كان لمرض فيروس كورونا (كوفيد-19) تأثير يشبه السحر على نمو أرباح شركات التكنولوجيا في العالم، إذ أدرك البشر -ربما لأول مرة- أهمية هذه الشركات والخدمات التي تقدمها، فخدمات مثل “التسوق عن بعد” و”العلاج عن بعد” و”التعلم عن بعد”، وصولا إلى “العمل عن بعد”، كان لها دور حاسم في استمرار دورة الحياة والعمل في أثناء الإغلاقات المتعددة والطويلة خلال الجائحة التي بدأت أوائل عام 2020 وما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن.

تحول كل شيء في هذا العالم إلى الرقمية، وصار كل شيء رقميا بامتياز، وانعكس هذا على أرباح شركات التكنولوجيا الكبرى في العالم التي حققت قفزات نوعية في حجم ونوعية الخدمات التي تقدمها، وكذلك الحال في أرباحها التي وصلت إلى أرقام فلكية.

أرباح فلكية زمن الجائحة

وعلى سبيل المثال، في عام 2021، حققت عمالقة التكنولوجيا الخمسة الكبار —شركات “آبل” (Apple) و”أمازون” (Amazon) و”غوغل- ألفابت” (Google-Alphabet) و”ميتا” (Meta) و”مايكروسوفت” (Microsoft)— مجتمعة أرباحا وصلت إلى 1.4 تريليون دولار، وذلك حسب ما ذكرت منصة “فيجوال كابيتاليست” (Visual Capitalist) مؤخرا.

وإذا قارنا بين أرباح هذه الشركات في عامي 2020 و2021، فسنجد قفزات كبرى، مثلا، حققت شركة ألفابت (الشركة الأم لغوغل) أرباحا وصلت إلى 182.5 مليار دولار عام 2020، لتقفز إلى 257.6 مليار دولار عام 2021، وحققت مايكروسوفت أرباحا وصلت إلى 143.1 مليار دولار عام 2020 لتقفز إلى 168.1 مليار دولار عام 2021، أما شركة ميتا، فحققت عام 2020 أرباحا بلغت 86 مليار دولار عام 2020، لتصل إلى 117.9 مليار دولار عام 2021، وذلك حسب تقرير منصة فيجوال كابيتاليست.

LONDON, ENGLAND - AUGUST 03: A finger is posed next to the Snapchat app logo on an iPad on August 3, 2016 in London, England. (Photo by Carl Court/Getty Images)
تطبيق وسائل التواصل الاجتماعي “سناب شات” خفض توقعات المبيعات والأرباح مؤكدا أنه سيتباطأ في التوظيف (غيتي)

لكل قمة نهاية

من الواضح أن شركات التكنولوجيا عاشت عصرها الذهبي في أثناء الجائحة، ولكن لا شيء يبقى على حاله، فكل قمة لها بداية انحدار، ويبدو جليا أن عام 2022 هو بداية هذا الانحدار الذي لا يعرف أحد بعد قاعه الذي يمكن أن يصل إليه.

فمن مدينة سياتل إلى وادي السيليكون إلى مدينة أوستن، هناك حقيقة جديدة قاتمة تظهر في المشهد التكنولوجي؛ وهي أن حقبة طويلة من المكاسب السريعة في المبيعات ونمو الوظائف غير المحدود وأسعار الأسهم المتزايدة الارتفاع تقترب من نهايتها.

ويظهر محلها عصر “التوقعات المتناقصة” التي تتميز بتقليص الوظائف والتباطؤ فيها، مع توقعات النمو المتدنية، وخطط التوسع المؤجلة، وكل هذا يضر بمعنويات الموظفين، ويؤثر في قدرة الصناعة على جذب المواهب، ولها آثار واسعة النطاق على النمو الاقتصادي والابتكار في الولايات المتحدة، وذلك حسب ما ذكر الكاتب كيرت واغنر في تقرير له مطول نشرته منصة “بلومبيرغ” (Bloomberg) مؤخرا.

ويزداد الأمر سوءا يوميا على خلفية التباطؤ الاقتصادي الذي يبدو أنه سيدوم طويلا بفعل الحرب الطاحنة في أوروبا، وارتفاع أسعار الفائدة والتضخم، والوباء العالمي الذي يدخل عامه الثالث، الذي لم يعد محفزا على النمو كما كان في السابق مع عودة الحياة إلى طبيعتها في مختلف أرجاء العالم.

