لبنان الغني بالفواكه.. كيف أصبحت الحلوى الطبيعية حكرا على الأغنياء؟
بيروت – تحت أشعة الشمس الحارقة، تقف أم بلال مع حفيدها عند إحدى بسطات الخضار على ضفاف نهر أبو علي في طرابلس (شمالي لبنان). يشير الطفل بأنامله الطرية نحو حبات الكرز، ويشد بيده اليمنى عباءة جدته مرددًا “أريد منها، أريد منها”، فتهمس بأذنه بحزم “روق حبيبي، مرة ثانية، ليست لنا”.
يعقد الطفل حاجبيه أمام سحارات (صناديق) ملونة بفاكهة الصيف الشهية، ثم يحني رأسه، وتقول جدته للجزيرة نت إن ما في جيبها بالكاد يكفيها لشراء بعض حبات البطاطا، وتشكو بعينيها الدامعتين: “محرومون أكل الفواكه التي كانت تبلّل ظمأنا، فأسعارها تضاهي مدخولنا اليومي الزهيد، بعد أن كانت على امتداد سنوات بمنزلة حلوى أشتريها لأحفادي”.
مظاهر الإقبال
ووسط عشرات البسطات، يتزاحم الناس بحثا عن الأرخص ولو لم يكن طازجا، في مدينة يشمل الفقر المدقع أكثر من نصف سكانها، وتستشري فيها البطالة ومظاهر الإهمال وأحزمة البؤس.
ويصيح الباعة ترويجا لمنتوجاتهم الخضراء التي يشترونها بالجملة من المزارعين فجر كل يوم. وفي كيس أسود، يضع بتأنٍّ تاجر الخضار بلال بكور حبات المشمش كأنها على ميزان للذهب، يرفع حبة كبيرة ويضع أصغر منها، حتى تصيب بدقة رقم 500 غرام، بناء على طلب أحد الزبائن الذي يتحسر قائلا “الله يرحم الأيام التي كنت أشتري فيها من كل صنف فواكه أكثر من 3 كيلوغرامات لأولادي من دون السؤال عن ثمنها”.
ويعمل بكور في مصلحته منذ نحو 15 عاما، ويقول للجزيرة إن الفواكه تأتيهم من المزارعين بأسعار باهظة، وما زالت برأيه توازي قيمتها بالدولار قبل أزمة انهيار العملة الوطنية، لكن ثمنها بالليرة ارتفع عشرات الأضعاف، كأنها عملية إضافة أصفار. مثلا، “كيلو المشمش كان بنحو 1500 ليرة، ثمنه اليوم أكثر من 30 ألفا، وكيلو العنب كان بألفي ليرة، أصبح أكثر من 40 ألفا”، وفق قوله.
ثروة الفواكه
تاريخيا، يشتهر لبنان في فصل الصيف بازدهار حصاد الفواكه الطبيعية، نظرا لمناخه وطبيعة أرضه المناسبين لزرعها. ويرى كثيرون أن أصناف فواكه لبنان تشتهر بطعمها المميز، حتى إن بعض الدول تنتظر موسميا استيرادها منه، كما يتنافس المزارعون في الأراضي الزراعية والجبال لدى طرح محصولهم بالأسواق، ويرى بعضهم أن ما تنتجه أرضه من فواكه وخضار يصعب العثور عليها عند أي كان.
وتعدّ الفواكه الغنية بالمعادن والفيتامينات والألياف طبقا رئيسا على موائد الأسر اللبنانية، نظرا للذتها وأسعارها التي كانت بمتناول مختلف الطبقات الاجتماعية، إضافة إلى كونها بديلا طبيعيا عن الحلوى المصنعة المملوءة بالسكريات.
ولكن مع تداعيات الانهيار الاقتصادي منذ خريف 2019، تشهد سوق الفواكه في لبنان اضطرابات على مستوى الأسعار، بلغت ذروتها في الموسم الحالي، إذ تطرح في الأسواق بأسعار باهظة جدا، وأدى ذلك إلى تحولات كبيرة في نمط شراء اللبنانيين لها، كمًّا ونوعا، ويتحدث الباعة عن إحجام ملموس لغير المقتدرين ماديا عن شراء الفواكه.
أسباب وتداعيات
وعلى مدار 3 سنوات، خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار، وتشهد السوق النقدية تقلبات حادة صعودا وهبوطا، إذ يبلغ حاليا سعر صرف الدولار بالسوق السوداء التي تتحكم بالقيمة الفعلية للعملة نحو 29 ألف ليرة، أما قبل الأزمة فكان اللبنانيون يرتكزون إلى سعر الصرف الثابت الرسمي البالغ 1507 ليرات للدولار.
وإذا كانت تقلبات سعر الصرف تؤثر على أسعار السلع وتدمر قدرة اللبنانيين الشرائية في بلد يستورد أكثر من 90% من حاجاته، يتساءل كثيرون عن أسباب الارتفاع الكبير بأسعار الفواكه التي يزرعها لبنان.
يربط مدير الثورة الزراعية في وزارة الزراعة اللبنانية محمد أبو زيد أسباب ارتفاع أسعار أصناف الفواكه إلى نسب ترواح بين 300 و1000% بعوامل عديدة أبرزها:
- ارتباط إنتاج المحصول الزراعي بسعر صرف الدولار لأن كل المستلزمات الزراعية والأسمدة الكيماوية يستوردها المزارعون اللبنانيون من الخارج.
- ارتفاع تكاليف النقل والشحن والري والصيانة، بسبب الارتفاع الكبير بأسعار المحروقات التي يستوردها لبنان بالدولار النقدي بعد رفع الدعم عنها.
- ارتفاع كلفة اليد العاملة بالأراضي الزراعية.
- ضعف الرقابة على التسعير خصوصا أن الاقتصاد اللبناني حر وليس موجها، ويفتش المزارعون عن مصادر للدخل بالدولار النقدي، وفي طليعتها التصدير.
بالأرقام.. فواكه لبنان
يزرع لبنان الفواكه في أراضيه على امتداد مساحة إجمالية تبلغ 133.934 هكتارا وتبلغ كمياتها الإجمالية 944.182 طنا سنويا، وفق أرقام اطلعت الجزيرة نت عليها عبر مديرة الدراسات والتنسيق في وزارة الزراعة هلا عبد الله، وتنقسم كالآتي:
الفواكه الاستوائية، مثل الموز والأفوكادو والتين، تشغل زراعتها في لبنان مساحة نحو 6006 هكتارات، وتنتج البلاد منها نحو 75.003 طنا.
الحمضيات، مثل الليمون والبومالي والكلمنتين والعنب وغيرها، تشغل زراعتها مساحة 21.171 هكتارا، والإنتاج منها نحو 309.928 أطنان.
التفاحيات، مثل التفاح والإجاص والدراق وغيرها، تشغل زراعتها مساحة 33.408 هكتارا، ويبلغ إنتاجها نحو 399.472 طنا.
اللوزيات، تشغل زراعتها مساحة 73.295 هكتارا، ويبلغ إنتاجها نحو 149.507 طنا.
فاكهة الكيوي والتوت، تشغل زراعتها مساحة 52 هكتارا، والإنتاج منها 134 طنا فقط.
واستنادا إلى البيانات الجمركية اللبنانية، فإن إجمالي صادرات لبنان الزراعية كان يبلغ سابقا نحو 530 ألف طن سنويا، ثم تراجعت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى نحو 280 ألفا، بسبب الأزمات والقيود الاقتصادية والمصرفية والحدودية والسياسية. وكانت الصادرات الزراعية سابقا توفر للبنان سنويا نحو 500 مليون دولار، والخليج وحده يستورد بقيمة نحو 250 مليونا.
وتقول مديرة الدراسات إن الفواكه أصبحت من الأصناف غير المتوفرة لجميع اللبنانيين بسبب ارتفاع أسعارها، وذلك أدى -في رأيها- إلى تقنين كبير في عمليات الشراء في موسم الصيف. وتدعو هلا عبد الله المزارعين لإعادة النظر في طريقة عملهم، “لأن معظمهم اكتسبوا الزراعة بالوراثة عن أجدادهم في الجرود، ولا يعتمدون على معايير علمية بالزراعة، تكون كفيلة بتحسين مستوى الإنتاج ونوعيته بكلفة أقل ومدروسة”.
وتتحدث هلا عبد الله عن لجنة انبثقت قبل نحو شهرين بين وزارتي الزراعة والاقتصاد لمراقبة تسعير الخضار والفواكه، “لكنها مهمة صعبة جدا لعدم توفر كل الإمكانات البشرية واللوجستية للتشدد بالرقابة”، حسب تعبيرها.
آثار تحولات النمط الغذائي
عمليا، تعدّ التحولات الطارئة على نمط استهلاك الفواكه مثلا في لبنان من أوجه التجليات الكثيرة للأزمة التي كرّست فجوة كبيرة بين طبقات المجتمع اللبناني بعدما شمل الفقر نحو 80% من السكان، وفق تقديرات أممية. وهكذا استغنى اللبنانيون عن أنماط غذائية كثيرة، وصارت معظم الحاجات الرئيسة حكرا على المقتدرين ماديا بسبب غلاء أسعارها.
وهنا، ترى أديبة حمدان، أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، أن المواطن اللبناني أصبح يعتمد نظام الأولويات في نمط استهلاكه الذي بلغ درجة التقنين الشديد، مقابل غياب الدولة عن تحمل مسؤولياتها رقابيا ورعائيا.
وتجد الباحثة أن التحولات في نمط غذاء اللبنانيين باستغنائهم عن حاجات رئيسة يؤثر على صحتهم الجسدية وكذلك النفسية نتيجة شعورهم بالعجز عن توفير حاجات كان شراؤها بديهيا بمتناول الجميع وإن بدرجات متفاوتة.
وقالت حمدان للجزيرة نت إن معظم اللبنانيين أصبحوا يدخلون الأسواق والمتاجر للشراء حسب السعر وليس حسب النوعية. وهم، برأيها، يقفون أمام خيارات قاسية تدفعهم إلى البحث عن مخارج أو السكوت والتهرب على سبيل الدفاعات النفسية اعتقادا منهم أن الأزمة قد تزول قريبا أو يتكيفون معها كخيار وحيد.
وتذكر الباحثة أن الأزمة الاقتصادية عمّقت الهوة الاجتماعية بين الطبقات الغنية والفقيرة، وسحقت الطبقة الوسطى، “وذلك دفع شرائح واسعة من اللبنانيين إلى طلب العون والمساعدة توفيرا لأبسط حاجاتهم الغذائية والسكنية والتعليمية”.
وتدعو الباحثة لعدم الاستخفاف بالتحولات الجوهرية التي تطرأ على نمط عيش اللبنانيين وغذائهم، إذ إن الحرمان قد يتحول في أي لحظة إلى فوضى عارمة، “لأن غياب الخدمات والرعاية والدعم جعل المال الكثير الوسيلة الوحيدة التي تمكن اللبناني من توفير الغذاء والسكن والتعليم والصحة مقابل فقدان شعوره بالانتماء للدولة”.