الباحثة الفرنسية إليونور سيلارد: العربية ليست لغتي الأم ولكني فُتنت بجماليات الكتابة على أوراق الرَق
تزخر المكتبات العربية والعالمية بمجموعات مهمة من المخطوطات العربية القديمة، وتحظى بشهرة كبيرة لتنوعها ومحتوياتها وتاريخها، وتتراوح موضوعاتها بين الأدب والعلوم والفلسفة والعلوم والنصوص الدينية والطب والفلك والتاريخ والفقه وعلوم اللغة وغيرها.
وإذ تجاوزت شهرة المخطوطات العربية العالم العربي، أصبح باحثون غربيون من المغرمين بتلك المخطوطات بعد تعرفهم عليها، وعمل بعضهم في البحث والتنقيب عن أصولها، وظروف نشأتها وتداولها عبر الزمن.
ومن بين هؤلاء، كانت الباحثة الفرنسية إليونور سيلارد، التي أجرت معها وكالة سند للرصد والتحقق الإخباري، بشبكة الجزيرة، حوارًا مطولًا عن مسيرتها البحثية، وسر اختيارها مجال المخطوطات الإسلامية، إلى جانب المعوقات التي تقابلها، ورسالتها من هذا العمل والاهتمام به.
وأكدت سيلادر -في حديثها- أن “اللغة العربية لم تكن لغتها الأم ولا الثانية أو الثالثة، ولم يكن الإسلام دينها وثقافتها”، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنها “فُتنت بجماليات الكتابة اليدوية العربية وخاصة الخط الكوفي على أوراق الرَق في سن المراهقة”.
وسيلادر باحثة فرنسية في الدراسات الإسلامية متخصصة في المخطوطات القرآنية المبكرة، وبعد دراستها اللغة العربية والأدب والحضارة في “معهد اللغات والحضارات الشرقية” (INALCO) في باريس، تخرجت بدرجتي الماجستير والدكتوراه في المخطوطات القرآنية المبكرة عام 2015.
وقالت “تعاونت في العديد من المشاريع الأكاديمية في أوروبا، ونفذت مشاريع بحثية في مجالات اهتمامي. ومنذ بداية عام 2022، أجري أبحاثي بشكل مستقل بنهج متفتح لفرص التعاون الجديدة”.
لماذا اخترتِ دراسة المخطوطات القرآنية المبكرة؟
كنت مفتونة بجماليات الكتابة اليدوية العربية، خاصة الخط الكوفي على أوراق الرَق في سن المراهقة؛ حيث كنت أقضي وقت فراغي في جمع صور لأوراق القرآن القديمة بالخط الكوفي من أجل إعادة إنتاجها.
قررت بعد ذلك أن أتعلم اللغة العربية في الجامعة وبدأت اكتشاف القرآن، وكذلك الآثار الأدبية الأخرى مثل الشعر الجاهلي، التي هي أصل اللغة العربية الفصحى.
خلال دراستي للماجستير، أدركت مجالًا تاريخيًا مخصصًا لدراسة النصوص والكتب القرآنية القديمة، والكتابات القديمة، وعلم المخطوطات. في ذلك الوقت، أدهشتني حقيقة أنه، حتى اليوم، لا يوجد دليل على وجود مخطوطات مؤرخة من القرن الأول والثاني للإسلام.
بعد ذلك وجهت أبحاثي نحو تلك المشكلة، وبدأت أتساءل في حالة عدم وجود تاريخ مكتوب، إلى أي مدى يمكن استخدام علم الحفريات وعلم المخطوطات لإعادة بناء التسلسل الزمني للمخطوطات؟ ومن المثير للاهتمام أن هذه التخصصات تقدم أيضًا بعض وجهات النظر المباشرة حول عالم الحرفيين والكتبة والقراء الذين تفاعلوا مع النصوص القرآنية في ذلك الوقت.
ما أكثر شيء لفت انتباهك خلال سنوات البحث والدراسة؟
تغيرت زاوية دراستي خلال السنوات العشر التي قضيتها في دراسة المخطوطات، في أبحاثي الأولى كنت أركز على النص القرآني وأشكال النطق به، أي تقاليد القراءة في الإسلام، المعروفة بالقراءات.
ثم أدركت تدريجيًا أنه يمكن إعادة تفسير هذه الاختلافات النصية إذا تمكنا من استبدال المخطوطة في سياقها التاريخي. ثم أصبحت أسئلتي متى وأين تم إنتاج هذه المخطوطة؟ أين تم تداولها؟ ومن الذي نقلها حتى الوقت الحاضر.
نظرًا لأن معظم المخطوطات القرآنية المبكرة لا تحتوي على معلومات عن الأشخاص المشاركين في تفصيلها ونقلها ومكان النسخ وتاريخها، فإننا نعتمد على طرق مختلفة للدراسة -مثل أنماط النص أو مواد الكتابة- لإلقاء الضوء على السياقات التاريخية للمخطوطات.
خلال أبحاثك، ما الدول الأكثر امتلاكًا للمخطوطات القرآنية؟
من الصعب الجزم بتلك المعلومة، لكن بناءً على علمي، فإن أقدم المخطوطات القرآنية تم اكتشافها في مساجد الفسطاط (القاهرة القديمة) ودمشق وصنعاء. ومع ذلك، تم تداول المخطوطات دائمًا على مر العصور، فلا علاقة لأماكن الاكتشاف هذه بأماكن الإنتاج. باستثناء مجموعة صنعاء التي ظلت في الغالب في مكانها، فإن كل هذه المخطوطات منتشرة اليوم في المكتبات والمتاحف في جميع أنحاء العالم.