وخلال مايو/أيار الماضي فقط، انضم موكب من الأسماء الكبيرة إلى الحشد؛ إذ قامت شركة تطبيق وسائل التواصل الاجتماعي “سناب” (Snap INC) يوم 23 مايو/أيار بخفض توقعات المبيعات والأرباح، مؤكدا أنه سيتباطأ في التوظيف، وفي اليوم التالي، قالت شركة “ليفت” (Lyft Inc) إنها ستقلص التوظيف وستبحث عن تخفيضات أخرى في التكاليف، وبعدهما بأيام، استغنت شركة مايكروسوفت عن التوظيف في عدة أقسام رئيسية، في حين قالت شركة “إنستاكارت” (Instacart) إنها ستعيد النظر في خطط التوظيف، لتقليص التكاليف قبل الطرح العام الأولي المخطط له.

ويؤكد الكاتب أن “قرع الطبول” استمر خلال يونيو/حزيران الجاري؛ إذ أخبر إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة “تسلا” (Tesla)، موظفيه أن الشركة العملاقة ستقوم بتقليل القوى العاملة فيها بنسبة 10%، كما سيتم إيقاف عمليات التوظيف في فروع الشركة في أرجاء العالم كافة.

ومن جانبها، صرحت شركة “كوين بيس غلوبال” (Coinbase Global Inc) لصرافة العملات المشفرة أنها ستمدد تجميد التوظيف، وتلغي عددا من عروض العمل المقبولة سابقا بسبب ظروف السوق.

ويشير واغنر -في تقريره- إلى أن التوقعات المتشائمة كانت تتزايد بالفعل طوال الفترة الماضية، وعلى سبيل المثال توظف شركة أمازون عددا هائلا من العمال، وتملك مخازن كثيرة وشاسعة جدا، ولكن أعمالها تضررت بسرعة بسبب ارتفاع التضخم الصاروخي في البلاد، أما شركة ميتا، فتعمل بهدوء على تقليص النفقات، في حين جمدت “تويتر” (Twitter) عمليات التوظيف الجديدة تماما، وسحبت بعض عروض العمل قبل استحواذ ماسك عليها.

وحذرت شركة آبل في أبريل/نيسان الماضي من أن القيود المتعلقة بفيروس كورونا في الصين ستقلل حجم الإيرادات بنحو 8 مليارات دولار خلال الربع الحالي.

NEW YORK, NY - MARCH 13: A signage of Microsoft is seen on March 13, 2020 in New York City. Co-founder and former CEO of Microsoft Bill Gates steps down from Microsoft board to spend more time on the Bill and Melinda Gates Foundation. Jeenah Moon/Getty Images/AFP== FOR NEWSPAPERS, INTERNET, TELCOS & TELEVISION USE ONLY ==
شركة مايكروسوفت استغنت عن التوظيف في عدة أقسام رئيسية (الفرنسية)

تحول كبير في صناعة لم تعد محصنة

وفي الواقع، فإن كل هذا يشير إلى تحول كبير في صناعة بدت محصنة وقوية جدا قبل أشهر فقط. وقال توم فورتي -المحلل التكنولوجي في شركة “دي إيه ديفيدسون” (D.A. Davidson)- في تصريحات لبلومبيرغ نقلها الكاتب “لم تعد هناك رهانات مؤكدة؛ فهناك الكثير من العوامل التي تعمل ضدهم الآن”.

وفقد مؤشر “ناسداك” (Nasdaq) -المختص بشركات التكنولوجيا- ربع قيمته منذ 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عندما وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق.

ويشير الكاتب إلى أن شبح تقليص الوظائف يطارد الموظفين في وادي السيليكون، الذين أخذوا يعربون عن قلقهم بشكل متزايد؛ ففي تطبيق “بليند” (Blind)، وهو تطبيق يمكن للموظفين استخدامه للتحدث عن أصحاب العمل من دون الكشف عن هويتهم، زادت المناقشات حول تجميد التوظيف بمقدار 13 مرة من 19 أبريل/نيسان إلى 19 مايو/أيار الماضيين مقارنة بالعام السابق، وزادت المناقشات بشأن التسريح من الخدمة بمقدار 5 مرات، وارتفع الحديث عن الركود بمقدار 50 مرة.

كما تم تداول تكهنات على نطاق واسع من أن شركة ميتا تستعد لتسريح عدد كبير من موظفيها في مايو/أيار الماضي، مما أدى لانتشار وسم “تسريح موظفي شركة ميتا” (#metalayoff) بشكل هائل، وبالذات على منصة “لينكدإن” (linkedin) حيث بدأ العشرات من مسؤولي التوظيف وأرباب العمل في استخدام الوسم لتقديم فرص عمل بديلة، وهو الأمر الذي دفع شركة ميتا للتأكيد أن الشركة ليست لديها خطط حالية لتخفيض عدد الموظفين.

ويشير تقرير بلومبيرغ إلى أن ما كان ذات يوم محركا للنمو في الاقتصاد الأميركي قد تعثر مؤخرا، إذ فقد أكثر من 126 ألف عامل في مجال التكنولوجيا وظائفهم خلال الأشهر الماضية. وقالت شركة “نتفليكس” (Netflix) الشهر الماضي إنها سرحت 150 عاملا بعد أن فقدت العديد من المشتركين لديها، وهوت أسهم عملاق البث بنسبة 71% منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

أما في ميتا، فيعمل المديرون على إبطاء التوظيف في العديد من المناصب المتوسطة والعليا على مستوى الشركة، وفي أبريل/نيسان الماضي أوقفوا تعيين مهندسين ذوي خبرة محدودة. وفي غضون ذلك، يستعد موظفو تويتر للتسريح المحتمل بينما تنتظر الشركة وصول المالك الجديد إيلون ماسك، الذي تضمن عرضه للاستحواذ على الشركة على خفض التكاليف.

وكان الرئيس التنفيذي للشركة باراغ أغراوال أخذ خطوة استباقية في أوائل مايو/أيار الماضي، حين أرسل لموظفي تويتر رسالة مفادها أن الشبكة الاجتماعية ستبدأ بتخفيضات في تكاليف السفر والتسويق والفعاليات، وطلب من المديرين كافة “إدارة ميزانياتك بإحكام، وإعطاء الأولوية لما هو أكثر أهمية”، كما ذكر الكاتب في تقريره.

ربما تكون الصدمة الأكبر في شركات مثل ميتا وتويتر و”أوبر” (Uber) التي كانت لا تزال في مهدها نسبيا في المرة الأخيرة التي تعرضت فيها صناعة التكنولوجيا لضربة قوية، وذلك خلال الأزمة المالية عام 2008، لكن الاختلاف هذه المرة هو أن الوباء عزز مدى أهمية وضرورة العديد من هذه المنتجات التقنية، مما منحها بعض الحماية من الأضرار الاقتصادية الأولية لإغلاق كوفيد-19.

تطبيقات العمل عن بعد كان لها دور حاسم في استمرار دورة الحياة في أثناء الإغلاقات المتعددة والطويلة أيام الجائحة (شترستوك)

الشركات تستعد لموسم طويل من عدم اليقين

وقال راسل هانكوك -الرئيس التنفيذي لشركة “جوينت فينتشر سيليكون فالي” (Joint Venture Silicon Valley)، وهي منظمة غير ربحية تدرس اقتصاد وادي السيليكون- لمنصة بلومبيرغ “اكتشف الجميع أن التكنولوجيا لم تكن جميلة فحسب، بل لا غنى عنها أيضا”، وأضاف أن “ما يحدث الآن يبدو أنه تصحيح للسوق”.

ومع استعداد الشركات لموسم طويل من عدم اليقين بشأن أعمالها، يتعين عليها اتخاذ خيارات صعبة بشأن الاستثمارات وذلك بعيدا عن التوظيف والتسويق؛ فعلى سبيل المثال، شركة أمازون -التي استثمرت في عام 2020 بشكل كبير في التوظيف وزيادة مساحة المستودعات التي احتاجتها بسبب الطلب الكبير زمن الجائحة- تجد نفسها أمام عدد ضخم من المستودعات وعدد كبير من العمال الذين لم تعد بحاجة إليهم.

وأثار إعلان الشركة أن لديها مساحة أكبر بكثير مما تحتاجه فزع مئات الموظفين في قسم العقارات التابع لها، وذلك وفقا لما ذكره شخص مطلع على الوضع. وقال هذا الشخص -الذي رفض الكشف عن اسمه- إن “الموظفين الذين كانوا يعملون سابقا بمشاريع بناء متعددة لم يعد لديهم الكثير ليفعلوه”، وقد نصحهم مديروهم باستخدام وقت إضافي للتركيز على “التعلم والتطوير”، وهو الأمر الذي لم يكن مطمئنا على الإطلاق.

هل يموت وادي السيليكون؟

ربما بدأت الهالة -التي لا تقهر- في التلاشي، لكن وادي السيليكون أبعد ما يكون عن الموت -كما يؤكد الكاتب- حيث تبلغ نسبة البطالة في منطقة كاليفورنيا 2% فقط، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 1999، وفقا لشركة جوينت فينتشر، كما وجدت بيانات إضافية من مركز الدراسة المستمرة لاقتصاد كاليفورنيا أن نمو الوظائف في المنطقة خلال العام الماضي بلغ 5.8%، وهو أسرع من المتوسطات الوطنية والحكومية الأخرى في أميركا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *