مقال في نيويورك تايمز يعلن نهاية العولمة وبداية حروب الثقافة العالمية
بالتوازي مع أحداث الحرب الروسية على أوكرانيا، برزت في أميركا وأوروبا أصوات ثقافية ناقدة تعيد التفكير في الأطروحات الفكرية التي عُدّت سائدة في العقود القليلة الماضية، وأصبح النقد وحتى السخرية من فكرة “نهاية التاريخ” رأيا سائدا للمعلقين والنقاد الثقافيين.
ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) الأميركية مقالا مطولا للصحفي كندي الأصل وكاتب الرأي ديفيد بروكس يرى فيه نهاية العولمة وبدء الحروب الثقافية العالمية، ويعرض فيه الصعوبات التي تواجه قيم الديمقراطية والليبرالية، ومع ذلك يؤكد علوّ هذه القيم عما عداها.
يقول الكاتب إنه ينتمي لجيل محظوظ، بدا فيه العالم كأنه يجتمع معًا قبل ربع قرن حيث انتهى الصراع الكبير في الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، وكانت الديمقراطية لا تزال تنتشر، وأصبحت الدول أكثر ترابطا اقتصاديا والإنترنت جاهزًا لتعزيز الاتصالات، وبدا الأمر كما لو كان هناك تقارب عالمي حول مجموعة من القيم العالمية؛ الحرية والمساواة والكرامة الشخصية والتعددية وحقوق الإنسان.
وسميت عملية التقارب هذه بالعولمة. لقد كانت أولا عملية اقتصادية وتكنولوجية تتعلق بتنمية التجارة والاستثمار بين الدول وانتشار التقنيات، لكن العولمة كانت أيضًا عملية سياسية واجتماعية وأخلاقية.
قصة العولمة
في التسعينيات، جادل عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غيدينز بأن العولمة “تحول في ظروف حياتنا ذاتها، إنها الطريقة التي نعيش بها الآن”، لقد تضمنت “تكثيف العلاقات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم”، وكانت تدور حول تكامل وجهات النظر العالمية والمنتجات والأفكار والثقافة.
يتناسب هذا مع النظرية الأكاديمية التي كانت تدور حول التحديث، وكانت الفكرة أنه مع تطور الدول فإنها ستصبح أكثر شبها بالغرب، أي أولئك الذين بادروا بالتحديث.
في الحوار الأوسع، كان يُفترض أحيانا أن الدول في جميع أنحاء العالم ستعجب بنجاح الديمقراطيات الغربية وتسعى لتقليدها، وكان يُفترض أحيانا أنه مع “تحديث” الناس سيصبحون أكثر برجوازية واستهلاكية وسلمية مثلنا تماما، حسب تعبير الكاتب.
وكان يُفترض أيضا أنه مع تحديث المجتمعات فإنها ستصبح أكثر علمانية، تماما كما هي الحال في أوروبا وأجزاء من الولايات المتحدة، سيكونون مدفوعين بالرغبة في كسب المال أكثر من قهر الآخرين، سيكونون مدفوعين بالرغبة في الاستقرار في منازل الضواحي أكثر من الأيديولوجيات المتعصبة أو التطلع للهيمنة والغزو الذي قضى على الإنسانية بقرون من الحرب، حسب الكاتب.
تدهور رؤى العولمة
كانت هذه رؤية متفائلة لكيفية تطور التاريخ، ورؤية للتقدم والتقارب. ولسوء الحظ، لا تصف هذه الرؤية العالم الذي نعيش فيه اليوم؛ العالم لم يعد يتقارب، لقد تباطأت عملية العولمة، بل وانطلقت إلى الوراء في بعض الحالات.
ويسلط الغزو الروسي على أوكرانيا الضوء على هذه الاتجاهات، وفي حين أن حرب أوكرانيا ضد العدوان الروسي هي مصدر إلهام في الغرب، فإن كثيرا من العالم لا يزال غير متأثر، بل إنه متعاطف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حسب الكاتب.
وذكرت مجلة “إيكونوميست” (Economist) البريطانية أنه بين عامي 2008 و2019 انخفضت التجارة العالمية بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 5%. كان هناك عدد كبير من التعريفات الجديدة وغيرها من الحواجز أمام التجارة، وتباطأت تدفقات الهجرة، وانخفضت التدفقات العالمية للاستثمار طويل الأجل بمقدار النصف بين عامي 2016 و2019.
أسباب هذا التدهور واسعة وعميقة، وأدت الأزمة المالية عام 2008 إلى نزع الشرعية عن الرأسمالية العالمية بالنسبة لكثير من الناس. لقد أثبتت الصين على ما يبدو أن المذهب التجاري يمكن أن يكون إستراتيجية اقتصادية فعالة، وهكذا نشأت كل أنواع الحركات المناهضة للعولمة؛ مثل حركات مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والقوميين المعادين للأجانب، والشعبويين الترامبيين، واليسار المناهض للعولمة.
وبالتزامن تزايد الصراع العالمي، وأصبحت التجارة والسفر وحتى التواصل عبر الكتل السياسية أكثر صعوبة أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا، وانسحبت مئات الشركات من روسيا؛ حيث انفصل الغرب جزئيا عن آلة بوتين الحربية، ولا يرغب العديد من المستهلكين الغربيين في التجارة مع الصين بسبب اتهامات بالسخرة والإبادة الجماعية، ويعيد العديد من الرؤساء التنفيذيين الغربيين التفكير في عملياتهم في الصين حيث يصبح النظام أكثر عداء للغرب ولأن سلاسل التوريد مهددة بسبب عدم اليقين السياسي.
في عام 2014، منعت الولايات المتحدة شركة التكنولوجيا الصينية “هواوي” من المزايدة على العقود الحكومية، وعزز الرئيس الأميركي جو بايدن قاعدة “اشترِ المنتجات الأميركية”.
يبدو أن الاقتصاد العالمي بدأ ينفصل تدريجيا إلى منطقة غربية ومنطقة صينية، وكانت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بين الصين وأميركا نحو 30 مليار دولار سنويا قبل 5 سنوات، والآن انخفضت إلى 5 مليارات فقط، حسب الكاتب.
غزو أوكرانيا يدفن افتراضات سائدة
وينقل الكاتب عن مقال في بلومبيرغ جاء فيه أن “الجغرافيا السياسية تتحرك بشكل نهائي ضد العولمة، نحو عالم تهيمن عليه مجموعتان أو 3 كتل تجارية كبرى. هذا السياق الأوسع -خاصة غزو أوكرانيا- يدفن معظم الافتراضات الأساسية التي ركزت على تفكير الأعمال التجارية حول العالم على مدار 40 عاما الماضية”.
بالتأكيد، ستستمر العولمة مع تدفق التجارة، لكن العولمة بوصفها المنطق الدافع للشؤون العالمية يبدو أنها قد انتهت؛ إذ اندمجت الخصومات الاقتصادية الآن مع المنافسات السياسية والأخلاقية وغيرها في منافسة عالمية واحدة للهيمنة، وتم استبدال العولمة بشيء يشبه إلى حد كبير حرب الثقافة العالمية.
إذا نظرنا إلى الوراء، ربما نركز كثيرا على قوة القوى المادية مثل الاقتصاد والتكنولوجيا لدفع الأحداث البشرية وجمعنا جميعا معا، هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا؛ ففي أوائل القرن العشرين كتب الأديب والسياسي البريطاني نورمان أنغيل كتابا سيئ السمعة يسمى “الوهم العظيم” يجادل فيه بأن الدول الصناعية في عصره كانت مترابطة اقتصاديا للغاية بحيث لا يمكنها خوض حرب مع بعضها البعض، وبدل ذلك نشبت حربان عالميتان.
دوافع السلوك البشري
الحقيقة أن السلوك البشري غالبا يكون مدفوعا بقوى أعمق بكثير من السعي للمصلحة الذاتية الاقتصادية والسياسية، على الأقل كما يفهم العقلانيون الغربيون عادة هذه الأشياء. هذه الدوافع الأعمق هي التي تقود الأحداث في الوقت الحالي، وهي توجه التاريخ إلى اتجاهات غير متوقعة إلى حد كبير.
أولا- البشر مدفوعون بقوة بما تعرف بالرغبات والاحتياجات التي يجب رؤيتها واحترامها وتقديرها. إذا أعطيت للناس انطباعا بأنهم غير مرئيين وغير محترمين وغير مقدرين فسيصبحون غاضبين ومستائين وانتقاميين، وسينظرون إلى التقليل من شأنهم على أنه ظلم ويردون بسخط شديد.
عملت السياسة العالمية على مدى العقود القليلة الماضية كآلة ضخمة لعدم المساواة الاجتماعية. في دولة بعد أخرى ظهرت مجموعات من النخب الحضرية ذات التعليم العالي للسيطرة على وسائل الإعلام والجامعات والثقافة والسلطة السياسية في كثير من الأحيان، وظهرت مجموعات كبيرة من الناس يشعرون بالاحتقار والتجاهل. وفي دولة تلو الأخرى نشأ القادة الشعبويون لاستغلال هذه الاستياءات: دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وناريندرا مودي في الهند، ومارين لوبان في فرنسا.
