أحيا الأيرلنديون أمس الخميس مئوية رواية “عوليس” للشاعر والروائي جيمس جويس، وهي أحد أبرز المؤلفات الأدبية باللغة الإنجليزية، بالتزامن مع الاحتفال بيوم “بلومسداي” التقليدي، مما يجعل العيد عيدين.

وتروي قصة “عوليس” التي نُشرت في باريس عام 1922، تفاصيل ترحال ليوبولد بلوم، وهو أيرلندي عادي يتابع بشكل غير مباشر المغامرات نفسها التي عاشها بطل ملحمة هوميروس عند عودته من طروادة.

 

وتدور أحداث الرواية -التي ترجمها للعربية المترجم المصري الراحل طه محمود طه عام 1982- في دبلن التي كانت آنذاك تحت السيطرة البريطانية، في 16 يونيو/حزيران 1904، وهو يوم “بلومسداي” الذي يحتفل به كل عام الأيرلنديون المولعون بالكاتب.

وحُظرت الرواية لسنوات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة بسبب فقرات وُصفت بأنها “مبتذلة”. غير أن ذلك لا يثبط عزيمة الأيرلنديين في الاحتفال بيوم 16 يونيو/حزيران بحماس.

مشاركون بالاحتفالات يحملون نسخ من رواية “عوليس” لجيمس جويس (رويترز)

احتفالات

ومنذ بداية الأسبوع، يتجول المعجبون في ملابس من تلك الحقبة ويعيدون تمثيل مشاهد من الكتاب من مختلف أنحاء العاصمة الأيرلندية.

وفي حصن أقام فيه جويس وأصبح متحفا ومزارا تم تقديم عرض عن لقاء متخيل بين المؤلف الأيرلندي والكاتب الفرنسي المعاصر له مارسيل بروست. ويناقش عملاقا الأدب خلال هذا اللقاء إرث جويس أثناء احتساء مشروب قبل عرض صباحي.

ويقول توم فيتزجيرالد الذي يؤدي دور جويس لوكالة “فرانس برس” (AFP) “من الرائع المجيء إلى هنا والغوص في أجواء تنطوي على قليل من الجنون”، مضيفا “البعض يأخذ (الحدث) على محمل الجد”.

وتتجاوز الاحتفالات حدود أيرلندا، إذ تُنظم احتفالات في السفارة الأيرلندية في جنوب أفريقيا وفيتنام، فضلا عن مهرجان مخصص للكتاب في كل من كندا والصين.

قراءة مشهد من رواية “عوليس” أثناء الاحتفال بمئوية الرواية في أيرلندا (رويترز)

أديب أيرلندا

كتاب “عوليس” الذي يصنفه كثير من النقاد من أهم أعمال اللغة الإنكليزية في القرن الـ20، هو رواية من العيار الثقيل يصعب تصنيفها، تمتزج فيها الأنواع وتقنيات السرد القصصي وتستحضر القومية الأيرلندية والعقيدة الدينية والأسئلة المتعلقة بالهوية الجندرية.

ورفضت الحكومة الأيرلندية التي كانت في زمن الشاعر تحت تأثير الكنيسة الكاثوليكية، إعادة جثة جيمس جويس إلى الوطن بعد وفاته في يناير/كانون الثاني 1941 عن عمر يناهز 58 عاما، بسبب الانتقادات العنيفة التي وجهها ضد المؤسسة الكنسية.

وعانى جيمس جويس كثيرا في حياته، وكان يقطع يوميا مسافة كبيرة ليركب القطار ثم السيارة ثم الدراجة ليقف على شاطئ البحر ويصعد إلى السفينة؛ ليقوم بتدريس ابنة الربان مقابل 5 شلنات، وهو مبلغ يكفي لوجبة بسيطة.

واللغة التي كتبت بها عوليس معقدة، فالكاتب ينحت كلمة واحدة من لفظين في لغتين مختلفتين، وهذا ينعكس حتى في أسماء الشخصيات، وكتبها جويس في 17 سنة، وهي دائرة معارف كاملة لعوالم جويس المتعلقة بالجنس البشري، واستخدم فيها تقنية الحلم والكابوس وتوارد الخواطر.

ولا يزال الكاتب الذي عُرف بشاربه ونظاراته الطبية وأمضى معظم حياته في أوروبا القارية، مدفونا في مدينة زيورخ بسويسرا، حيث يأتي الزوار للتأمل أمام قبره.

ورغم أسلوبها الصادم حينها، فإن الرواية التي كتبها جويس أثناء وجوده على الجبهة خلال الحرب العالمية الأولى، تتسم بروح الدعابة اللاذعة، كما تدفع القارئ للتأمل، إذ استعاد مؤلفها أسطورة هوميروس وكيّفها مع دبلن في ذلك الوقت.

وتقول دارينا غالاغر مديرة مركز جيمس جويس في دبلن إن “عوليس” التي نُشرت في العام نفسه لإنشاء الدولة الأيرلندية، تثير تساؤلات لا تزال البلاد تثيرها على نفسها، وتضيف “لم نتمكن حقا من الحديث عن المسائل الجندرية والسياسة والهوية والقومية. وما زلنا ننمو كمجتمع للتعامل مع قضايا الكنيسة الكاثوليكية التي كتب عنها جويس”.

شخص يحمل نسخة من رواية “عوليس” في الاحتفال بمئوية الرواية في دبلن (رويترز)

رواية اليومي والمتخيل

وفي مقاله المنشور سابقا بالجزيرة نت نوه الناقد والشاعر الراحل أمجد ناصر بأن “عوليس” كتبت بالإنجليزية وليس باللغة الأيرلندية (غيليك) شبه المنقرضة، معتبرا أن كاتبها جدد في لغة شكسبير ووسع إطارها على مستوى المفردات والمعاني، ولم يخض في المعركة الثقافية التي قام بها كتاب أيرلنديون ضد الاستعمار البريطاني، بل يمكن القول إنه رفض الكاثوليكية، أحد أبرز مكونات “الهوية” الأيرلندية، ولم يعد لزيارة بلاده مذ غادرها قط واحتفظ بجواز سفره البريطاني حتى مماته.

لكنّ هذا لا يمنع -وفق ناصر- أن يشكل اسم جويس وتراثه الأدبي مصدرا للفخر القومي الأيرلندي، باعتبار صاحب “عوليس” أيرلندي الأصل والنشأة، فضلا عن الحضور الطاغي لمدينة دبلن -عاصمة إيرلندا- في أدبه إلى درجة أن أحد أعماله يدعى “أهل دبلن”.

James Joyce (1882-1941) the Irish writer. His work includes, Dubliners (1914), Portrait of an Artist as a Young Man (1914) and Ulysses (1922). His contribution to the development of Twentieth Century literature was immense, particularly in terms of structure and style, with the 'stream of conciousness' technique. ca. 1938. (Photo by © Hulton-Deutsch Collection/CORBIS/Corbis via Getty Images)
رغم أنه كتب بالإنجليزية؛ فإن اسم الأديب الأيرلندي جويس يشكل مصدرا للفخر القومي الأيرلندي (غيتي)

وينقل ناصر عن جيمس جويس تصريحه في أواخر حياته القصيرة نسبيا (1882-1941) بأنه ترك في روايته ألغازا وأسرارا ستشغل الأساتذة (النقاد والأكاديميين على الأغلب) مئات من السنين، ورأى أن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان الخلود.

ومزج جويس اليومي بالمتخيل والتفصيلي بالثقافي والفكري، بحيث يبدو لنا أن اليوميّ لا يقل جدارة -أدبيا- عن الملحمي، فربّ ملحمي كان في وقته وأوانه يوميا. فكأن جويس، بتركيزه على اليومي والتفصيلي (فواتير، قصاصات صحف، إعلانات… إلخ) يريد أن يقول لنا إن كل يوم في حياة رجل، أو امرأة، هو أوديسة. هذا النهر المتدفق من التفاصيل اليومية بمقدوره أن يتحول بقلم سارد كبير مثل جويس إلى نهر من أنهار الأسطورة، وفق الكاتب الراحل.

ويلمس قارئ الرواية حركة “بندولية” بين الماضي والحاضر، فمن الصعب تجاهل البروق التي تحيل إلى التاريخ (والأدبي خصوصا)، فكأن جويس يضيء بهذه الحركة البندولية الماضي، في حين يتحدث عن الحاضر، ويضيء الحاضر في حين يحيل إلى الماضي؛ الأمر الذي يدفعنا إلى الظن أنه يربط بذلك تاريخ الآداب الأوروبية منذ الإغريق، وصولا إلى الحاضر (دبلن مطلع القرن الـ20) في سلسلة لا انقطاع فيها ولا شغور.

المصدر : الجزيرة + الفرنسية

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *