تتيح التقنيات الحديثة وسائل جديدة للتمكين، ومع ذلك ما تزال الديمقراطية تراوح مكانها. فما الأمر؟ ولماذا لم تحقق التكنولوجيا مزيدا من الديمقراطية في العالم؟
سؤالان طرحهما توماس كاروثرز -نائب رئيس الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي- في مقال بمجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية على خبراء لمعرفة آرائهم من زوايا مهنية ووطنية مختلفة.
وقبل استعراض إجابات الخبراء، أشار كاروثرز إلى أن العديد من الأنظمة الديمقراطية في العالم -العريقة منها والأحدث عهدا- تعاني من قصور مؤسسي خطير وانعدام ثقة الجماهير فيها.
فكيف يمكن التوفيق بين هذين الواقعين العالميين المتناقضين المتمثلين في التقدم غير المسبوق للتقنيات التي تسهل عملية تمكين الأفراد، والعجز العام عن النهوض بالديمقراطية على نطاق العالم؟
وأورد كاروثرز إجابات أولئك الخبراء واختتمها بملاحظات موجزة خاصة به. وفي ما يلي ردودهم بإيجاز:
المراهنة على الشرائح المحلية
يرى مدير السياسات في شبكة “أوميديار” مارتن تيسني أن الحل الجزئي يكمن في الحقيقة المعروفة والحاسمة المتمثلة في أن القادة الاستبداديين الأذكياء قادرون على الحد من التأثيرات التمكينية للتكنولوجيا على المواطنين العاديين عبر اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفضاء المدني -على نحو ما يفعلونه في العديد من البلدان- باستخدام تقنيات جديدة لمآربهم الشخصية المعادية للديمقراطية، مثل تتبع أماكن وجود النشطاء المؤيدين للديمقراطية ومراقبة أفعالهم.
وعلاوة على ذلك، تعمل التقنيات الجديدة على تمكين الأفراد في العديد من جوانب حياتهم التي لا تتعلق على نحو مباشر بالسياسة. مثل منح الفقراء إمكانية الوصول إلى الخدمات المصرفية التي لم يكن من الممكن الوصول إليها سابقا والمساعدة في تحديد حقوق التملك للمجتمعات الأكثر فقرا.
ومن المرجح -في رأي تيسني- أن تكون لأشكال التمكين الاجتماعي والاقتصادي البطيء تأثيرات سياسية كبيرة في السنوات المقبلة مباشرة.
المستبدون والتكنولوجيا
يقول لاري دايموند (زميل في معهدي هوفر وفريمان سبوغلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد) إن أحد أسباب هذه المفارقة أن الثروات العالمية للديمقراطية تتشكل من خلال العديد من العوامل السببية المختلفة.
ففي حين أن بعض العوامل الداعمة للديمقراطية موجودة حاليا -مثل التنمية الاقتصادية على نطاق واسع، وانتشار “تقنيات التحرير” (خاصة الهواتف المحمولة) التي تمكن المواطنين من التعبير عن آرائهم، والنمو الأوسع للمجتمع المدني- فإن تأثيرها الإيجابي يتم إضعافه بسبب العوامل الضارة التي تكثر للأسف هذه الأيام؛ كتنامي قوة ونفوذ أنظمة استبدادية، وتراجع فعالية وعزيمة الديمقراطيات الراسخة، و”الحرب على الإرهاب” التي تجنح إلى تقويض الجهود الرامية إلى إرساء حقوق الإنسان والحكم الرشيد في الأقاليم الرئيسية النامية.
وفي نظر دايموند، فإن الأمر يقتضي إقامة شراكة حازمة بين الجهات الدولية والمحلية الفاعلة لمنع البلدان الديمقراطية الجديدة “الهشة” من الخروج عن مسارها بسبب مشاكل مثل الفساد المنهجي والصراع العرقي.
المهمة الأصعب
يعتقد مدير المشاركة الديمقراطية والحكم في “مؤسسة فورد” راكيش راجاني أن انتشار الراديو والتلفزيون والصحف المستقلة والهواتف المحمولة الأرخص ثمنا والإنترنت؛ سمح بتوليد الأفكار ومشاركتها في أي مكان وبواسطة أي شخص بسرعة وتكلفة غير مسبوقة حتى أنه لم تعد السلطات بعد الآن قادرة على إخفاء ما يحدث وما يعتقده الناس.
دور المؤسسات
تؤمن ديان دي غرامون (طالبة في كلية الحقوق بجامعة ييل) بأنه بإمكان التكنولوجيا أن تكون أداة قوية في أيدي الناشطين المدافعين عن الديمقراطية وتساعدهم في توجيه انتقادات للحكومات ونشرها، وتحديد مواقع الحلفاء المحتملين، وتنسيق الاحتجاجات العامة، وهكذا تظهر بشكل طبيعي كقوة محررة.
ومع ذلك، فإن التحدي المتمثل في النهوض بالديمقراطية أو ترسيخها في العديد من البلدان لا يقتصر فقط على إتاحة سبل التعبير للمواطنين، بل يتعلق أيضا بإنشاء مؤسسات تمثيلية ذات مصداقية يمكنها الاستجابة لمطالب واحتياجات المواطنين.
وحسب دي غرامون، فإن الأحزاب السياسية هي “الحلقة الأضعف” في معظم الديمقراطيات الجديدة (والأقدم عهدا أيضا)؛ فالمواطنون -في رأيها- لا يثقون بتلك الأحزاب ولا يحترمونها، لكن علماء السياسة يعتقدون عموما أن الديمقراطية غير قابلة للتطبيق من دونها.
الأمر معقد
يوجز توماس كاروثرز إجابات الخبراء عن أسباب عدم إسهام تقنيات الاتصال الجديدة خلال السنوات الماضية في أي تقدم للديمقراطية في العالم في 3 نقاط:
- أولاها أن من السابق لأوانه رؤية التأثيرات الكاملة.
- وثانيها أن ثمة عوامل أخرى تفوقت جزئيا على التأثيرات الإيجابية المحتملة لتلك التقنيات أو قيدتها.
- أما النقطة الثالثة فهي أن التكنولوجيا لا تحل بعض التحديات الأساسية لبناء الديمقراطية.