تولد الأفكار الأكثر نضجا للفنان العربي في عالم محدود الإمكانات، وتكون وليدة حصارين أحدهما ذاتي والآخر حصار عام بكل سياقاته. تخرج هذه الأفكار مرعوبة من واقعها الذي لا يستطيع أن يتجاوز محيطه، وفي المقابل نشاهد مشاعر أبناء العالم الأول الآمنين تماما، على الأقل أثناء الحديث عما يغضبهم، في أصدق حالاتها متجاوزة حياتهم الهادئة، لكنها مرعوبة من الآلة التي هي مصدر عجزهم الوحيد من المستقبل، ومن ثم تأتي النتيجة في صورة خطاب خائف من ماضيه القبيح الذي لا يمكن محوه، ومرعوب من أمنه الاستثنائي من دون منطق من المجهول غير البشري.

وقد كانت رواية الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو إيشيغورو (أديب نوبل) الأخيرة شاعرية في حديثها عن الروبوت، لكنها حكاية مرعوبة كصاحبها، وكذلك خرج مسلسل الرسوم المتحركة “حب وموت وروبوتات” أو (Love Death + Robot) ليكمل 3 مواسم سوداء تماما ومرعوبة فعلا -رغم سخريتها- من سيطرة الآلة ودمار البشر القريب.

والحلقة الأولى من الموسم الثالث تكاد يتطابق خطابها مع حلقته الأولى في الموسم الأول، حيث نشاهد خلالهما الأبطال “الروبوتات” يلقون خطابا يعني “أن البشر ظنوا أن التكنولوجيا ستنقذهم”، وهذا الخطاب جاء مصحوبا بتنويعات بصرية تؤكد ذلك الرعب.

وفي المسلسل تتساءل “الروبوتات” عما يمكن الاستمتاع به في اكتشاف الأراضي الواسعة، وتجاهل آلاف الجثث الملقاة، ويفسر ذلك “مرشدهم” في المسلسل تتساءل “الروبوتات” عما يمكن الاستمتاع به في اكتشاف الأراضي الواسعة، وتجاهل آلاف الجثث الملقاة، ويفسر ذلك “مرشدهم” بقوله “إنها لحظة فارقة في حياة البشر عندما تم الفصل بينهم على أساس طبقتهم بشكل جذري”.

ووسط زحام محاولات السيطرة على الإمكانات، يتم التخلص من الفقراء تماما لأنه لا يمكن الرهان عليهم ولا يمكن دفع ضريبة هروبهم، بينما سعى الأغنياء للهروب بعيدا، ظنا منهم أن ذلك يمثل أمانا من “الآلة الخطرة”، بينما يسعى الأكثر ثراء إلى البحث عن كوكب بديل للأرض. نفهم كل ذلك في لحظة تظهر خلالها خيبة أمل جميع البشر وفناؤهم على لسان آلي صغير يسخر من الغباء غير المحدود لهم.

ونشاهد هذا الخطاب الفني في وقت “ما بعد نهاية العالم” باعتباره خطابا أثبت فشله بالفعل مع سيطرة الآلة وبقائها على حساب البشر في حلقات رسوم متحركة تلفزيونية قصيرة منفصلة متصلة تفترض بناء على هذا التخيل.

ونجد كاميرا بانورامية تتجول لترصد الفناء البشري الكامل وسط خطوات واثقة متأملة تثبت كيف يسيطر الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي على العالم آنذاك، وما كان يمكن السعي خلفه لعدم الوصول لتلك الكارثة.

ولا ننسى التأكيد المتكرر على مدار كل حلقة الذي يؤكد أن الفناء البشري حدث بسبب أطماع البشر وسعيهم للمزيد من السيطرة التي أدت إلى نتائج عكسية للكوكب كله في مقابل بقاء الآلة التي راهنت على ذكائها فقط ولم تسع بطمع نحو السيطرة والأنانية كما لم تدخل في صراعات فيما بينها.

والرجل الأبيض أو إنسان العالم الأول يمثل مجموعة لم يستطع إيقافها شيء واستطاع على مدار نصف قرن أن يجني مكاسب شرعية وغير شرعية على حساب جيرانه وأبناء جنسه من دول كانت أقل منه تعليما وإمكانات ولم يجد منافسا ما يمكن أن يشعره بأي نوع من العجز الفكري أو المستقبلي.

تبدأ كل الحلقات بالبناء على هذا التصور من السيطرة السلبية التي تفقد روحها مع المزيد من الطمع لتحمل عبء الرجل الأبيض على اعتباره متجاوز للبشرية ذاتها.

وقد عبر الشاعر البريطاني المولود في الهند روديارد كبلنج في قصيدة “عبء الرجل الأبيض عن هذا المعنى قائلا “هيّا تحمل عبء الرجل الأبيض/ ابعث بخيرة شبابك/ وانفهم إلى أقاصي الأرض/ كي يلبوا حاجة الأسرى/ كي يحملوا أثقالا جثاما/ عن المرتعشين المتوحشين/ شعوبك الجديدة المكفهرة المتجهمة/ نصف شيطان ونصف طفل”.

ولم ينس الصناع هنا أن يثبتوا عجز جميع الحواس البشرية في مقابل الآلة كاملة الأوصاف، حيث ثمة حلقات تنهار فيها الأعين، وأخرى تعجز فيها الأذن، بعضها تعجز فيه الأسلحة والأيدي الممسكة بها، حتى إنه لا يسلم من البشر من يستخدم أقدامه للركض، لا يصمد شيء أمام الآلة، لا مفر سوى بالنجاة الفردية وإعلان العصيان على الأنانية البشرية.

وعندما يختار رجال السفينة في أحد الحلقات النجاة عن طريق التضحية ببلدة أخرى يأكلها الوحش غير البشري، يكون مصيرهم الموت مقابل نجاة الرجل الوحيد الذي يرفض ذلك، كما يلقى المصير ذاته الضابط الذي يريد إطلاق سراح الوحش المقيد ليفتك بأعدائه.

ونشهد هلاك السيدة التي ترفض التضحية بقطتها مقابل أن تعيش، كما نشهد بطولة الفتاة التي لا تريد أن تترك جثة صاحبتها، وتبدو تلك التضحيات السبيل الوحيد للنجاة الشريفة من سيطرة الآلة والتخلص من الأنانية المفرطة.

وفي الحلقة الثانية من الموسم الثالث نشاهد واحدة من أكثر حلقات المواسم تماسكا وقوة وإيجاز. 5 دقائق تحكي قصة خروج “الزومبي” للسيطرة على كل بلاد العالم في مشاهد متصلة لأكبر الدول كل على حدة، يحدث ذلك فقط لاستنكار كل دولة طلب المساعدة والسعي الحثيث للنجاة بمفردها.

وينتهي العالم على وقع موسيقى ملحمية لبيتهوفن ولا يبقى شيء سوى التأكيد على التخلص من الرعونة البشرية والتخلص من الفردية القاتلة التي يمثل أحقر صورها الرجل الأبيض في نسخته الأحدث.

فهل تنتهي مخاوف الرجل الأبيض من سيطرة الآلة؟ لا يمكننا التعويل على ذلك، لكنه يبدو عمل تحذيري غير منتهي. يهدف ذلك التحذير للعمل أكثر على إعطاء قيمة للبشر الذين يمكن تصنيفهم في عوالم “متدنية” عن العالم الأول، وهو تصنيف أكثر من إظهار الرعب من المجهول المتمثل في الإنسان الآلي غير مأمون العواقب.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *