يبدو الصيف على ضفتي نهر الدانوب أكثر سخونة في عام 2024، فمع استلام دولة المجر الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، في ذروة الحرب الروسية في أوكرانيا والجدل المستمر بشأن المعايير الأوروبية وسيادة القانون، بدأت الملامح الأولى للعبة شد الحبل بين الحكومة اليمينية في بودابست ومؤسسات الاتحاد في بروكسل بالظهور على السطح.
وبمجرد تسلم المجر الرئاسة الدورية طرأ مبكرا ما يشبه تنازع اختصاص بين رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، مع طرح أوربان لوساطة بين روسيا وأوكرانيا وزيارته إلى موسكو وبكين ومقابلته المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب، مما تسبب في ردود فعل فورية من بروكسل والعواصم الأوروبية.
وفي حين تتركز مهمة الرئاسة الدورية للاتحاد على تنسيق العمل التشريعي الذي لا يسمح بالتحدث نيابة عن الأوروبيين على الساحة الدولية، يتهم أوربان بسوء استخدام هذا المنصب عبر جولاته الدبلوماسية، في انتهاك لسياسة عزل روسيا، والتي لم يتم تنسيقها مسبقا مع الزعماء الأوروبيين الآخرين.
ويتمسك زعماء دول التكتل بأن أي آراء يطرحها أوربان هي وجهات نظره الخاصة ولا تعبر عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي التي يمثلها في نظرهم بوريل ويختص بها من الناحية القانونية.
ويشير حسين الوائلي المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الأوروبية في بروكسل، في تعليقه على هذا الجدل للجزيرة نت، إلى أنه من المتوقع أن تسود الخلافات ليس فقط فيما يتعلق بالسياسات المتباينة بين الجانبين، ولكن أيضا فيما يرتبط بإجراءات سير المؤسسات، ومن بينها الاجتماعات التي يفترض أن تكون في البلد الذي يقود الرئاسة الدورية.
إرباك وانقسامات
ومن الواضح أن مظاهر الانقسامات الأولى داخل الاتحاد لم تتأخر، مع إعلان الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي مقاطعة اجتماع لوزراء الخارجية في العاصمة المجرية في نهاية أغسطس/آب ونقله بدلا من ذلك إلى بروكسل، وقد يمتد هذا الإجراء إلى اجتماعات أخرى لاحقا.
وتعد خطوة بروكسل غير مسبوقة، وهي تتعارض من حيث المبدأ مع مواقف دول مثل إسبانيا ولوكسمبورغ وألمانيا، ولكنها تعد مؤشرا على اتساع الغضب الأوروبي من الانفتاح في العلاقات بين بودابست وموسكو فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا ووصف الحكومة المجرية لسياسة الاتحاد بأنها “مؤيدة للحرب”.
وأدت علامات الانقسام الأولى إلى إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الامتناع عن القيام بالزيارة الافتتاحية التقليدية إلى المجر للترحيب بالرئاسة المجرية، وهي ضربة رمزية لبودابست.
ومن جهتها، عبرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في اجتماع مع نظيرها الهولندي كاسبار فيلدكامب في برلين عن قلقها من أن “الأوقات الحالية خطيرة للغاية ولا تحتمل ألعابا صغيرة”، داعية إلى الإبقاء على الاتحاد الأوروبي “متحدا وحازما” في مواجهة حالة الإرباك التي تسبب فيها أوربان.
وليس هناك مؤشرات على أن الاستفزازت المتبادلة ستقف عند هذا الحد، إذ تنوي المجر فيما يبدو الاستمرار في نهجها الدبلوماسي دون اكتراث بردود فعل الجبهة المعارضة لها، إذ أكد وزير الخارجية بيتر سيارتو أن تهديدات الاتحاد الأوروبي بمقاطعة المجر وعدم التفاوض معها لن تثني بودابست عن مواصلة مهمتها للسلام لحل الصراع الأوكراني.
في حين كشف مستشار لرئيس الوزراء في هذا السياق أن أوربان طرح بالفعل على زعماء الاتحاد الأوروبي خطة لحل الصراع بناء على تقييم واقعي للوضع وأهداف ومواعيد نهائية واقعية.
وبالإضافة إلى ذلك، يقترح أوربان ضمن خططه لـ”مؤتمر سلام” إعادة فتح خطوط اتصال دبلوماسي مباشرة مع روسيا بموازاة الاتصالات مع كييف، وإجراء محادثات مع الصين.
وقال الوائلي في تحليله للجزيرة نت “صحيح أن زيارات أوربان الدبلوماسية تثير على مستوى رسمي داخل المؤسسات الرئيسية معارضة، ولكن دولا أخرى لا تمانع في عملية “جس النبض” لمسار السلام التي تقوم بها المجر كونها عضوة في الاتحاد، ويمكن أن يكون في تقديرها الوسيط الأقرب والأكثر نزاهة مقارنة بوسطاء في الخارج مثل الصينيين أو الأتراك”.
