وصف أحد الباحثين الأوروبيين رؤية ماكرون لأوروبا بأنها صرح فكري كبير يتعرض حاليا للانهيار تحت وطأة تناقضاته، التي عرّتها الحرب الروسية – الأوكرانية.
وعرض بارت إم جيه زيفتشيك كبير الباحثين في صندوق مارشال الألماني بالتفصيل رؤية ماكرون لأوروبا في مقال نشره موقع فورين بوليسي الأميركي (Foreign Policy).
ويمكن تلخيص هذه الرؤية في وجوب أن تكون أوروبا قادرة على تأكيد استقلالها وضمان أمنها بنفسها، بالإضافة إلى إقرارها بأن الولايات المتحدة تنتمي إلى “المعسكر الغربي” لكنها “لا تدعو لنفس النوع من الإنسانية” مثل أوروبا، كما أن “الحضارة الصينية” ليست لديها نفس القيم مثل أوروبا.
مساواة بين واشنطن وبكين
ومن خلال المساواة بين واشنطن وبكين باعتبارهما معاديين للمصالح الأوروبية، يجادل ماكرون بأن “ما تمثله أوروبا” لا يمكن أن يُترك إلى “الجانب الآخر من المحيط الأطلسي أو على أطراف آسيا”.
وفي رؤية ماكرون، تتمتع روسيا بمكانة خاصة باعتبارها “جزءا من أوروبا”، كما تحتل فرنسا مكانة اللاعب النشط في قيادة “مشروع الحضارة الأوروبية”.
ويقول زيفتشيك إن هذه الرؤية التفصيلية لأوروبا انهارت للتو واحترقت في أوكرانيا، وبخلاف سلسلة من المحاولات الفاشلة للدبلوماسية الشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان ماكرون غائبا تماما عن الحشد الأوروبي على أخطر تهديد للقارة منذ عام 1945.
تقريب روسيا
وأضاف أن اقتناع ماكرون بضرورة تقريب روسيا إلى أوروبا وإبعاد الولايات المتحدة جعله يسعى إلى “علاقة جديدة” مع روسيا بوتين ضد المصالح الواضحة للعديد من الدول الأوروبية التي نظرت إلى روسيا والولايات المتحدة بشكل مختلف.
وقال إن ماكرون كان يهدف إلى “بناء هيكل جديد قائم على الثقة والأمن في أوروبا” مع بوتين، وادعى أن دولا مثل الولايات المتحدة كانت تحث أوروبا على “فرض مزيد من العقوبات على روسيا لأن ذلك في مصلحتها”. وقال ماكرون إن مصالح أوروبا “بالتأكيد” لن تخدمها العقوبات المفروضة على روسيا.
وقبل الغزو الروسي، وضع ماكرون نفسه على أنه الوسيط الرئيسي الذي يمكنه التحدث إلى جميع الأطراف -روسيا وأوكرانيا والغرب- وكذلك التفاوض على طريقة للخروج من الصراع.
لم يُفاجأ إلا ماكرون
وبدافع من نظريته حول مكانة روسيا في الحضارة الأوروبية والثقة في قدراته كمفاوض، يبدو أنه لم يركز كثيرا على بناء الردع من خلال وضع قوات على الجانب الشرقي لأوروبا أو الإعلان مسبقا عن عقوبات صارمة. ولم يفاجأ أحد، باستثناء ماكرون. فقد ثبت أن الدبلوماسية دون نفوذ غير فعالة.
وبدلا من ذلك، راهن على الدبلوماسية وفكره للتوفيق بين مخاوف روسيا المتصورة وبناء نظام أمني واستقرار جديد لأوروبا مع بوتين. وسافر إلى موسكو أولا ثم إلى كييف بعد ذلك على عكس القادة الآخرين، مثل المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي نسق موقفه مع الأوكرانيين أولا.
وحتى مع اندلاع حرب روسيا الوحشية بشكل متزايد، يقول الكاتب، لم يعترف ماكرون بأنه أساء الحكم على بوتين بشكل خطير. فبدلا من تغيير المسار والمساعدة في بناء التحالف لوقف روسيا، ضاعف ماكرون منذ ذلك الحين جهوده الدبلوماسية من خلال مكالمات متعددة إلى موسكو منذ الغزو حتى أنه حذر الرئيس الأميركي جو بايدن من التصعيد بالقول أو الفعل.
ليس سوء تقدير
وعلق زيفتشيك بأن خيارات ماكرون ليست مجرد سوء تقدير تكتيكي؛ بل تعكس إستراتيجية طويلة الأمد تقوم على بناء فكري راسخ يزعم أن “القارة الأوروبية لن تكون مستقرة أبدا، ولن تكون آمنة أبدا، إذا لم تخفف وتوضح علاقاتها مع روسيا”.
لقد كان ماكرون غير مرئي تقريبا بشأن الأزمة الأوكرانية في الأسابيع القليلة الماضية. ومن غير الواضح ما إذا كان قد غيّر رأيه بشأن الرغبة في التكيف مع روسيا وما يُسمى بمخاوفها الأمنية.
وبدلا من قيادة أوروبا، كما كان يأمل، تنازل ماكرون عن الميدان للآخرين. فقد كشفت حرب روسيا عن خطأ مفهومه الإستراتيجي، إذ نجد في الوقت الحالي أن الخط الرئيسي للدفاع الأوروبي -إلى جانب الجيش الأوكراني- هو 100 ألف جندي أميركي بالإضافة إلى عشرات الآلاف من القوات من دول الناتو الأخرى.
وختم زيفتشيك مقاله باستحضار العبارة التي قالها مستشار ألمانيا الغربية السابق كونراد أديناور في ذروة الحرب الباردة “الأميركيون هم أفضل الأوروبيين”، قائلا إنها عبارة قديمة، لكن ماكرون سيصنع خيرا إذا وضعها في اعتباره.