“حزام الأرز”.. هكذا تبني كوريا الجنوبية نفوذها في أفريقيا
شهد العقدان الأخيران اهتماما متصاعدا من كوريا الجنوبية بتطوير علاقاتها مع القارة الأفريقية، مدفوعة بمجموعة متنوعة من الأهداف الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
وبين عام 2006 الذي شهد انعطافة كبيرة في إرساء مقاربة جديدة بين سول والقارة السمراء، وانعقاد القمة الكورية الأفريقية الأولى في 4 و5 يونيو/حزيران 2023، يمكن رصد نشاط كوري جنوبي دؤوب تعمل سول من خلاله لتأمين نفوذها في سياق جيوسياسي، تزداد حدة المنافسة فيه على موارد القارة السمراء.
تاريخ مشترك من الفقر
مثّلت الجولة الأفريقية التي قام بها الرئيس الكوري الجنوبي روه مو هيون عام 2006 فاتحة لصفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين، حيث وضعت حجر الأساس للاستراتيجية الأفريقية مع إعلانه عن “المبادرة الكورية لتنمية أفريقيا”، وتعهده بمضاعفة حجم المساعدات الإنمائية الرسمية التي تقدمها بلاده للقارة السمراء.
ووفقا لورقة صادرة عن “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية” و”مركز السياسات للجنوب الجديد”، تتميز المقاربة الكورية الجنوبية في تعاطيها مع أفريقيا بقدر كبير من العمل المؤسساتي، حيث تبرز في هذا السياق العديد من الهياكل المنظمة لطبيعة ومجالات هذه العلاقة.
ويعد “المنتدى الكوري الأفريقي” من أول وأقدم هذه المؤسسات، إذ تم إطلاقه عام 2006 تحت إشراف وزارة الخارجية، ويعقد دورة كل 3 سنوات، ويهدف إلى تعزيز الشراكات وتبادل الخبرات التنموية.
في حين يعقد “مؤتمر التعاون الاقتصادي الكوري الأفريقي” دوراته كل عامين تحت إشراف وزارتي الاستراتيجية والمالية، ويمثل أداة للتعاون بين بنك التنمية الأفريقي وكوريا الجنوبية، بغرض مناقشة الفرص التي توفرها السوق الأفريقية للشركات الكورية.
وفي محاولتها للتقرب من دول القارة، تتبنى سول خطابا قائما على “تاريخهم المشترك من الفقر”، وما يمكن وصفه بالمعجزة التي انبعثت “من رماد الحرب الكورية”، وفقا لوزارة الخارجية الكورية التي تؤكد أن مساعدة المجتمع الدولي فتحت الطريق أمام سول للانتقال من كونها أفقر دولة في العالم إلى الاقتصاد الرابع في آسيا.
وهي تجربة ترغب كوريا الجنوبية في مشاركة دروسها مع الدول الأفريقية، من خلال بناء الجسور القائمة على المنفعة المشتركة وتبادل الخبرات.
الدبلوماسية التنموية
وعبر برامج التعاون الدولي، تقدم كوريا الجنوبية مساعدات تنموية للدول الأفريقية تشمل مجالات مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، كما تقوم بتنفيذ مشاريع تنموية مشتركة في قطاعات الزراعة والتعليم والصحة.
وقد تعهد الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول في افتتاح القمة الكورية الأفريقية بزيادة مساعدات بلاده الإنمائية للقارة لتبلغ 10 مليارات دولار بحلول عام 2030، في حين أكد بنك التنمية الأفريقي أن الصندوق الاستئماني للتعاون الاقتصادي الكوري الأفريقي هو أكبر الصناديق التابعة للبنك من هذا النوع، من حيث المساهمات المتلقاة وحجم المحفظة.
ووفقا لأرقام عام 2021، فقد ركزت المساعدة الإنمائية الرسمية الثنائية لكوريا بشكل أساسي على آسيا وأفريقيا، وتم تخصيص 593.1 مليون دولار أميركي لأفريقيا.
كما كانت القارة أيضا ضمن المتلقين الإقليميين الرئيسيين لمساهمات كوريا المخصصة للمنظمات المتعددة الأطراف، في حين أدرجت كل من مصر وإثيوبيا وتنزانيا ضمن الدول العشر الأولى الأكثر استقبالا للمساعدات الكورية في ذلك العام.
ويبرز في هذا المجال دور “الوكالة الكورية للتعاون الدولي” (كويكا)، التي تقوم بنشاطات متنوعة في 16 دولة أفريقية جنوب الصحراء، منها إثيوبيا وكينيا ورواندا وأوغندا والكونغو الديمقراطية والنيجر ومالي والسنغال.
وتختلف أنواع النشاطات وفقا لاحتياجات كل بلد، حيث تغطي الخطة الوطنية لعام 2022 الخاصة بنيجيريا مجالات مرتبطة بدفع النمو في القطاعات غير النفطية، وتحديث الخدمات الإدارية وتعزيز القدرات التشغيلية بميزانية تبلغ قرابة 36 مليون دولار أميركي.
في المقابل، تبدو الخطة الإثيوبية لنفس العام مرتكزة على تعزيز القدرات التصنيعية وخدمات الرعاية الصحية والقدرة على الاستجابة لتغير المناخ، ودعم التكامل الاجتماعي الشامل لبناء السلام المستدام من خلال ميزانية تزيد على 133 مليون دولار.
مبادرة حزام الأرز الكوري
يعد هذا المشروع من أهم المبادرات الكورية الجنوبية في أفريقيا، وأطلقته وزارة الزراعة والغذاء والتعاون الريفي في 10 يوليو/تموز 2023، في إطار برنامج “المساعدة الإنمائية الرسمية” لتحقيق الأمن الغذائي للقارة التي تعاني من صعوبات كبيرة في هذا المجال.
ويتم ذلك من خلال تزويد 8 دول أفريقية بمجموعة متنوعة عالية الجودة من بذور الأرز والآلات الزراعية، والمساعدة في تطوير البنية التحتية، ومشاركة خبراتها الزراعية.
وتضمّ المبادرة مشاريع في السنغال وغامبيا وغينيا وغانا والكاميرون وأوغندا وكينيا وغينيا بيساو، وتعتمد كوريا الجنوبية في تسويقها لهذه المبادرة على امتلاك سول إرثا من الخبرة الزراعية، حيث كان الاقتصاد الكوري حتى ستينيات القرن الماضي معتمدا على القطاع الزراعي.
ووفقا للأستاذ في جامعة كوريا الوطنية بارك كوانج هو، فإن بلاده تمتلك تقنيات زراعية فريدة قادرة على إحداث تغيير جذري في الدول المتلقية، ولا سيما فيما يتعلق بالأمن الغذائي.
ويهدف حزام الأرز إلى التوسع التدريجي في إنتاج بذور الأرز لتحقيق عائد سنوي قدره 10 آلاف طن بحلول عام 2027 لتوزيعها على المزارع المحلية، وبالتالي توفير إمدادات غذائية مستقرة لحوالي 30 مليون شخص في أفريقيا.
ووفقاً لأرقام صادرة في مارس/آذار 2024، فقد تم حصاد أكثر من 231 طنا من بذور الأرز في غينيا وأوغندا وغانا وغامبيا والكاميرون والسنغال.
وتذهب بعض التحليلات إلى أن لهذه المبادرة أبعادا تتجاوز الأمن الغذائي، إذ تمثل مدخلا لتسهيل الشراكات الاقتصادية بين كوريا والدول الأفريقية، وتعزيز الروابط التجارية في مجالات كإدارة سلسلة التوريد، والاستجابة لتغير المناخ، والرعاية الصحية.
ولذا فإن نجاح المبادرة في تحقيق أهدافها سيمثل حافزا للشركات المرتبطة بالزراعة في كوريا لدخول السوق الأفريقية، كما أنه سيعزز من قوة سول الناعمة ونفوذها السياسي في القارة.
تأمين إمدادات المعادن
يعد تطوير التبادل الاقتصادي مع أفريقيا من القطاعات التي تضعها سول نصب عينيها، حيث تمثل التجارة مع الدول الأفريقية حالياً أقل من 2% من إجمالي واردات وصادرات كوريا الجنوبية، وقد تعهد الرئيس الكوري الجنوبي في القمة الأفريقية الكورية بتخصيص 14 مليار دولار لتشجيع الشركات الكورية على تصدير منتجاتها إلى الأسواق الأفريقية.
