتقب؟
الاقتتال الجاري حاليا غير مسبوق، فهو بين جيشين، الأول الجيش الوطني والآخر جيش كانت له درجة من المشروعية القانونية، ومدى القتال وآثاره المادية والبشرية كبيرة، وسيكون لها آثار على المستقبل.. السياسة التي كانت سائدة في السنوات الأربع الأخيرة أسهمت بدرجة كبيرة في الوصول إلى الوضع الحالي، وليس منظوراً أن تكون السياسة ذاتها التي ستشكل سودان ما بعد الاقتتال.
وأعتقد أن هناك حقبة جديدة من السياسة الوطنية ستتشكل، أرجو لها أن تكون في الاتجاه الصائب تستند إلى توافق وطني عريض القاعدة.
ما المعادلة التي تراها مناسبة لتحقيق الاستقرار في البلاد في ظل التنوع والتعقيدات التي تعيشها؟
لا يمكن أن ينشأ وضع سياسي قائم على الاستقرار إذا لم يتحقق توافق عريض على ماهية المصلحة الوطنية ويدخل في ذلك توفير قاعدة جيدة للأمن القومي، والقوة الذاتية الوطنية ونشوء هياكل دولة وظيفية مقتدرة لتحقيق حد أدنى من رضاء المواطن وبناء حالة القدرة والكرامة الوطنية وعلاقات اقتصادية منصفة، ولو توفرت هذه المقومات وتوفرت الإرادة الوطنية سيتحول التنوع في السودان إلى عنصر قوة وليس أداة تنازع وإضعاف للدولة.
في ظل المعطيات الراهنة للواقع الذي تعيشه البلاد ما السيناريوهات المتوقعة؟
في ظل المواجهات العسكرية الجارية فإن البلاد مفتوحة على كافة السيناريوهات، يمكن أن ينتهي الاقتتال بتعلم النخبة الوطنية من دروسها، وسيكون ذلك مسوغا لبداية عملية شجاعة وكبيرة لمراجعة أخطاء الحقب الماضية في السياسة الوطنية، وبالتالي تحويل الأزمة إلى نعمة والمحنة إلى منحة.
ورغم الدماء والأشلاء والدمار، يمكن أن نرى ضوءا في نهاية النفق، وأن نصنع من ذلك مستقبلا كما فعلت بعض البلدان حتى في المحيط الأفريقي كما حدث في جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا، ورواندا تحت قيادة بول كاغامي، وفي ساحل العاج وغيرها، وفي حال لم نتعلم من الدرس فيجب أن نستعد لتلاشي الكيان الوطني الكبير (السودان) ونسأل الله ألا يحدث ذلك.