المؤرخ والمحقق أيمن فؤاد سيد: المخطوطات بوصلة المستقبل وهي عمري الذي يسير على قدمين
كان صغيرا وهو يتحرك بين أروقة القاهرة التاريخية، وهو يرى شيخ العربية الشيخ محمود شاكر -صاحب كتاب “المتنبي” و”رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”- والدكتور خليل يحيى نامي والشيخ حمد الجاسر والأستاذ السيد أحمد صقر يترددون على بيت والده، الذي كان ملتقى الباحثين والدارسين من كل البلاد العربية، الذين أصبح بعضهم وزراء في بلادهم بعد ذلك.
إنه الدكتور أيمن فؤاد سيد، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ورئيس هيئة المخطوطات الإسلامية، والأستاذ المتفرغ في كلية اللغات والترجمة- جامعة الأزهر، نشأ في بيت علم بالقاهرة، حيث شغل والده المؤرخ والمحقق فؤاد سيد منصب أول أمين بقسم المخطوطات بدار الكتب المصرية.
يقول “الوثائق والمخطوطات عمري الذي يسير على قدمين، نحن المحققين أمناء الحقيقة، وحراس الوثيقة، مهمتي ليست تحقيق الوثيقة فقط، بل قراءة أسرار الوثيقة، وتجسير التاريخ، والمخطوطات شهود الماضي و بوصلة المستقبل، والوثيقة علمتني أن التاريخ له عجلات تدفعه للأمام، وعجلات التاريخ هم بسطاء الناس الذين كانوا”.
ويتابع “عندما أنظر إلى المخطوطة، أتذكر أنني كثيرا ما قرأت عن فترات عظيمة في حياة الأمم، وعن رجال عظماء، ونساء عظيمات، وأعمال عظيمة، وكثيرا ما أتصور أنني قد عدت إلى تلك الأيام. وعلى الهامش، أرى الرجال والنساء العاديين الذين لا يفكرون إلا في أطفالهم وفي خبزهم اليومي فحسب، ولم يحلموا يوما أن يكونوا أبطالاً”.
أحدث كتاب صدر للدكتور أيمن فؤاد سيد عن المستشرق الفرنسي دومينيك سورديل (1921-2014 )، الذي تخصص في التاريخ الإسلامي، واهتم في دراسته بالعصر العباسي الأول، ومن مؤلفاته “الدولة الإمبراطورية للخلافة العباسية من القرن الثامن إلى القرن العاشر”، و”الوزارة العباسية”، و”حضارة الإسلام الكلاسيكية”.
عالج سورديل في دراساته ما نطلق عليه الحضارة الإسلامية، أي الإسلام بوصفه ظاهرة حضارية تأسست في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك الفنية والفلسفية والصوفية والقانونية وغيرها.
التقينا في القاهرة والدكتور أيمن فؤاد سيد الذي حقق العشرات من كتب التراث، وترجم الكثير من دراسات المستشرقين، ودار بيننا الحوار الآتي عن الاستشراق والمستشرقين:
في البداية، وقبل أن نبحر معك في الحديث عن المستشرقين، وكتاب المستشرق دومنيك سورديل، أود أن أسألك أولاً عما دفعك لعالم التاريخ والوثائق والمخطوطات؟
نشأت من صغري وأنا أرى والدي يعيش في عالم من المخطوطات والكتب القديمة وقضايا التحقيق، فكان أبي هو أول أمين للمخطوطات بدار الكتب المصرية، وكانت لديه خبرة نادرة في علوم المخطوطات.
وأذكر أن وزير التعليم السوري الدكتور شاكر الفحام كان يتردد على بيتنا وهو طالب بالقاهرة، وكذلك كل من الأساتذة شكري الفيصل وعدنان زرزور ورضوان الداية من الشام، ومن تونس كان الدكتور إبراهيم شبوح، والدكتور محمد بنشريفة من المغرب كان من أصدقاء الأسرة، ومن العراق كان يتردد على بيتنا الدكتور حمد الكبيسي والدكتور أحمد مطلوب، إضافة إلى الكتبي الشهير قاسم محمد الرجب، فجميعهم كانوا ضيوفا دائمين علينا.
كان أبي ناسخا للوثائق، وبفضل هذا النسخ حصَّل كثيرًا من المعارف، ووعت ذاكرته ما لا يحصى من أسماء الكتب، وكانت له قدرة عجيبة على تمييز الخطوط وردها إلى العصر الذي كتبت فيه، استنادًا إلى نوع الحبر وكثافة الورق وطريقة الكتابة، من إهمال للنقط أو إعجام.
أضف إلى هذا أن خطوط العلماء كانت متميزة في عينه؛ فهذا خط الصلاح الصفدي، وذاك قلم ابن حجر العسقلاني، وكان يقول إن “خط الصفدي لا تخطئه العين؛ فهو خط منسق جميل”، ومن خصائصه كيت وكيت، وإن “قلم ابن حجر لا يتوقف؛ فتكاد كلماته تتشابك”.
