القاهرة – لم تكن رحلة الحج قديما بتلك السهولة التي نراها الآن، فقد كان حجاج بيت الله الحرام يقطعون المسافات الطويلة ويجوبون الصحراء والوديان سيرا على الأقدام، أو على أظهر الدواب حتى يبلغوا بيت الله الحرام ويؤدون مناسك الحج، ثم يقطعون تلك الرحلة ومشاقها مرة أخرى عائدين لبلادهم.
وأولى الأمراء والسلاطين في مصر “طريق الحج” الكثير من اهتماماتهم، من حيث التعبيد والتأمين وبناء الحصون وتوفير السقيا، وعمارة درب الحج المصري بـ”شبه جزيرة سيناء”، خلال مراحل التاريخ المختلفة، كالسلاطين الفاطميين والمماليك والعثمانيين وأسرة محمد علي باشا.
وبلغ اهتمامهم أقصاه مع خروج كسوة الكعبة المشرفة للمرور بهذا الدرب بمرافقة الحجاج كل عام منذ عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حتى توقف ورودها من مصر في العصر الحديث.
وقسّم الرّحالة “درب الحج المصري” إلى مراحل ومحطات كان الحجاج يمرون بها، تبدأ من “بركة الحج” شمال القاهرة، إلى السويس، والدار الحمراء، ومن عجرود إلى نخل إلى إيلة ثم إلى العقبة، في سيناء، وهي نفس المناطق التي يمر بها الحجاج الآن الذين يستخدمون الطريق البري.
البداية من الأندلس
ولمعرفة الدروب التي كانت تطرقها قوافل الحج منذ فجر الإسلام، بداية من بلاد الأندلس والمغرب الأقصى والأوسط والأدنى مرورا بمصر ووصول إلى الحرمين الشريفين، يأتي لقاء الجزيرة نت مع الدكتور سامي صالح عبد المالك البياضي المدير بالمجلس الأعلى للآثار، ورئيس البعثة العاملة على طريق الحج من 1993 وحتى الآن، بما له من اكتشافات أثرية ومؤلفات قيمة حول درب الحج المصري.
يقول البياضي إن طريق الحج المغاربي المصري بروافده وفروعه ينقسم إلى قسمين رئيسين، الأول يبدأ من المدن الكبرى في الأندلس وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، وصولا إلى مصر في المكان الذي تتجمع فيه القوافل؛ حيث بركة “الجب” شمال شرق القاهرة التي أصبحت تعرف باسم “بركة الحاج” لنزول الحجاج فيها قبل انطلاق القافلة برفقة المحمل وقافلة الحج.
ويضيف أن هذا الطريق له مساران رئيسيان، أحدهما بحري يبدأ من موانئ سواحل الأندلس وشمال أفريقيا حتى الوصول إلى سواحل مصر خاصة ميناء الإسكندرية، ومن بعدها قناة السويس بعد شقها وافتتاحها سنة 1286هـ/1869م.
والآخر بري له مساران؛ ساحلي وصحراوي داخلي عبر الواحات، ولهما روافد وفروع تسير فيها عدة ركاب رسمية، كـ”ركب الحاج الصالحي”، والفاسي، والسجلماسي، والمراكشي، والولاتي، والشنقيطي، والبحري، والجزائري، والتونسي، والطرابلسي.
فطريق الحج في بلاد الأندلس وشمال أفريقيا له عدة روافد وفروع، فمن الأندلس نجد القوافل تنطلق من المدن والقرى الصغيرة إلى المدن الكبيرة كقرطبة وطليطلة وإشبيلية، ومنها إلى مدن الموانئ الساحلية الجنوبية حيث تنطلق القوافل، إما من البحر حتى الإسكندرية، ثم تستكمل رحلتها برا، أو عبر النيل إلى القاهرة، ومنها برا مع قافلة الحج المصري، أو قد تكون عبر البحر إلى موانئ شمال أفريقيا ومنها برا على طريق الساحل حتى الإسكندرية أو القاهرة.
تنبكتو وغدامس
ووفق الدكتور سامي البياضي، فإنه من أفريقيا يأتي المسار الفرعي القادم من نواكشوط المعروفة ببلاد شنقيط إلى الرباط بالمغرب، وهذا المسار نقطة رئيسة لتجميع بقية مدن وبلاد غرب أفريقيا، ولعل من أهم روافده وفروعه من غرب ووسط أفريقيا مدينة تنبكتو بمالي، ومنها إلى عين صالح بالجزائر، ومنها إلى مدينة القيروان أو واحة غدامس، ويلتقي بطريق الساحل سواء في القيروان أو طرابلس.
وهناك فرع من مدينة جاو، شمال شرق مالي، ومنها إلى تادمكيا، وهي مدينة تاريخية تابعة لولاية كيدال أقصى شمال مالي بالقرب من الحدود الجزائرية، حيث يتفرع الطريق إلى 3 أفرع غربا إلى عين صالح، ومنها للقيروان فطريق الساحل، وشمالا واحة غدامس ومنها لطرابلس، حيث طريق الساحل، وشرقا “غات”، ومنها إلى “أوجله”، حيث طريق الساحل المؤدي إلى الإسكندرية أو واحة جغبوب الليبية، ومنها إلى واحة سيوة فوادي النيل وصولا إلى القاهرة.
