القاتل الثقيل.. لماذا تتشبث إسرائيل بصفقة القنابل الغبية؟
شهدت مدينة أتلانتا الأميركية في 27 يونيو/حزيران الماضي مناظرة حامية بين الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب، الذي نال مؤخرا بطاقة الترشيح الرسمية عن الحزب الجمهوري، قبل انسحاب جو بايدن من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة التي ستجري في نوفمبر/تشرين الأول المقبل. وقد اتسمت تلك المواجهة بالسجال وتبادل الاتهامات بين المرشحين، كما ركّزت على قضايا عدة، أبرزها إدارة الاقتصاد وملف المهاجرين إضافة إلى حرب أوكرانيا.
وقد حاز ملف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة نصيبا وافرا من اهتمام كلا المتناظرين، اللذين تنافسا في إظهار الدعم الكامل لدولة الاحتلال في عدوانها على القطاع، حيث تهرّب ترامب من الجواب حين سُئل عن موقفه من الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، زاعما أن هجمات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم تكن لتحدث لو كان في السلطة. من جانبه وصف بايدن إدارته بأنها “أكبر داعم لتل أبيب”، رافضا اتهامات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن واشنطن لم تدعم دولته بالقدر الكافي. وأكد بايدن أن الأسلحة الوحيدة التي رفضت إدارته إرسالها إلى تل أبيب هي القنابل الثقيلة التي لا ينبغي استخدامها في مناطق مأهولة بالسكان مثل قطاع غزة.
القاتل الثقيل
في وقت سابق، علّقت الولايات المتحدة إرسال شحنة من القنابل الثقيلة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في مايو/أيار الماضي، بعدما فشلت الأخيرة في “معالجة” مخاوف واشنطن بشأن خططها لاجتياح رفح جنوبي قطاع غزة، حيث أشار وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ في الشهر نفسه، إلى أن منطقة مكتظة بالسكان مثل رفح تتطلب أسلحة أقل قوة وأكثر دقة، نظرا لأن متوسط كثافة سكانها يبلغ 20 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، وأضاف أوستن أن الولايات المتحدة أوقفت شحن هذه القنابل بسبب وجود نية إسرائيلية لشنّ هجوم على رفح من دون خطة مناسبة لحماية مليون مدني لجؤوا إلى هناك.
تتكون الشحنة المعلقة من 3500 قنبلة جو-أرض ثقيلة من طراز “مارك 80” (MK-80)، وهي قنابل متعددة الأغراض يمكن إسقاطها من الطائرات. ووفقا لمكتب إدارة الذخيرة في الجيش الأميركي، فإن الأهداف المثالية لمثل هذه القنابل المدمرة تشمل المباني والسكك الحديدية وخطوط الاتصالات، ويمكن استخدامها في سائر العمليات التي تتطلب أقصى قدر من الطاقة التفجيرية.
تضم سلسلة قنابل “مارك 80” 4 أنواع من القنابل المتعددة الأوزان (بين 250 و2000 رطل)، أما الشحنة المذكورة فهي تقتصر على نوعين من هذه القنابل: 1800 قنبلة من طراز “مارك 84” تزن الواحدة منها 2000 رطل (907 كيلوغرامات)، وهي بذلك تعد الأثقل بين سلسلة قنابل “مارك”، و1700 قنبلة من فئة “مارك 82” التي تزن الواحدة منها 500 رطل (227 كيلوغراما).
جدير بالذكر أن الإدارة الأميركية قررت في أعقاب المناظرة الإفراج عن قنابل “مارك 82” وإرسالها إلى دولة الاحتلال في غضون أسبوعين، ولا يزال قرار التعليق ساريا على قنابل “مارك 84” حتى وقت كتابة هذا التقرير. ورغم أن قنابل “مارك 84” أكبر حجما وتسبب أضرارا أكثر مقارنة بـ”مارك 82″، فإنه لا يمكن التهوين من التأثير المدمر للأخيرة. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة أمدت الاحتلال بكلا النوعين على مدار 7 أشهر منذ بدء العدوان على غزة ولم تتخذ قرار التعليق إلا في مايو/أيار الماضي، في خطوة سياسية هدفت في المقام الأول لتهدئة معارضي الحرب في الداخل الأميركي، ولا سيما في الجامعات.
إبادة بلا تمييز
تصنف جميع أنواع “مارك 80” بأنها “قنابل غبية”، وهو مصطلح يُطلق على القنابل غير الموجهة التي تعتمد على السقوط الحر بفعل الجاذبية الأرضية، بدون محركات توجيه. وغالبا ما تتمتع هذه القنابل بقدرات تدميرية عالية بسبب احتوائها على حمولة ثقيلة من المتفجرات، فمثلًا تحتوي قنابل “مارك 84” على أكثر من 400 كيلوغرام من مادة تريتونال الشديدة الانفجار، وهو ما يناهز نصف وزن القنبلة تقريبا. والتريتونال هو خليط من مادتي “تي إن تي” ومسحوق الألمنيوم بنسبة 4 إلى 1، ويعمل مسحوق الألمنيوم على زيادة كمية الحرارة المنطلقة والحجم التفجيري؛ مما يجعل التريتونال أشد تدميرا من مادة “تي إن تي” بمفردها.
وكما يظهر من اسمها، تفتقر “القنابل الغبية” للدقة في التوجيه، وهي مصممة أصلًا لإحداث دمار هائل النطاق من دون تمييز دقيق أو لتدمير أهداف واسعة في بيئة مكشوفة؛ لذلك يفترض ألا تستخدم في المناطق السكانية بسبب أضرارها الهائلة على المدنيين. فمثلًا بإمكان قنابل “مارك 84” إحداث دمار هائل في دائرة نصف قطرها 400 متر. وهناك أكثر من طريقة يمكن لهذه القنابل أن تفتك من خلالها بالبشر، بداية من غلافها الذي يتحطم عند الانفجار إلى شظايا حادة قادرة على تمزيق أجساد الناس والمركبات غير المدرعة على حد سواء، كما أن الضغط الناتج عن انفجار هذه النوعية من الأسلحة قادر على تمزيق الرئتين وتفجير تجاويف الجيوب الأنفية وقطع الأطراف على بعد مئات الأمتار من موقع الانفجار، هذا ولم نذكر بعدُ الكم الهائل من الضحايا بسبب تحطم المباني فوق رؤوس ساكنيها.
ونتيجة لذلك، فإن استخدام مثل هذه القنابل في المناطق المكتظة بالسكان يعد انتهاكا للقانون الدولي الإنساني نظرا لأنها تنتهك بوضوح مبدأ التناسب، الذي يوجب أن تكون الخسائر المدنية متناسبة مع تحقيق هدف عسكري محدد. وإذا فشلت القوة المعتدية في إثبات أن أعداد الضحايا المدنيين كانت متناسبة و”غير مفرطة بشكل واضح” مقارنة بأي ميزة عسكرية مباشرة، فإن الهجوم يعتبر جريمة حرب وفقا لقواعد المحكمة الجنائية الدولية.
وبحسب تقييم استخباري أميركي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن قرابة 50% من ذخائر جو-أرض التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كانت غير موجهة؛ مما تسبب في ارتفاع أعداد القتلى المدنيين، وهو ما ينفي ادعاء إسرائيل حول قصفها أهدافا عسكرية، ويعد دليلا على تعمدها إلحاق الأذى بالمدنيين، خاصة إذا علمنا أن الاحتلال يمتلك ذخائر موجهة متطورة تصل دقتها إلى 3 أمتار، لكنه يفضل استخدام الذخائر غير الموجهة رغم هامش الخطأ الواسع الذي تنجم عنه زيادة هائلة في أعداد القتلى.
تمتلك قنابل “مارك 80” على وجه الخصوص سجلا هائلا من انعدام التمييز والافتقار إلى الدقة، حيث تشير البيانات إلى أن أغلب القنابل من هذا النوع التي ألقيت فوق فيتنام وكمبوديا من قبل الجيش الأميركي بين عامي 1965 و1973، هبطت على مسافة 400 قدم من هدفها في أفضل الأحوال، سواء نتيجة خطأ من الطيار أو بسبب الرياح التي دفعتها بعد إسقاطها؛ مما أدى إلى مقتل أعداد كبيرة من المدنيين، فضلا عن أعداد من الجنود الأميركيين.
وفي واقعة بعينها، فشل الرادار في تحديد المكان الصحيح لإسقاط القنابل خلال موجة طقس سيّئ؛ مما تسبب في سقوط 34 قنبلة من طراز “مارك 82” خطأً فوق قاعدة جوية أميركية في مدينة “دا نانغ” الفيتنامية؛ وهو ما دفع شركة “تكساس إنسترومنتس” إلى تطوير مجموعة من الملحقات عُرفت باسم بافواي (Paveway) في ستينيات القرن الماضي، وكان الغرض منها السماح بتوجيه القنبلة ذاتيا من خلال أشعة ليزر تسلطها الطائرات الحربية، بهدف تقليص مسافة الخطأ إلى نحو 10 أقدام. ومع ذلك لم تشكّل القنابل المجهزة بنظام بافواي إلا جزءا ضئيلا من الترسانة الأميركية من القنابل أثناء حرب فيتنام، نظرا لتكلفتها العالية.
المحاولة الأخيرة في سياق تحسين نمط التوجيه في قنابل “مارك” جاءت بإضافة محلق آخر يُعرف بـ”ذخيرة الهجوم المباشر المشترك” (jDAMs). الملحق عبارة عن مجموعة توجيه تعمل عبر نظام تحديد المواقع العالمي “جي بي إس”، ويتم تركيبها في ذيل القنابل ذات السقوط الحر لتحوّلها إلى ذخائر ذكية أكثر دقة، إلا أن هذه الفئة لا تزال ذات تكلفة مرتفعة وإن كانت أقل من مثيلاتها الموجهة عن طريق نظام “بافواي”.
بشكل عام، تنخفض تكلفة قنابل “مارك” بشكل كبير مقارنة بمثيلتها الموجهة، حيث تتراوح تكلفة الأولى بين 3 و16 ألف دولار في حين تصل تكلفة أنواع من الذخيرة الموجهة إلى نحو 250 ألف دولار. وعلى صعيد مزاياها الأخرى، فإن أغلفتها مصممة أسطوانيا بما يمنحها انسيابية حركية في الهواء، كما أنها مؤهلة لاستقبال زعانف مخروطية في الذيل؛ مما يزيد من استقرارها بعد الإطلاق، وهي تستخدم فتيل اتصال للتفجير عند الاصطدام أو بعده بكسر ضئيل من الثانية إذا كان تأثير الاختراق مطلوبا، كما في حالة استخدامها من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يوظفها أحيانا في تفجير المناطق التي يعتقد أن ثمة أنفاقا أسفلها، نظرا لأن القنبلة تتسبب في حفرة بعمق يصل إلى 11 مترا، وقطر يصل إلى 15 مترا.
حلفاء الدمار
يكثف الاحتلال الإسرائيلي إذن ضغوطه على الإدارة الأميركية من أجل استمرار توريد الذخائر الثقيلة، وهو يستخدم في ذلك حجة رئيسية قادمة من العوالم السياسية المظلمة، مفادها أن الولايات المتحدة سبق أن استخدمت هذه القنابل في مناطق فيها كثافة سكانية؛ لذا فإنه لا يوجد ما يمنع من أن تفعل إسرائيل الأمر نفسه. ومن ذلك ما نشرته مجلة “كومنتاري” الصادرة عن اللجنة اليهودية الأميركية التي أشارت في تقرير لها إلى أن الولايات المتحدة سبق أن استخدمت قنابل “مارك 84” في بيئات حضرية كثيفة أثناء حرب العراق، وذكر التقرير أن القوات الجوية الأميركية أسقطت قنبلتين من الطراز ذاته عام 2016 في منطقة سكنية داخل الموصل، بغرض تدمير قبو يحتوي على مخزون ضخم من النقود امتلكه تنظيم الدولة الإسلامية آنذاك.
يذكر أن الولايات المتحدة أسقطت أكثر من 12,000 قنبلة “مارك 84” على العراق خلال عملية عاصفة الصحراء عام 1991 ضد مجموعة واسعة من الأهداف، بما في ذلك المدفعية والشاحنات والمخابئ ومواقع صواريخ أرض-جو، إضافة إلى مواقع المدفعية المضادة للطائرات ورادارات الإنذار المبكر ونقاط الإمداد. أما في حرب فيتنام فألقت أميركا عددا من قنابل “مارك 82” يفوق كافة أنواع الأسلحة الأخرى مجتمعة، واستخدمت قنابل “مارك 84” في تدمير المباني الكبيرة والبنية الأساسية والجسور.
وفيما يبدو، تستجيب واشنطن تدريجيا للضغوط الإسرائيلية، وهي تحاول تمهيد الطريق لاستئناف توريد القنابل الثقيلة. ويقول مسؤولون أميركيون إن واشنطن “تعتقد” أن الجيش الإسرائيلي يُسقط قنابل “مارك” باستخدام تكنيك يُسمّى “القصف الغطسي”، وهو تكنيك يتم خلاله إسقاط القنبلة أثناء غوص الطائرة بشكل حاد نحو الهدف، وهو ما يزيد من دقة القنابل لأنه يقربها من الهدف. وتستفيد هذه العملية من وجود كيس هوائي في ذيل القنبلة مصنوع من نسيج النايلون المقوى، يعمل على إبطاء سرعة القنبلة عند إطلاقها من ارتفاع منخفض؛ مما يمنح المقاتلة فرصة الهرب بعيدا عن مدى الانفجار.
لا يمكن التأكد بشكل جازم من دقة هذه المزاعم الأميركية، لكن الأعداد الهائلة من القتلى المدنيين في غزة تلقي بظلال كثيفة من الشكوك حولها. يعضد هذه الشكوك التحليل الذي أجراه مركز خدمات أبحاث التسليح بتكليف من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والذي يشير إلى أن محاولات تحسين مسار هذه القنابل وإكسابها دقة أكبر، لا يمكنها أن تخفف من احتمالات إلحاق الضرر بالمدنيين، وأن المنطقة التي سوف تسقط فيها هذه القنابل، سوف تكون أكبر دائما من مساحة نظيراتها المستهدفة بأسلحة ذكية أو موجهة.
أضف إلى ذلك ما خلص إليه تقرير الأمم المتحدة الصادر في يونيو/حزيران الماضي، من أن الاحتلال قام بسلسلة من الضربات الجوية العشوائية وغير المتناسبة فيما بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2023، واستخدم في هجماته قنابل ثقيلة تراوحت أوزانها بين 250 و2000 رطل، وتركزت ضرباته على مبان سكنية ومخيمات للاجئين ومدرسة وسوق؛ مما أدى إلى مقتل 218 شخصا على الأقل في 6 ضربات فقط.
يشير التقرير إلى أن جيش الاحتلال انتهك مرارًا وتكرارًا المبادئ الأساسية لقوانين الحرب. كما يربط بين فشل الاحتلال في تمييز المدنيين من المقاتلين أثناء هجماته، وبين وسائله واختياراته لإدارة أعماله العدائية في غزة، بما في ذلك الاستخدام المكثف للأسلحة المتفجرة ذات التأثيرات الواسعة النطاق في المناطق المأهولة بالسكان.
إضافة إلى ذلك، يرصد التقرير مقولة للمتحدث باسم جيش الاحتلال أفصح خلالها عن اختيار قواته لأسلحة تسبب “أقصى قدر من الضرر في غزة”، وهو ما يتفق مع نظرة وزير دفاع الاحتلال إلى الفلسطينيين الذين وصفهم بألفاظ تسعى لنزع الإنسانية عن أهل غزة. تفسر هذه الحقائق والتصريحات مجتمعة سرّ إصرار الاحتلال على الحصول على هذه القنابل “الغبية”، وهو أن الدمار الشامل والقتل الواسع النطاق هما هدف هذه الحرب في المقام الأول. هذه ببساطة حرب إبادة وتدمير شامل، وليست عملية عسكرية ذات أهداف محددة؛ لذا فإن الأسلحة المستخدمة فيها مختارة بعناية لإلحاق أكبر قدر ممكن من القتل والدمار.