وكأني بالأب جورج قنواتي يدخل بيتنا وبصحبته عدد من المستشرقين، أذكر منهم الدكتور جاك جومييه الأب بمعهد الاستشراق بدير الآباء الدومينيكان، وصاحب الكتاب المشهور عن المحمل، وهو أول وأفضل من كتب عن ثلاثية نجيب محفوظ عام 1958، ومن المستشرقين الألمان أيضاً كان الدكتور هانز أرنست، وروبرت رويمر، والفرنسي جاك كلود جارسان، والإيطالي أمبرتو ينزتاتو.
لقد نشأت في جو يفوح بعبق المخطوطات، وخالطت القامات الشامخة من الباحثين العرب والأجانب، ولكن توفي أبي وأنا ابن 17 عاما، وقررت أن أكمل رسالة والدي بالعيش بين الوثائق والمخطوطات.
في بيئة مليئة بالباحثين والمستشرقين، كان اختيارك أن تكتب عن دومينيك سورديل، فهل لك أن تحدثنا عن منهجك في تأليف هذا الكتاب؟
الكتاب جاء ضمن سلسلة يصدرها معهد العالم العربي في باريس بالتعاون مع مؤسسة جائزة الملك فيصل في الرياض، والسلسلة تبدي اهتمامها بالمستشرقين والأدباء العرب، حيث يقدم معهد العالم العربي العلماء العرب باللغة الفرنسية، وتقدم جائزة الملك فيصل المستشرقين باللغة العربية.
وبدأت منهجي في الكتاب بمدخل عن الاستشراق بوجه عام، ثم مقدمة عن الاستشراق الفرنسي بوجه خاص، وماذا قدم المستشرقون الفرنسيون من خدمات للتراث العربي.
ثم عرضت لسيرة دومينيك سورديل، من حيث نشأته ومسيرته الفكرية، و دراسته، وأساتذته، والمناصب التي تسنمها، ورحلاته العلمية، وأكبر المهام التي قام بها.
وتتبع الكتاب رحلاته إلى أفغانستان والمغرب والهند وتركيا، حيث عاش فترة في سوريا، وهو عضو في المعهد الفرنسي للغة العربية في دمشق، واستقر أستاذا في جامعة السوربون، وباحثا رئيسا في المركز القومي للأبحاث.
وفي بداياته البحثية، سجل سورديل رسالة عن “عبادات إقليم حوران في العصر الروماني”، ثم تحول بعد ذلك نحو دراسة الحضارة العربية الإسلامية، وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان “الوزارة العباسية في عصرها الأول”، وهي أول دراسة تناولت الوزارة بوصفها نظاما سياسيا في الإسلام.
كان للمستشرقين الفرنسيين خدمات جليلة في تحقيق التراث العربي، مثل ماسينيون وغيره، فماذا قدم دومينيك سورديل من تحقيقات في التراث؟
سورديل أوقف كل حياته لخدمة الاستشراق والكتابة عن الإسلام والحضارة الإسلامية وتاريخ العرب، ولم يحقق سوى كتاب واحد كان المفترض أن يكون رسالته للدكتوراه، ولكنه نحى هذا الكتاب جانبا، واشتغل على موضوع “الوزارة العباسية” وأصدر هذا الكتاب بعد ذلك في معهد الدراسات العربية في دمشق، المشتمل على تاريخ حلب من كتاب “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة” لمؤلفه ابن شداد، ووضع سورديل عددا كبيرا من الكتب عن الإسلام والحضارة الإسلامية والقرآن الكريم والسنة النبوية، ولم يترك مجالا يمس الحضارة الإسلامية إلا وكتب عنه.
بوصفك باحثا ومفكرا عربيا، من خلال علاقاتك المتشابكة مع علماء الغرب، ما رؤيتك للمستشرقين في تناولهم الثقافة العربية بالبحث والتحقيق؟
أرى أن الاستشراق قدم خدمة كبيرة للدراسات العربية والإسلامية؛ فحقق المستشرقون الكثير من التراث العربي في أول احتكاك للشرق بالغرب، وقاموا بجمع الكثير من المخطوطات الموجودة في عدد كبير من البلاد العربية والإسلامية، خصوصا كولبير (جان باتيست كولبير 1619-1683) أحد أهم وزراء لويس الرابع عشر، حيث بدأت كراسي الدراسات الشرقية منذ القرن الثاني عشر والثالث عشر، بهدف معرفة ما الإسلام، فكانت هذه الدراسات الاستشراقية التي اعتمدت أولا على المنهج البحثي.
