الناقدة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882-1941) لها أسلوب خاص بالرواية عرف بتيار الوعي (غيتي)

الناقدة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882-1941) لها أسلوب خاص بالرواية عرف بتيار الوعي (غيتي)

خلال احتفال أقامته “جامعة كامبردج” تكريماً لذكرى الروائية البريطانية فرجينيا وولف (1882-1941) بعد مرور عدة شهور على وفاتها، وقف الروائي البريطاني إدوارد مورغان فورستر متحدثًا، ليقول:

“لقد كانت وولف على قناعة تامة بأنّ المجتمع هو من صنع الرجال، وأنّ الاهتمام الأساسي لهؤلاء الرجال ينحصر في إسالة الدماء، وربح الأموال، وإعطاء الأوامر، وارتداء اللباس الموحّد، وهذه المشاغل جميعها ليست ذات شأن”.

كانت تلك هي الخلاصة التي جسدتها في رواياتها، في أعقاب ما تعرضت له منذ سنوات عمرها المبكرة، وفي اللحظة التي قررت فيها الغياب تمامًا عن ساحة الحياة، كانت تلك الروايات، هي التي تكفلت بتخليد اسمها إلى الأبد، في مختلف بقاع العالم. وحدث هذا، على الرغم من أن عدد تلك الروايات لم يتجاوز 8 قصص، إضافة الى مجموعة قصصية صدرت بعد رحيلها.

واقع غريب

وولف التي عرفت “الواقع” في محاضرة ألقتها في جامعة كامبردج سنة 1928 بأنه “شيء غريب الأطوار لا يمكن الاعتماد عليه مطلقاً” مؤكدة أنه قد يوجد أحياناً في درب مترب، وأحياناً في قصاصة من جريدة متروكة في الشارع، وأحياناً في نرجسة برية في ضوء الشمس، مشددة على أن الروائي يفوق غيره من الناس، في اقتناص فرصة العيش، بين هذا الواقع المتنوع. ولذلك، كان عليه أن يجمعه ويوصله إلى الآخرين.

وقد تمكنت وولف من جمع ذرات هذا الواقع، وإيصاله محبوكاً إلى القراء، سواء في هذه الرواية أو أعمالها الأخرى، لدرجة أنها أصبحت من أهم الكتاب التجريبيين، ورائدة من رواد رواية تيار الوعي. في أعقاب إصدارها لروايتيها “الأمواج” و”إلى الفنار” وحتى من قبلهما. وكانت قد جربت أيضاً أشكالا سردية، في كتابة السيرة الذاتية، من بينها ترجمة لحياة “روجر فراي” غير أن ما واجهته من تجاهل نقدي كان كفيلًا بدفق المزيد من مشاعر بالإحباط لديها.

وعلى الرغم من ندرة الدراسات التي تناولت قصصها القصيرة، فإن تلك القصص كانت النواة الرئيسية لرواياتها، والمجال الذي أتاح لها الفرصة لتجريب المنهج الروائي، متعدد الزوايا، الذي باتت تتبعه.

وفي الوقت الذي باتت فيه رواية “السيدة دالاوي” -التي نشرت عام 1925- هي الرابعة في تعداد مؤلفات وولف، حيث تجري أحداث تلك الرواية، خلال يوم واحد من حياة كلاريسا دالاوي، قرينة أحد أعضاء البرلمان. بيد أن هذا اليوم يتشعب إلى عدد من الأيام الماضية التي ظلت الذكريات تتدفق فيها. وعبر ذلك، تتمكن وولف من قطع صلاتها بالشكل التقليدي الذي كان معروفا لكتابة الرواية باللغة الإنجليزية.

ففي تلك التقنية، يتم عرض الأحداث، وكذلك رسم الشخوص، لا بطريقة التصوير المباشر، إنما عن طريق الانطباعات التي تطرأ، ووفق الذكريات التي تمر، داخل ذهن الشخصية الأولى في الرواية، وأيضًا في مخيلة الشخصيات الأخرى، سواء منها الشخصية الرئيسية، أو الثانوية.

وهذا الأسلوب الجديد -الذي بات يعرف من بعدها بتيار الوعي- سرعان ما تفوق في أهميته على تيار السرد التقليدي.

غلاف الكتاب السيدة دلاوي
رواية وولف التي ترجمها عطا عبد الوهاب (الجزيرة)

الغوص عميقًا

تستهل “السيدة دالاوي” بموقف، غير أنه لا يتم استيعابه إلا بعد اكتمال المشهد، داخل ذهن القارئ، وفي أعقاب قيامه بقراءة كل الأحداث، والإلمام بكافة التفاصيل. فهذا المشهد قد يمر مرورًا عاديًا، وقت أن يقرأ للوهلة الأولى، لكنه سرعان ما يعود عميقًا جدًا، عندما تتم إعادة القراءة له.

وهذا على وجه التحديد ما يحدث في طريقة الكتابة التي كانت تتبعها وولف، وهو دأبها الذي ظلت تعتمده. فهي لم تكن تترك التفاصيل مهمشة، أو تدفع القارئ للشعور بالملل، من خلال الإسهاب في التفاصيل، لأنها تغوص عميقًا في كل جملة وتأخذه في رحلة غوص جميلة، لتدفعه متعمدة إلى التساؤل، في أعقاب كل فقرة: عما إذا كانت قد انتهت مما أرادت قوله؟ وما إذا كانت قد انتقلت أخيرًا إلى ما بعده؟

واتسمت العلاقة التي ربطت كلاريسا أو مس دالاوي بريتشارد زوجها الأول بالغرابة، فهي لم تكن صحية ولكنها ليست سيئة تمامًا، وظلت تقول إن في الزواج ينبغي أن يتوافر شيء بسيط هو الاستقلال، بين أناس يعيشون معا يوما بعد يوم في بيت واحد، وبعد ذلك تستطرد قائلة: أين هو هذا الصباح مثلا؟ في لجنة ما لم تسأل أبدا ما هي”.

وبمثل مقدار الاستقلالية الذي تقدمها السيدة دالاوي، كانت تأخذ أيضًا. ولأجل هذا كانت العلاقة دائمًا ما تتسم بالبرود. بينما كانت عجرفتها تظهر في علاقتها مع شخص آخر هو “بيتر” صديق طفولتها وشبابها، وكذلك التظاهر الذي كان يسود علاقة الأم وابنتها، تلك الشخصية التي تتضاربها الأمزجة والأفكار.

ويبقى الحال على هذا الهدوء، وحتى يعود بيتر، لا تقول وولف بشكل مباشر إن الشخصيتين تربطهما علاقة غرامية، لأنهما يحملان مشاعر لم تنضب رغم مرور السنين وتبدل الأحول، لكنها تتركنا لنتساءل: ما العقدة التي بنت عليها وولف هذه الحبكة؟

وقبل أن نعود لتكتشف بأنفسنا أنها قصة حب معقدة، وهذا على وجه التحديد واحد من بين أساليب البراعة التي تتمتع بها وولف، وهو من دلائل موهبتها على وجه التحديد.

وفي هذه الرواية، وهي الأهم من بين أعمالها، التي صدرت بالنصف الأول من القرن العشرين، لا تسرد وولف أحداثاً، وإنما ترصد يوماً في حياة هذه المرأة التي تسكن مدينة لندن. ومن هنا فإنها عصية على التلخيص ومتفردة في خصوصيتها.
وتدور القصة حول السيدة دالاوي التي تهمل نفسها تفانياً في خدمة حبيبها الذي يعاني من اكتئاب وتنتهي القصة بانتحاره.

وبلغت وولف في هذه الرواية بواكير نضجها الذي سيتطور فيما بعد، في رواياتها اللاحقة. وقد تميز اسلوب الكاتبة بتسليط الاهتمام أيضًا على المسائل الصغيرة، من أجل السعي لوجود حس بالثراء العظيم لنسيج الحياة الواقعية اليومية.

انهيارات

منذ سنوات الطفولة تعرضت وولف لسلسلة من الانهيارات العصبية المتتالية. فحينما كانت في عمر الـ13 وخلال عام 1895 توفيت والدتها بالحمى الروماتيزمية، وبعد عامين ماتت أختها ستيلا، كما اعتدى عليها أخوها غير الشقيق، وبسبب تربيتها الصارمة لم تبُح وولف بما حصل من شقيقها الذي كان له أكبر الأثر عليها بقية حياتها.

والاعتداء الجنسي عليها ترك مشكلة نفسية تفاقمت بوفاة والدها ثم أختها، وكانت عروساً في شهر العسل مما أدى إلى أن تصاب وولف بحالات من الاكتئاب أدت لدخولها المستشفى مرات عديدة، حتى تم توصيف حالتها النفسية من قبل طبيبها المعالج بـ”الجنون الاكتئابي” أو “جنون الثرثرة” بعد أن اعتادت سماع أصوات غريبة، مما دعا طبيبها لأن ينصحها بالابتعاد نهائيًا عن القراءة والدراسة، غير أن مرض وولف لم يقتصر على سماع الأصوات، وإنما امتد إلى الهوس والتخيلات لدرجة أنها عام 1913 حاولت الانتحار بتناول 100 حبة دوائية، ولكنها نجت.