فاتورة الحرب في أوكرانيا
ولا يقتصر الخلاف المبدئي بين المجر والجبهة الداعمة لأوكرانيا على السياسة الخارجية والأداء الدبلوماسي، فالهواجس الأوروبية تشمل أيضا مصير الدعم المالي والعسكري الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا والبالغ أكثر من 50 مليار يورو للفترة الممتدة بين 2024 و2027.
وفي حين شددت 20 دولة في الاتحاد الأوروبي، من بينها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبولندا واليونان ودول البلطيق بشكل خاص، على الأولوية الثابتة لدعم أوكرانيا في ظل الرئاسة الدورية للمجر، عرض وزير المال المجري ميهالي فارغا 7 أولويات لبلاده؛ من بينها التنافسية والديمغرافيا وتعزيز القدرات الدفاعية والعمل ضد الهجرة غير النظامية، دون أن يأتي على ذكر أوكرانيا، مما أحدث حالة من التوتر المبكر.
وفي الواقع لا يتعارض هذا السلوك مع المواقف التقليدية لرئيس الوزراء، إذ لطالما انتقد أوربان الدعم العسكري الأوروبي لأوكرانيا على خلاف معظم الحلفاء الذين يدعمون جهود كييف الحربية.
وأوضح الوائلي “لا يجب التغافل عن أن هناك دولا داخل التكتل تريد فعلا أن تطوي صفحة الحرب في أوكرانيا، لكنها لا تملك جبهة قوية مثل إيطاليا واليونان والبرتغال وحتى عدة أحزاب في بعض الدول، وهذا عمليا يخدم الموقف المجري الآن”.
ويعتمد رئيس الوزراء المجري في تعزيز موقفه على جبهة لا يستهان بها في البرلمان الأوروبي، وهي نتاج تحالف بين 12 حزبا، من بينها 3 أحزاب يمينية متطرفة رئيسية، وهي حزبه “فيدس” وحزب “رابطة الشمال الإيطالية” لزعيمه ماتيو سالفيني، وحزب “التجمع الوطني” الفرنسي لمارين لوبان، لتشكل فيما بينها بزعامة أوربان مجموعة “الوطنيون من أجل أوروبا”، التي تعد ثالث أكبر كتلة في البرلمان بـ84 حزبا.
ضرب سيادة القانون
وبخلاف سياسات الحكومة اليمينية في بودابست والأداء الدبلوماسي المهدد للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، حفل التقرير السنوي الخامس للاتحاد بشأن “سيادة القانون” بقصور واضح في احترام علوية القانون والمعايير الأوروبية في عدة قطاعات بالمجر.
فعلى المستوى القضائي، جاء في تقييم التقرير أنه لم يتم إحراز تقدم في الإصلاحات المرتبطة بنظام توزيع القضايا على المحاكم من أجل مزيد من الشفافية بما يتوافق مع المعايير الأوروبية، كما انتقد الافتقاد إلى سجل فعال للتحقيقات القضائية والملاحقات والأحكام النهائية في قضايا الفساد المتعلقة بكبار المسؤولين في الدولة.
وقال التقرير إن النفوذ السياسي لا يزال يلقي بظلاله على النيابة العامة، مع وجود خطر التدخل غير المبرر في القضايا الفردية، كما لفت إلى المستوى المتدني والمتدهور لأجور القضاة وموظفي المحاكم بجانب الضغوط وعمليات التشهير التي تلاحق القضاة في وسائل الإعلام.
وذكر التقرير في هذا السياق، أن المجر لم تحرز تقدما في تعزيز استقلالية الهيئات التعديلية في قطاع الإعلام العمومي وفق المعايير الأوروبية، وفي إرساء تشريعات تسمح بتوزيع سليم وشفاف لنفقات الإعلانات الخاصة بالدولة والمؤسسات العمومية.
كما اعتبر التقرير أن التهديدات التي تواجهها التعددية الإعلامية -وقد سبق أن أبرزتها تقارير سيادة القانون في السنوات الماضية- ظلت دون معالجة، ولا يزال الصحفيون ووسائل الإعلام المستقلة يواجهون العديد من التحديات، بما في ذلك حملات التشهير المنظمة ضدهم والسياسات الانتقائية في الوصول إلى الفعاليات الحكومية.
وبشهادة التقرير، لم تحرز المجر تقدما في إزالة العقبات التشريعية التي تعيق عمل منظمات المجتمع المدني، ولا سيما التشريع الخاص بـ”ضريبة الهجرة” التمييزية الذي أقرته السلطات بوجه المنظمات الناشطة في مجال إغاثة اللاجئين.