المستبدون يسلحون استياء الناس
يقول الكاتب “في غضون ذلك يمارس المستبدون مثل بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ سياسة الاستياء هذه على نطاق عالمي، إنهم يعاملون الغرب الجماعي كنخب عالمية ويعلنون تمردهم المفتوح ضده، ويروي بوتين قصص الإذلال؛ أي ما يفترض أن الغرب فعله لروسيا في التسعينيات، ويعد بالعودة إلى الاستثنائية الروسية والمجد الروسي، وستستعيد روسيا دورها البطولي في تاريخ العالم”.
قادة الصين يتحدثون عن “قرن الذل”، إنهم يشتكون من الطريقة التي يحاول بها الغربيون المتكبرون فرض قيمهم على الجميع، ورغم أن الصين قد تصبح في النهاية أكبر اقتصاد في العالم فلا يزال “شي” يتحدث عن الصين كدولة نامية.
ثانيا- معظم الناس لديهم ولاء قوي لمكانهم ولأمتهم، لكن على مدى العقود القليلة الماضية شعر كثير من الناس بأن أماكنهم قد تم تجاهلها وأن شرفهم القومي مهدد. في ذروة العولمة، بدت المنظمات متعددة الأطراف والشركات العالمية كأنها تتفوق على الدول القومية.
في دولة تلو الأخرى نشأت حركات قومية قوية تصر على السيادة الوطنية واستعادة الكبرياء الوطني، وتنتقد العولمة والتقارب العالمي، واستخف كثيرون من أنصار العولمة بقوة القومية لقيادة التاريخ.
ثالثا- الناس مدفوعون بالشوق الأخلاقي من خلال ارتباطهم بقيمهم الثقافية الخاصة، ورغبتهم في الدفاع بقوة عن قيمهم عندما يبدو أنهم يتعرضون للاعتداء. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، بدت العولمة للعديد من الناس على أنها بالضبط هذا النوع من الاعتداء.
بعد الحرب الباردة، يقول الكاتب “سيطرت القيم الغربية على العالم من خلال أفلامنا وموسيقانا ومحادثاتنا السياسية ووسائل التواصل الاجتماعي. كانت إحدى نظريات العولمة هي أن الثقافة العالمية ستتقارب بشكل أساسي حول هذه القيم الليبرالية”.
تطرف القيم الغربية
المشكلة أن القيم الغربية ليست قيم العالم، وفي الغرب قيم ثقافية متطرفة تماما. في كتابه “أغرب الناس في العالم”، جمع الاقتصادي وعالم النفس الكندي جوزيف هنريش مئات الصفحات من البيانات لإظهار مدى غرابة القيم الغربية المتعلِمة، الصناعية، الغنية، الديمقراطية.
كتب هنريش “نحن الأشخاص الغربيين على درجة عالية من الفردية، ومهووسون بأنفسنا، وموجهون نحو السيطرة، وغير ملتزمين، وتحليليون. نحن نركز على أنفسنا -سماتنا وإنجازاتنا وتطلعاتنا- وعلى علاقاتنا وأدوارنا الاجتماعية”.
ويتابع الكاتب “ينظر كثير من الناس حول العالم إلى أفكارنا حول أدوار الجنسين ويجدونها غريبة أو بغيضة، إنهم يرون دفاعنا القوي عن أدوار النوع، وحقوق الشواذ مقلقة. فكرة أن الأمر متروك لكل شخص لاختيار هويته وقيمه تبدو سخيفة لكثيرين، فكرة أن الغرض من التعليم هو غرس مهارات التفكير النقدي حتى يتمكن الطلاب من تحرير أنفسهم من الأفكار التي تلقوها من آبائهم ومجتمعاتهم تبدو غباء لكثيرين”.
ومع إعراب 44% من طلاب المدارس الثانوية الأميركية عن مشاعر حزن أو يأس مستمرة، فإن ثقافتنا ليست بالضبط أفضل إعلان للقيم الغربية في الوقت الحالي، كما يقول الكاتب.
رغم افتراضات العولمة، لا يبدو أن الثقافة العالمية متقاربة وفي بعض الحالات تبدو متباينة. درس الاقتصاديان فرناندو فيريرا وجويل والدفوغل مخططات الموسيقى الشعبية في 22 دولة بين عامي 1960 و2007، ووجدوا أن الناس منحازون لموسيقى بلدهم، وأن هذا التحيز قد ازداد منذ أواخر التسعينيات. لا يريد الناس الاندماج في ثقافة عالمية متجانسة، ويريدون الحفاظ على نوعهم.