بايدن وترامب وهاريس.. صورة أميركا ومأزقها الديمقراطي
خرج الرئيس الأميركي والمرشح الديمقراطي جو بايدن من السباق الرئاسي، بعد أن أحوجته سنواته الـ80 إلى ترجمان يقرب إليه الهتاف المتصاعد والغضب المتراكم من نشطاء حزبه المطالبين بتنحيه عن سباق رئاسي هو آخر ما يمكن له أن يسابق فيه، بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيبا، ووهت القوى الذهنية كما يقول أنصار حزبه، الساعون إلى قطع الطريق أمام عودة خصمه الجمهوري دونالد ترامب.
يشترك الرجلان في أمور كثيرة، ومنها التقدم في السن، فبايدن ابن الـ82 أكبر فقط بنحو 4 سنوات من خصمه ومنافسه ترامب ابن الـ78 عاما، وهما الأكبر سنا عند استلام السلطة بين الرؤساء الـ46 الذين حكموا الولايات المتحدة منذ 1789 إلى اليوم.
استلم بايدن السلطة وهو في الـ78 من عمره، وبدا جليا أن هموم السلطة قد أوهت ساعده، وأضعفت قدراته الذهنية، وأوهنت كاهله الذي لم يتمكن من النهوض من كبوات متعددة، إما على سلم طائرة أو في طريق سهل يفترض أن لا تخون الرئيس فيه قدماه.
أما كبواته السياسية فأكثر من أن تحصى حتى صار خصومه يعتقدون أنه يعاني خرفا شديدا، لا يمكن لصاحبه أن يدير يوميات حياته، فضلا عن أن يدير شأن أكبر دول العالم، وأكثرها تدخلا في حياة العالم.
أما ترامب المشرف على سقف الـ80 عاما والمتشوف إلى رئاسة ثانية، فقد نال الرئاسة في سنة 2017 وهو في الـ70 من عمره قادما من تاريخ طويل من الإثارة، وأدار 4 سنوات أكثر إثارة وصعوبة وانكفاء للولايات المتحدة على نفسها.
من يجدد “شباب” الولايات المتحدة؟
بين العجوزين دار السجال الانتخابي والسياسي طيلة السنوات المنصرمة، وفي دائرة الضوء كان ترامب دائما بين منابر السياسة ومخافر السلطة، وبدا في نهاية ولايته السابقة كأي زعيم أفريقي غير مؤمن بالتداول السلمي، حين وقف ترامب بقوة في وجه فوز بايدن معتبرا أن انتخابات 2021 كانت عرضة لتدخل خارجي وتأثير سلبي على الناخبين، وأن “الخرِف” بايدن لم ينجح بأصوات الشعب الأميركي.
وإلى جانب السياسة كانت المحاكم محطة أخرى لترامب طوال السنوات الأربع الماضية، فأدين في بعض التهم وفك عنه وثاق الاتهام في بعضها، وخلال ذلك تمكن من الصعود مجددا إلى التلة، باعتباره الوجه الأكثر تعبيرا عن الانقسام الشديد في القيم والأفكار داخل الشعب ودوائر القرار في الولايات المتحدة الأميركية.
لا ينتمي الرجلان إلى جيل الشباب، ولا يتقاسمان رؤية موحدة تجاه مواقف وحضور الولايات المتحدة خارجيا ولا تجاه المهاجرين الذين يطرقون أبواب الولايات المتحدة كل يوم وساعة بحثا عن “الفردوس” الموعود.
الصورة الموغلة في الماضي
ومع نهاية الشهر الماضي وانعقاد أول مناظرة بين المرشحين بايدن وترامب، بدا أن أميركا وهي ترسم واقعها وتبحث مستقبلها كأنما تقدم نفسها للعالم بصورة موغلة في ماضيها عبر رجلين مسنين، أحدهما مدان في قضايا جنسية وملاحق بعشرات التهم الأخرى، والثاني يعاني وسط تراجع كبير في قدراته الإدراكية.
ورغم ما حملته صورة المرشحين (بايدن وترامب) من دلالات عن حالة السياسة في الولايات المتحدة، فقد أوحت لكثيرين -بالإضافة إلى ذلك- بشيخوخة تطرق أبواب الإمبراطورية التي تتربع على عرش العالم اليوم.
بعد نهاية المناظرة كانت السعادة تغمر أنصار ترامب، بينما كان الأداء الضعيف للرئيس بايدن بمثابة مسمار في نعش طموحه لولاية ثانية، ودبت بعيدها حالة من الذعر في أوساط الديمقراطيين وكأن المناظرة كشفت للرأي العام سرا لم يكن مطلعا عليه من قبل.
بدأت معاناة بايدن في المناظرة بعد 12 دقيقة فقط من بدئها، حيث “فقد ترتيب أفكاره، وتعثر ثم توقف مؤقتا وحدّق في الأرض، قبل أن يرفع رأسه، حيث بدا كأنه استعاد فكره، لكنه بدلا من ذلك، صرخ بعبارة لا معنى لها قائلا: “لقد تغلبنا أخيرا على الرعاية الطبية!”.
بايدن يستسلم وينسحب
لم يمهل الديمقراطيون رئيسهم كثيرا بعد أدائه الضعيف في المناظرة، فبدأت تنهال عليه الدعوات والمطالبات بالانسحاب من السباق.
وخلال الأيام الماضية، تصاعدت هذه الدعوات لتشمل عشرات المشرعين الديمقراطيين، وعددا من كبار الساسة في الحزب الديمقراطي، وجمعا من الصحفيين وكتاب أعمدة الرأي.
وقال الكاتب الصحفي الشهير توماس فريدمان إنه بكى بعدما شاهد المناظرة الرئاسية بين جو بايدن ودونالد ترامب، ودعا الرئيس الأميركي الحالي إلى “حفظ كرامته” ومغادرة المسرح السياسي بعد انتهاء ولايته الحالية.
وأضاف فريدمان في مقاله بنيويورك تايمز أنه لا يتذكر لحظة أكثر حزنا في سياسات الحملة الرئاسية الأميركية من تلك المناظرة، مبرزا أن بايدن رجل ورئيس صالح، لكن ليس من حقه الترشح للرئاسة مرة أخرى.
في المقابل، وصف فريدمان ترامب بأنه “رجل خبيث ورئيس تافه، لم يتعلم شيئا ولم ينس شيئا”، وقال إنه “آلة أكاذيب”، وإنه مهووس بمظالمه، ولا علاقة له بما تحتاجه الولايات المتحدة في القرن الـ21.
وذكر فريدمان أن قادة الحزب الجمهوري لو كانوا يتمتعون بذرة من النزاهة لقاموا بالشيء نفسه مع ترامب، لكنهم لن يفعلوا.
ظل بايدن يقاوم الضغوط، ويرفض الانسحاب، ويدافع عن حقه في الترشح باعتباره الأكثر قدرة على هزيمة ترامب كما فعل في العام 2020.
وفي إعلان بدا مفاجئا في توقيته وإن كان متوقعا في سياقه، نشر بايدن بيانا على صفحته على موقع إكس، يعلن فيه انسحابه من السباق الرئاسي، كما أعلن لاحقا دعمه لترشيح نائبته كامالا هاريس لخوض السباق بديلا عنه.
ورغم التداعيات المنتظرة، فقد مثل انسحاب بايدن من السباق لحظة تاريخية فارقة في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، وذكر الأميركيين بالسيناريو الذي حدث في انتخابات 1968 عندما قرر الرئيس ليندون جونسون عدم خوض السباق اعترافا بشعبيته المتلاشية بسبب المعارضة الشعبية للحرب في فيتنام.
فرص اللحظة ومآزقها
لا شك أن انسحاب بايدن من السباق سيمنح الحزب الديمقراطي فرصة كبيرة في إعادة الحيوية لحملته الانتخابية التي تراجعت في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد المناظرة بين بايدن وترامب.
بيد أن هاريس المحامية والسياسية الأميركية من أصل أفريقي وآسيوي، والتي عادة ما توصف بأنها النسخة النسائية من الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، قد تعاني في سبيل تحقيق إجماع داخل حزبها على ترشيحها لمواجهة ترامب في السباق المنتظر.
ويعتبر بعض الديمقراطيين أن أداءها كان ضعيفا بل ومخيبا للآمال خلال نيابتها للرئيس، كما يتخوف البعض من تأثير التاريخ الحافل بالتمييز العنصري والجنسي (النوع) في نظرة الأميركيين إليها.
ويشير هؤلاء إلى أنه وعلى مدار تاريخ الديمقراطية في بلادهم الذي يعود لأكثر من قرنين، لم ينتخب الأميركيون سوى رئيس أسود واحد فقط (باراك أوباما)، ولم ينتخبوا امرأة ذات بشرة سوداء قط، وهو ما يجعل حتى بعض الناخبين السود يتساءلون عما إذا كانت هاريس قادرة على تجاوز أصعب سقف في السياسة الأميركية.
وعلى الضفة الأخرى، يمثل انسحاب بايدن مكسبا ومأزقا أيضا لمرشحه المنافس دونالد ترامب. صحيح أن ترامب سارع إلى التأكيد على أن هزيمة هاريس ستكون أسهل عليه من هزيمة بايدن، ولكن الواقع أنه سيفقد أهم ورقة بنى عليها حملته الانتخابية وهي عدم أهلية منافسه (بايدن) وضعف قدراته الإدراكية.
وفي المقابل، تملك هاريس بعض نقاط التفوق على ترامب، من بينها أنها أصغر سنا من ترامب بنحو 20 عاما، وتتعادل معه في أحدث استطلاعات الرأي بحصول كل منهما على تأييد 44% من الناخبين، في حين تقدم ترامب على بايدن بواقع 43% مقابل 41% في الاستطلاع نفسه.
ورغم أن الحزب الديمقراطي لم يحسم حتى الآن بشأن مرشحه لخلافة بايدن، فإن ترشيح هاريس بات مرجحا بحكم دعمها من بايدن، ومحدودية الفترة الزمنية المتبقية على الانتخابات، كما أن وجودها في دائرة القرار والأضواء منذ سنوات يجعل فرصها داخل حزبها الديمقراطي أكثر من غيرها من الخيارات الأخرى.
وسيكون على الحزب الديمقراطي الذي عانى كثيرا من إصرار بايدن على البقاء في مضمار لا تمكنه قدماه ولا خطاه السياسية من السير فيه، أن يحسم خياره بسرعة حتى يتجنب مزيدا من المعاناة في اختيار من يخلف العجوز الديمقراطي في مواجهة العجوز الجمهوري.
وبين العجوزين المتنافسين لا يخفي الأميركيون قلقهم من أن تكون بلادهم دخلت بالفعل مرحلة التقاعد الدولي، وخصوصا إذا ما فاز ترامب الذي يولي المطالبين باستعادة وتطوير الدور العالمي للولايات المتحدة الصماءَ من أذنيه.