الآن، المجموعة التي بنيت عليها أبحاثي ليست شاملة. ما زلنا نفتقد إلى مسح كامل لجميع مجموعات المخطوطات في العالم. في ظل هذه الظروف، من الصعب للغاية تحديد الدول التي تمتلك أقدم مخطوطة.
يمكن أن تكون بعض الأجزاء هنا أو هناك في مجموعات خاصة أو عامة، وإعادة تجميع الأجزاء المشتتة عمل تمهيدي. قمت مؤخرًا بتحرير مخطوطة نشأت في مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط (مصر)، وتناثرت أوراقها بين سانت بطرسبرغ وباريس ولندن والدوحة.
هل تتعاونين مع الباحثين والمؤسسات العربية والإسلامية في أثناء أبحاثك عن المخطوطات القرآنية؟
بالتأكيد، ويبدو لي التعاون مع العلماء العرب والمسلمين مثمرًا وضروريًا. بناءً على تعليمنا وخبراتنا، لدينا طريقة تكميلية لدراسة المخطوطات. بالإضافة إلى معرفتهم الكبيرة بنص القرآن نفسه، فهم يعرفون تقاليد الأجداد في ما يتعلق بالمخطوطات وإنتاجها، مثل تحضير الأحبار.
من جانبي، أقوم بتطبيق منهجية علمية مستوحاة من دراسات المخطوطات اللاتينية واليونانية، واستغلال أدوات مثل علم الترميز الكمي أو التحليلات الكيميائية الفيزيائية لتوصيف الأحبار. يمكن أن يؤدي تضافر جهودنا إلى توسيع معرفتنا بالمخطوطات وتاريخها.
ما البحث الذي تعملين عليه في الوقت الحالي؟
أقوم حاليًا بوضع اللمسات الأخيرة على مشروع تمت رعايته عام 2020 من قبل المكتب المركزي للأديان/ الطوائف، التابع لوزارة الداخلية الفرنسية.
كان هذا المشروع يركز على مخطوطة قرآنية ضخمة للغاية مكتوبة بالخط الكوفي، جاءت من مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، والمعروفة أيضًا بإحدى نسخ الخليفة الثالث عثمان بن عفان، مكتوبة بخط يده وملطخة بدمه، لأنه اغتيل وهو يقرأها.
مثل هذه المخطوطات، تكون أوراقها الآن منتشرة في عدة مؤسسات، وكان علي زيارة المكتبات والمتاحف الوطنية في العديد من البلدان للحصول على صورة كاملة للمخطوطة الأصلية، وسمح لي هذا البحث الرائع بتوسيع نطاق تحقيقاتي، لا سيما في النظر إلى رحلتها اللاحقة عبر القرون.
إلى جانب الأسئلة الأولية “من كان قادرًا على إنتاج مثل هذه المخطوطة وتحت أي ظروف” و”ما الصلة بإسنادها الحالي”، أدركت أن تاريخ المخطوطات لا يقتصر على مرحلة الإنتاج، ولكنه أيضًا إلى حد كبير يتأثر بمسائل الاستخدام والتداول والنقل والحفظ.
تظهر دراستي أن المخطوطة في حالتها الحالية لم تُنشأ في سياق واحد بل في عدة سياقات. بمرور الوقت، تم عمل أوراق أخرى -أو مأخوذة من نسخة أخرى- لإكمال الأقسام المفقودة التي تم إتلافها أو استخدامها للتداول في مواقع أخرى، حتى منتصف القرن التاسع عشر.
كيف تتغلبين على طبيعة العمل الذي يحتاج إلى السفر في العديد من البلدان حول العالم؟
تلعب التكنولوجيا دورًا حيويًا في الآونة الأخيرة، فالقدرة على الوصول إلى الصور من المجموعات في جميع أنحاء العالم ومقارنتها مباشرةً من المنزل أصبح سهلًا بشكل غير مسبوق.
وقد اتضح أن ذلك أمر بالغ الأهمية خلال جائحة كوفيد-19، مما سمح بالاتصالات المستمرة والتعاون مع القائمين على هذه المجموعات من المخطوطات والمُعاد ترميمها في باريس وسانت بطرسبرغ وديترويت والقاهرة وأماكن أخرى.
الآن، لا يزال البحث يدور حول السفر ويمكن أن يكون متطلبًا للغاية؛ فعليك قضاء الكثير من الوقت في المكتبات، واستكشاف المجموعات من خلال اتصال مباشر مع المخطوطات. السفر ومقابلة الأشخاص غير العاديين الذين يدرسون المخطوطات ويحفظونها وينقلونها هو أيضًا مغامرة إنسانية رائعة.
أود أن أقول إن التكنولوجيا والسفر متكاملان، أقوم بالنشر على تويتر عن مخطوطات القرآن والمشاريع الجارية، إن ذلك يعطي أيضًا بعض الشعور الديناميكي والفوري بالبحث، إذ يوازن وقت النشر في المجلات الأكاديمية الذي قد يستغرق أحيانًا سنوات.
ما الرسالة التي تودين إرسالها من خلال عملك في هذا المجال؟
أعتقد أحيانًا أنه لا يوجد شيء قد أعدني حقًا لأن أصبح يومًا ما باحثة في هذا المجال. لم تكن اللغة العربية لغتي الأم أو لغتي الثانية أو الثالثة، ولم يكن الإسلام ديني وثقافتي. فقط عندما تواصلت مع الخط العربي والثقافة، بدأ كل شيء! البحث ليس بالأمر السهل أبدًا، وعندما تصبح الأمور صعبة، أعتقد دائمًا أنه نظرًا لكوني متحمسة، فسوف يمنحني ذلك الفرصة لأواصل شق طريقي.