ولم تسع وولف لمهادنة السائد، ومن خلال قراءتها للواقع، راحت تسعى إلى الكشف عن احتمالات أخرى مختلفة، ثم تنطلق من تساؤلات تتجاوز المألوف وتقدّم عديد من الإجابات الجاهزة، فقد كانت تعتبر الكتابة بمثابة إصغاء عميق لجميع الكائنات والأشياء، مثلما راحت تطالعنا في يومياتها، ورصدها لأدقّ التفاصيل.

وراحت تؤكد أن الحياة تجميع لهذه التفاصيل، وتشدد على أن مهمّتها ككاتبة تتمثل في إزاحة الستائر المعتمة عنها، وإظهارها بعد أن تُسقط عنها المحرَّمات، وتتفحّص مظاهر العنف السياسيّ والاجتماعي. وهو ما يعني أن وولف ظلت تنطلق مما هو خاصّ إلى العموم، وراحت تغوص في آلام الذات والمجتمع.
ولم تتوقف عند انتقادها للطبقة البورجوازية وأنماط عيشها فحسب.

وقد انشغلت وولف إلى جانب وضع المرأة والدفاع عن حقوقها، بالدفاع عن المهمّشين، وتحدثت عن الناجين من الحروب، ورصدت آثار تلك الحروب على النفس والجسد. واعتبرت أنّ “المجتمع لا يستطيع أن يتحرّر من الطغيان إذا لم يتحرّر من العبوديّة”.

القاصة وولف عام 1927 (غيتي)

الرسالة الأخيرة

صباح 28 مارس/آذار 1941، أحس ليونارد وولف بشيء غامض في وجه زوجته، فاقترح أن تستريح في الداخل ريثما يعود من عمله. ولم يغب أكثر من ساعتين، وحين صعد ليطمئن عليها لم يجدها، ووجد مكانها 3 رسائل: واحدة له، وواحدة لأختها فانيسا، والأخيرة لناشرها جون ليمان تخبره فيها بألا ينشر روايتها “بين الفصول” لأنها “سخيفة وتافهة”.

وكانت وولف قد وضعت الرسالة فوق آلة الطباعة، وخرجت من المنزل خلسة حتى تتجنب الخادمات، فصادفت ابن أختها الصغير يبكي على عصفوره الذي مات.

وساعدت العمة الصغيرَ على دفن العصفور تحت شجرة على ضفة النهر حيث كانت تسكن.

وقال لها بكل براءة الأطفال “انظري إلى العصفور المسكين كيف يحيط به الهدوء” فأجابت وهي تلمس صدر العصفور وتغطيه ببعض الأغصان:

“نعم هو الموت الذي يعطينا الهدوء والراحة. اذهب بسرعة إلى المنزل لتغسل يديك”. وانتظرت حتى ابتعد الصغير ثم وقفت ونظرت بعيداً ومشت بخطوات سريعة على حافة النهر وكان فستانها الطويل يلامس العشب الأخضر الندي.

ولبست معطفها الكبير وأقفلته فوق فستانها ثم ملأت جيوب المعطف بقطع من الحجارة الثقيلة، واتجهت نحو ماء النهر وغاصت فيه رويداً رويدا ورأسها مرفوع وعيناها مفتوحتان ووجهها خال ٍمن أية مشاعر.

وفي الرسالة الموجهة الى زوجها ليوناردو، كتبت وولف تقول:

“حبيبي، أنا واثقةٌ بأنني سأجنُّ مرةً أخرى، وأشعر بأننا لا نستطيع أن نعاني مجددًا شيئًا من تلك الأوقات الفظيعة. أنا لن أشفى هذه المرة، بدأتُ أسمع الأصوات، ولا أستطيع التركيز، لذا سأفعل على ما يبدو لي أنه أفضل ما ينبغي فعله. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك، ولا أظن أن هناك شخصين يمكنهما أن يكونا أسعد مما كنا.. وداعاً”.

وانطلق ليونارد مضطرباً يبحث عنها في الأماكن المجاورة، وأخيراً عثر على آثار قدميها على الرمال وقبعتها وعكازها على ضفة نهر أوس قرب منزلهما. بعد 3 أسابيع، كان أطفال يلعبون عند الجسر، وأمام أعينهم المذهولة، جرفت المياه جسداً غير محدد الملامح، ظنوه في البداية جذع شجرة مليئاً بالأعشاب، وشيئاً فشيئاً اتضح أنه امرأة، وفي الـ19 من أبريل/نيسان أعلنت الصحف العثور على جثة الروائية الرائدة وولف.

المصدر : الجزيرة

About Post Author