ومن هذه الناحية، أرى أن الاستشراق قدم للثقافتين العربية والإسلامية خدمات مهمة جدا، حتى أن الجامعة المصرية عندما أنشئت سنة 1925، كان الجيل الأول الذي درس في كلية الآداب هو جيل ماسينيون وبرجستراسر وزملائهما، وكان يدرس في كلية الآداب وحدها 56 أستاذا أجنبيا، و20 أستاذا في كلية الحقوق.
أصابع الاتهام تشير دائما إلى الدور العدائي للمستشرقين في رؤيتهم للتاريخ والثقافية العربية، أليس ذلك صحيحا؟
المستشرقون في عملهم يريدون معرفة فحوى الحضارة العربية والإسلامية، ومعرفة سر هذا الدين الذي نشأ في مواجهة المسيحية، يريدون معرفة أصوله وعقيدته وتاريخه، وقاموا بكل هذه الدراسات، بغية معرفة هذا النظام أو ذاك الدين الذي ظهر في منطقة صحراوية، وانطلق منها ليصل إلى الأندلس والصين، وآسيا الوسطى، وأفريقيا جنوب الصحراء.
معنى هذا، أنك تؤكد موضوعية المستشرقين وجدية الاستشراق في مواجهة النقد الموجه له من جانب كبير من العرب والمسلمين؟
طبعاً، أؤكد على موضوعية الاستشراق الكلاسيكي في تناوله للدراسات الشرقية؛ فالاستشراق الكلاسيكي والتاريخي يعد المرجع الأساسي للدراسات الحديثة، فدراسة دومينيك سورديل عن “الوزارة العباسية” كانت هي المرجع في الدراسات الاستشراقية والعربية، وجاء من بعدها دراسات عن الوزارة لدى البويهيين، والوزارة في الحكومات المتأخرة كالسلاجقة، وكل هذه الدراسات بنيت على المدخل الذي قام به سورديل.
وكذلك دراسة كلود كاهن (1909-1991) عن “سوريا الشمالية في عصر الحروب الصليبية” التي فتحت الباب أمام دراسات أخرى في الموضوع نفسه.
ويعد ما كتبه المستشرق غولد تسيهر (1850-1921) عن العقيدة والشريعة في الإسلام من الكتابات الرائدة في هذا المجال.
ومن ينكر كتابات كارل بروكلمان (1868-1956) في “تاريخ الأدب العربي”؟! وهو أكبر باحث عرفته الجامعات الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين في مجالات الدراسات السامية وتاريخ التراث العربي.
وهناك دراسة المستشرق برنارد لويس “أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية” التي كانت موضوع أطروحته للدكتوراه، الذي تناول فيه دراسة الإمامة الإسماعيلية وكل ما يتعلق بها، مركزا على أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية.
وفي الكتابة عن المماليك، لا يمكن أن تفوتنا دراسات ديفيد أيالون (1914-1998) الذي تناول الإسلام والشرق الأوسط، وتخصص في سلالات المماليك في مصر، ودراسات أخرى كثيرة عن الظاهر بيبرس والسلطان قلاوون، ودراسات عن النظام العسكري في الدولة الإسلامية.
وأما الاستشراق الاقتصادي، فيعـد صمويل غويتين من الرواد الذين تخصصوا في وثائق الجنيزة (وهي مجموعة من الوثائق اكتشفت بالقاهرة، تتناول موضوعات اقتصادية -مكتوبة بحروف عبرية- خاصة بالبيع والشراء والوقف والاستبدال ودعاوى قضائية متعلقة بإثبات الملكية والرهن، وتعني كلمة” جينزا” باللغة العبرية، كل مكان تدفن فيه أشياء لتحفظ، ويقابلها في العربية كلمة جنازة).
لا نستطيع أن نستغني عن هذه الدراسات للمستشرقين الكلاسيكيين، ولا ننسى جهود المستشرق الألماني العالم الكبير أدولف غروهمان (المولود عام 1887) ونشره للبرديات العربية. وهي دراسات لا نستطيع أن نستغني عنها، بل بالعكس قامت عليها الدراسات العربية بعد ذلك.
إذن، ماذا تمثل لك المخطوطة وهي بين يديك؟
مهمتي ليست تحقيق الوثيقة فقط، بل قراءة أسرار الوثيقة، وتجسير التاريخ، والمخطوطات شهود الماضي وبوصلة المستقبل، والوثيقة علمتني أن التاريخ له عجلات تدفعه للأمام، وعجلات التاريخ هم بسطاء الناس الذين كانوا.
وعندما أنظر إلى المخطوطة، أتذكر أنني كثيرا ما قرأت عن فترات عظيمة في حياة الأمم، وعن رجال عظماء، ونساء عظيمات، وأعمال عظيمة، وكثيرا ما أتصور أنني قد عدت إلى تلك الأيام. وعلى الهامش، أرى الرجال والنساء العاديين الذين لا يفكرون إلا في أطفالهم وفي خبزهم اليومي فحسب، ولم يحلموا يوما أن يكونوا أبطالا.