ونتيجة لعدم اعتماد أي تدابير جديدة لمعالجة قضايا سيادة القانون ومكافحة الفساد المعلقة، يشير التقرير إلى استمرار تعليق الالتزامات المالية للاتحاد الأوروبي في العديد من البرامج مع المجر.
وكان الاتحاد الأوروبي قد وافق بأغلبية واسعة في 2022 على تجميد مخصصات للمجر بقيمة 6,3 مليارات يورو من ميزانية التكتل، بسبب تحفظات في بروكسل من خروقات لسيادة القانون.
وفي منتصف 2024 أصدرت محكمة العدل الأوروبية عقوبات بتغريم المجر 200 مليون يورو لانتهاكها قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن اللجوء والهجرة، ردا على فشل السلطات في المجر في إقرار تعويضات عن احتجاز طالبي اللجوء بشكل غير قانوني وترحيلهم دون أن يتمكنوا من الاستئناف ضد قرارات السلطات. علما وأن المجر امتنعت عن التصويت على ميثاق الهجرة واللجوء الجديد الذي أقره الاتحاد الأوروبي في مايو/أيار 2024.
وترجح الخبيرة في قضايا الهجرة بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية التابع للاتحاد الأوروبي كيلي بيتيلو، في حديثها مع الجزيرة نت، أن تستمر المجر في عدم التعاون بشأن هذه القضية وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان بما في ذلك الترحيل غير القانوني لطالبي اللجوء، وظلت منذ تقديم الميثاق في عام 2020 تقاوم مرارا وتكرارا فكرة “التضامن الإلزامي”.
وأما بخصوص المعايير الأوروبية، فتشير الخبيرة إلى أنه على الرغم من كون المجر من الناحية الفنية تعد عضوا في الاتحاد الأوروبي وحتى أنها تتولى الرئاسة الدورية مؤقتا، فإن هناك أسئلة مشككة في عضوية هذا البلد وفي ديمقراطيته وتضامنه الأوروبي بسبب القضايا المرتبطة بالحرب على أوكرانيا والهجرة أساسا.
وتابعت الخبيرة في تعليقها “إن زعيم المجر الحالي مؤيد لروسيا، ولديه ميول استبدادية ويرفض القيم الرئيسية للاتحاد الأوروبي، مثل الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان”.
هل يمكن تعليق رئاسة المجر؟
يطرح مسؤولون في الاتحاد الأوروبي فرضية تعليق أو سحب الرئاسة الدورية من المجر بحجة انتهاك القوانين الأساسية للاتحاد ونقلها إلى بولندا.
وتشير بيتيلو إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك القدرة على طرد دولة عضوة، وإذا كان سيغير المعاهدة، فمن المرجح أن تستخدم المجر حق النقض ضد هذا. كما أن استبعاد المجر من الاتحاد ليس فكرة جيدة في تقديرها لأن هذا قد يقربها أكثر من روسيا.
ومع أن استبعاد المجر ليس بالحل العملي والسهل، ولكن الاتحاد الأوروبي يملك بالفعل أدوات لتطبيق ذلك، وهذا الإجراء لا يعد سابقة في تاريخ التكتل الأوروبي.
في عام 2000، عندما وصل حزب الحرية اليميني المتطرف الذي يتزعمه يورغ هايدر إلى السلطة في النمسا، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليها وعين لجنة مراقبة “مجلس الحكماء” لمراقبة ما إذا كانت البلد قد انتهكت القيم الأساسية للاتحاد.
وبالنسبة للمثال المجري، فليس واضحا إلى أي مدى يمكن أن تفضي المقاطعة المعلنة بشأن اجتماعات نهاية أغسطس/ آب في بوادبست، لكن من الواضح أن الدوائر الأوروبية تركز على تعداد أخطاء رئيس الوزراء المصنفة بأنها “انتهاكات للقوانين الأساسية”.
وتحدثت مجلة “لوكورييه إنترناشونال” عن حضور أوربان في القمة غير الرسمية لمنظمة الدول التركية إلى جانب ممثل جمهورية شمال قبرص التركية، غير المعترف بها من قبل الاتحاد الأوروبي لأنها تنتهك وحدة أراضي وسيادة قبرص، إحدى الدول الأعضاء للاتحاد.
كما لفتت الصحيفة إلى الأحداث المتوقعة في خريف 2024، حيث ستكون الرقاب في بروكسل مشدودة إلى أداء أوربان بمناسبة الانتخابات البرلمانية الجورجية والانتخابات الرئاسية في مولدوفا، وما إذا كان سيساعد على تقريب هذه الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى فلك موسكو.