ومع احتوائها على نحو 30% من الموارد المعدنية، تزداد القيمة الاستراتيجية للقارة السمراء بالنسبة لسول التي تعتمد على الاستيراد في توفير أكثر من 95% من احتياجاتها من المعادن الخام، وهو ما يعززه احتياطيات القارة من المعادن الضرورية لإنتاج البطاريات القابلة لإعادة الشحن وغيرها من التقنيات المتقدمة المرتبطة بالطاقة النظيفة وغيرها كالكروم والمنغنيز والكوبالت.
وفي هذا السياق، تمثلت إحدى مخرجات القمة الكورية الأفريقية في الاتفاق على إطلاق حوار رفيع المستوى بين كوريا الجنوبية وأفريقيا، يناقش من خلاله تأمين إمدادات المعادن من دول القارة الغنية بها، كما سيتم أيضا تقرير الكيفية التي يمكن من خلالها للشركات الكورية الاستثمار في قطاعات استخراج المعادن.
سباق سياسي مع كوريا الشمالية
يمثل التعاون والتنسيق الدبلوماسي أحد أهم أهداف كوريا الجنوبية من تطوير علاقاتها مع القارة الأفريقية، حيث أورد موقع كوريا تايمز نقلا عن النائب الأول لمدير الأمن القومي كيم تاي هيو، أن الشراكة مع أفريقيا “ليست خيارا، بل ضرورة”.
ويعزو هيو ذلك إلى أن القارة السمراء تتمتع بنفوذ كبير في الأمم المتحدة بحصولها على 54 صوتا، وهو أكثر من أي قارة أخرى، كما أن قرابة 40% من بنود جدول أعمال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تتعلق بأفريقيا، ولذا فإن التعاون معها ضروري لكوريا التي “تهدف إلى أن تصبح دولة محورية عالمية”.
وهناك بعد آخر للرؤية السياسية لسول يتمثل في علاقاتها المتوترة بكوريا الشمالية، حيث تطمح سول إلى الحصول على دعم الدول الأفريقية في القرارات المتعلقة بجارتها الشمالية في الأمم المتحدة، بما يفضي إلى ممارسة ضغوط أكثر فعالية عليها.
في حين يرى مراقبون أن تواصل كوريا الجنوبية مع أفريقيا يأتي لمواجهة بيونغ يانغ التي أصبحت أنشط في محاولة الخروج من عزلتها الدبلوماسية وبناء التعاون مع الدول التي تواجه الولايات المتحدة، بجانب تمتعها بعلاقات طويلة الأمد مع دول كأوغندا وزيمبابوي وموزمبيق.
واتهم خبراء الأمم المتحدة لسنوات كوريا الشمالية بجمع إيرادات غير مشروعة من أفريقيا، من خلال مشاريع البنية التحتية ومبيعات الأسلحة وغيرها من الأنشطة.
التقدم الكوري في سياق جيوسياسي عالمي
لا يمكن فصل الخطوات الكورية الجنوبية لتعزيز نفوذها في أفريقيا عن سياق عالمي يشهد تنافسا محموما تعد القارة السمراء إحدى ساحاته الساخنة، وهو ما يولّد ردود أفعال متنوعة باختلاف مواقع هذه القوى من هذا الصراع.
ورغم أن المبادرة الكورية مدفوعة بعوامل مرتبطة بنظرة سول لدورها على الصعيد العالمي، فإن الولايات المتحدة تبدو أهم المرحبين بهذا النشاط.
ويرى رئيس التحرير السابق لمجلة الدراسات الدولية الصادرة عن جامعة واشنطن فيليب مينغ، أن تسريع سول مبادرات التجارة والاستثمار والتنمية مع أفريقيا سيوسع حجم التجارة بشكل كبير، ويوفر للاقتصادات الأفريقية مصدرا بديلا للتمويل عن الصين.
وهي أنباء طيبة في واشنطن، التي لطالما شجعت حلفاءها الآسيويين على تبني سياسات خارجية أكثر استباقية، لموازنة قوة الصين المتنامية في العالم النامي.
ويعتقد مراقبون أنه بالنظر إلى موقف بكين المرتاب من المبادرات الأميركية الكورية الجنوبية المشتركة، فإن الصين ستنظر إلى مشاركة كوريا الجنوبية المتزايدة في أفريقيا كجزء من إستراتيجية أوسع تتماشى مع المصالح الأميركية، ويمكن أن تتصدى للنفوذ الصيني في القارة.