حجاج وسط وغرب أفريقيا
ويقول البياضي للجزيرة نت “ننتقل هنا إلى حجاج وسط وغرب أفريقيا لنتعرف على القيمة التاريخية والجغرافية لدرب الحج المصري، حيث المسار المعروف بطريق السافانا (طريق مداري شمال أو جنوب خط الاستواء، يشمل السودان، وتشاد، والنيجر، ومالي، وبعض مناطق موريتانيا، والسنغال، وغينيا، وغينيا بيساو، وغامبيا وبنين)، وهو قاطع لوسط أفريقيا ويؤدي إلى ميناء سواكن على البحر الأحمر، ويبدأ من جنى أو جنينة التي تقع بالمنطقة الوسطى لجمهورية مالي، ومنه فروع تلتقي بطريق الساحل الشمالي المار بشمال أفريقيا، حيث يبدأ من مدينة سوكوتو، أقصى شمال غرب نيجيريا، إلى غات التي تقع في الصحراء الليبية الغربية، ومن مدينة برنو في نيجيريا، إلى الطريق الواصل بين غات وأوجله المدينة الليبية جنوب بنغازي”.
وتلتقي بعد ذلك هذه الفروع بطريق الساحل المؤدي إلى الإسكندرية والقاهرة؛ كما نجد فرعا آخر للقادم من غرب السودان عبر “درب الأربعين” من مدينة كوبي (مدينة مندثرة شمالي دارفور)؛ حتى صعيد مصر، حيث مدينة أسيوط على نهر النيل، ومنها عبر البر أو النيل جنوبا إلى ميناء عيذاب، أو شمالا إلى القاهرة، حيث يلتقي في بركة الحاج، ومنها إلى الحرمين الشريفين.
الصليبيون يقطعون طريق الحج
وخلال الفترة المبكرة من الفتح الإسلامي لمصر حتى أواخر العصر الفاطمي نجد أن الطريق البري كان يمر عبر وسط سيناء، وتوقف مع وصول الفرنجة “الصليبين” إلى “أيلة” (العقبة) على رأس خليج العقبة في عام 510هـ/1116م.
كما أن غالبية المنشآت التي تم تشييدها على طريق “الحج المصري” خلال هذه العصور الإسلامية المبكرة كانت جلها مائية كالآبار والسدود وبرك حفظ المياه، ودينية كالمساجد والجوامع، وعدد من المدن الحصينة، مثل مدينة القلزم، ومدينة “أيلة” الحصينة التي تم اكتشافها مؤخرا، ومدينة الحوراء، ومدينة وميناء الجار، كما أنشئ خلال هذه المدة أول خان لراحة الحجاج والمسافرين والتجار في العشيرة على الساحل المقابل لمدينة ينبع النخل، ذكره الرحّالة المقدسي (ت 380هـ/990م) وهو أقدم الخانات ذكرا حتى الآن.
أما خلال العصر الأيوبي فبسبب وجود الفرنجة في بلاد الشام، وامتداد حدود مملكة القدس حتى مدينة “أيلة” (العقبة)، فقد انتقل طريق الحاج البري من سيناء إلى جنوب مصر عبر وادي النيل؛ حيث “قوص” و”قفط” و”أسوان”؛ ومنها عبر صحراء مصر الشرقية إلى ميناء “عيذاب” المناظر لميناء جدة على الساحل الحجازي الشرقي.
ويواصل الدكتور سامي البياضي في حديثه للجزيرة نت حول درب الحج المصري قائلا “في عصر دولة المماليك، أمر السلطان الظاهر بيبرس البندقداري بصناعة كسوة للمحمل وكسوة ومفتاح للكعبة المشرفة، وأمر بسير المحمل عبر طريق البر في صحراء سيناء، وشهد الطريق أعمال إعمار لمنشآت الطريق من خلال مشروعين معماريين كبيرين، أولهما كان في أواسط دولة المماليك بعهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، حيث تم تشييد عدة خانات ومنشآت مائية في منطقة العلائي وسط القريض، وبرك لحفظ المياه، والمشروع الثاني في أواخر عصر دولة المماليك وهو العمارة التي تمت في عهد السلطان الأشرف قانصوه الغوري”.
وأضاف “في العصر العثماني تمت توسعة بعض الأبراج التي شيدت في عصر دولة المماليك من أجل تأهيلها لتكون قلاعا وخانات في الوقت نفسه كالقلعة الخان في نخل”.
وختم البياضي حديثه حول جهود “أسرة محمد علي باشا” واهتمامها بعمارة طريق الحج والمحمل المصري، فتم بناء قصر في الدار الحمراء في عهد والي مصر عباس الأول، وتم تعمير وترميم القلاع الحجازية وبرك المياه والآبار خاصة في مدن “عجرود، ونخل، والعقبة، والمويلح، وضبا، والوجه”.